فيولا فهمي
تحقيق: فيولا فهمي – خاص الأقباط متحدون
الإقتراب من أصحاب الأزمة والوقوف داخل دائرة المعاناة دائماً ما يكشف النقاب عن الوجه الإنساني لتلك الأزمات دون ضبابية، ومع اتساع دائرة إنتشار فيروس أنفلونزا الخنازير وزحف المرض العنيد إلى دول جديدة وحالة التأهب القصوى التي يعيشها العالم، يعيش أيضاً سكان زرايب وحظائر تربية الخنازير في مصر حالة من التأهب والإستعداد المشوب بالحذر ولكن بإختلاف الدوافع، فأمر انتشار فيروس المرض لا يعنيهم كثيراً بقدر خوفهم من انتشار فيروس البطالة الذي يحلق فوق رؤوسهم كلما اقتربت القرارات الرسمية من حيز التنفيذ، فنسبـة ثقتهم بالوعود الحكومية تقترب من الصفر، بينما تصل حالة القلق والتوجس إلى مراحلها القصوى.
ولذلك اقتربت "الأقباط متحدون" من العمق وقضت يوم كامل في واحدة من أهم وأشهر بؤر تربية الخنازير في مصر، وهي "زرايب عزبة النخل والخصوص" والتي تضم ما يزيد عن 550 حظيرة بها ما يقرب من 85 ألف رأس حيوان على مساحة 35 ألف فدان، ويعيش بالمنطقة أكثر من 45 ألف نسمة، وتكفل المنطقة لأبناءها جميعاً فرص للعمل بدءاً من الأطفال ذوي الخمس سنوات وحتى الشيوخ، مروراً بالنساء والشباب الذين لا يجيدون سوى مهنة جمع وإعادة تدوير القمامة وتربية الخنازير.
نقطة الإنطلاق
البداية كانت الساعة الثالثة ظهراً في محطة عزبة النخل بمترو الأنفاق، شارع متعرج وغير ممهد طويل تصطف على جانبيه عربات النقل الجماعي "النصف نقل" وعربات "التوك توك" وتحيطه الفوضى والعشوائية من كل مكان، لتصل وسائل المواصلات الشعبية -بعد رحلة شاقة داخل الشوارع الجانبية مدتها الزمنية 30 دقيقة- إلى أقرب نقطة للإنطلاق نحو منطقة الزرايب التي تقبع في نهاية طريق ترابي ضيق كثير الإنحناءات يكسو جنباته الأحجار والقمامة والقباب الرملية، ليجعل السير على الأقدام لمدة 20 دقيقة قدر لا مفر منه..
تعرف أن قدماك قد وطأت منطقة الزرايب من رائحتها الزاكمة للأنوف بسبب مخلفات القمامة وروث الخنازير، ليستقبلك عند مدخل المنطقة وجوه طفولية ملطخة بالبقع الطينية تخالط الخنازير دون تحصينات، ونساء جالسات على أعتاب المنازل ترشق الغرباء بنظرات تغمرها التساؤلات والشكوك، لأنها تحفظ سكان المنطقة "اسماً وشكلاً" عن ظهر قلب وتميز وجوه الغرباء بجدارة.
ولأن الصورة الذهنية لديهم عن وسائل الإعلام غالباً ما تكون سلبية ومقرونة بمصطلحات الفبركة والتهويل ويرونها أحد الأسباب الرئيسية لجلب الخراب على بيوتهم بعد أزمة أنفلونزا الخنازير، فكان لا بد من الإستعانة بإحدى الشخصيات المعروفة لسكان منطقة الزرايب التي تحوز على ثقتهم للحديث إلينا دون حواجز الحذر، فكان الأستاذ صبحي عبد المسيح جيد (أحد نشطاء المجتمع المدني الفاعلين في منطقة عزبة النخل والخصوص) هوالوسيط بيننا والسكان الذين تدهشك فور الإصغاء إليهم متابعتهم الدقيقة لتصريحات المسئولين وتطورات الأحداث، فتجد من يجيد القراءة منهم تعلم من تجربة الأزمة أن يأتي كل يوم بالصحف لمحاولة قراءة ملامح مستقبله بين سطورها، ومن لا يجيد القراءة يرتكن ليلاً ونهاراً بجانب الراديو ليتابع أحدث التطورات.
مقاومة بهدف التعويض
الحديث مع الرجال والنساء والشيوخ في المنطقة لا يخلو من الإيحاءات الطائفية وإرجاع قرار الذبح إلى رغبة الدولة في إبادة الخنازير وتطبيق الشريعة الإسلامية التي تحرّم أكل لحم الخنزير وتعتبره نجاسة نظراً لأن استهلاك لحوم الخنازير قاصراً على المسيحيين في مصر، إلا أن معظمهم غير ممانع لتنفيذ القرار لأن دخول الفيروس القاتل يمثل خطورة على حياتهم هم أساساً نظراً لمخالطتهم الخنازير، ولكن الإعتراض على القرار الرئاسي بذبح الخنازير –حسبما قال أحد الشباب العاملين بمنطقة الزرايب– جاء من فقدان الثقة في تعويض الحكومة لأصحاب الزرايب والعاملين في تربية الخنازير، إلى جانب الإعتراض على نقل مقالب القمامة التي أصبحت مصدر الرزق الوحيد لسكان الزرايب، من خلال فرز القمامة وبيع محتوياتها لمصانع الورق والزجاج والبلاستيك وغيرها، وخاصة أن الثقة في صحة الوعود الحكومية معدوة نظراً لتضارب أرقام التعويضات مقابل ذبح الخنازير والتي أعلنت عنها الصحف والتي بدأت من 1000 جنيه ثم هبطت إلى 500 جنيه ثم 300 جنيه إلى أن وصلت إلى 50 و30 جنيهاً على رأس الحيوان، وهو ما يتسبب في خسائر باهظة للمربين وأصحاب حظائر الخنازير.
وقال رشاد –أحد العاملين في الزرايب- أن بعض المربين اتفقوا على تحديد مبلغ قدره 300 جنيه للخنزير "الحيوان كبير الحجم على الصغير دون تفرقة" على أن يكون الدفع نقدي وفوري ورفض استلام إيصالات بالدفع المؤجل –إذا ذبحت السلطات جميع الخنازير في المجازر الحكومية- لأن معنى هذا هو الدمار الشامل لسكان الزرايب، أو استبدال الخنازير بما يعادلها من المواشي لتربيتها، وذلك بالرغم أن تربية الخنازير مربحة أكثر نظراً لقدرتها –يقصد الخنازير- على هضم جميع المواد العضوية بالقمامة ولا تتطلب أعلافاً معينة مثل المواشي، إلى جانب أن دورة تكاثر الخنازير أسرع لأنها تلد كل 4 أشهر أي بمعدل 3 مرات سنوياً وفي كل واحدة تلد من 5 إلى 12 خنزير، بعكس دورة تكاثر الحيوانات الأخرى.
وطالبت "أم مينا" –إحدى العاملات في الزرايب– الحكومة بمنح مهلة زمنية لتنفيذ قرار الذبح بحيث يكون بحد أقصى 4 أشهر لذبح جميع الخنازير بمعرفة العاملين بالزرايب لعدم إهدار رأس مال العاملين بهذا القطاع، محذرة من عواقب تلك الأزمة على انتشار البطالة والجرائم بين شباب المنطقة بعد فقدان فرص العمل ومصادر الرزق.
بينما هاجمت بعض نساء المنطقة القرارات التي اتخذتها "مدرسة المحبة" ومنعت على أثرها تلاميذ منطقة الزرايب من الإختلاط بالتلاميذ الآخرين منعاً من انتشار الفيروس بين الأطفال، بالرغم من عدم إرسال قوافل صحية تابعة لوزارة الصحة للكشف عن الأطفال المخالطين للخنازير.
قرارات الوقاية لم تُنفذ
ومن جانبه اعترض صبحي عبد المسيح (رئيس مجلس إدارة جمعية أبناء حورس لحماية البيئة بعزبة النخل) على قرار ذبح جميع الخنازير لأنه منافياً لحقوق الحيوان، إلى جانب أن القرار لن يحصن مصر من دخول الفيروس، منتقداً تجاهل وزارة الصحة المتكرر لمطلب تحصين الزرايب حالياً أو من قبل ضد فيروس الكبد الوبائى "B" المنتشر في منطقة الزرايب على سبيل المثال.
وأكد عبد المسيح أن الدول الأجنبية التي ظهر بها الفيروس لم تذبح جميع الخنازير –كما حدث بمصر- ولكنها قامت بإعدام الحيوانات المصابة فقط وتربية الخنازير خارج الكتل السكانية، موضحاً أن هذا القرار سوف يعمل على إبادة فصيلة نادرة من الخنازير –التي تربى بمصر- وإهدار الثروة الحيوانية الناتجة من لحوم الخنازير، فضلاً عن فقدان بعض العقاقير الطبية المستخرجة من دهن الخنازير مثل "الإنسولين"، مشيراً إلى أن مناطق الزرايب وتربية الخنازير تعتبر خالية من البطالة لأن جميع سكانها -من الاطفال والشباب والنساء والعجائز- يعملون في جمع ونقل وتدوير القمامة وتربية الخنازير.
وأدان صبحي عبد المسيح عدم تنفيذ القرار رقم 338 لسنة 2008 بشأن تخصيص 238 فدان في منطقة 15 مايو بمحافظة حلوان لنقل حظائر الخنازير وطردها خارج الكتل السكانية، وذلك بسبب اعتراض النائب البرلماني مصطفى بكري على نقل حظائر الخنازير إلى دائرته الإنتخابية لأسباب ذات أبعاد عقائدية وطائفية "على حد تعبيره".
غادرنا المكان وعقارب الساعة تتجه نحو العاشرة ليلاً، وسط أجواء سادها الظلام وخيم عليها الهدوء الممزوج بالبؤس لم يشق سكونها سوى أصوات نباح الكلاب، لتدرك في النهاية على أثر المعايشة من المتضررين، أن للأزمات والكوارث وجوهٍ كثيرة.
http://www.copts-united.com/article.php?A=2514&I=69