د. مينا ملاك عازر
بقلم: مينا ملاك عازر
فقدت "مصر" ووزارة الاستثمار رجلاً من أشجع الرجال، من أصدق الرجال، من أنبل الرجال، الدكتور "محمود محيي الدين"، بانتقاله لمنصبه البنكي الجديد في البنك الدولي كمدير له. فهو حقًا رجل محترم. قد أكون اختلفت معه في طريقته في معالجته لمسألة الوزير "المغربي"، وسكوته عن تبرئته لزميله من تهمة الانتفاع من وراء منصبه ببيعه للمال العام، وترك القضية لمساعديه من رؤساء الشركات القابضة، لكنني أرى أن يكفي هذا الرجل أنه أوقف سيل البيع الذي غمر "مصر"، وكبح جماح الخصخصة، وما باعه من "مصر" كان بخطة مسبقة من حكومات سابقة، وبتوجه حزبي كان أقوى منه. فيكفي هذا الرجل أنه كان أول من اعترف بأنه قبل اعتلائه كرسي وزارة الاستثمار بـ(14) عامًا كتب معارضًا ضد فكر الخصخصة الذي اجتاح "مصر" وقتها، كما أنه وُصِف في الأوساط العالمية بأنه عازف ماهر على نغمة الإصلاح.
لا يكفي الوزير الدكتور "محمود محيي الدين" ما سبق فقط، بل يزيد عليه، كونه سليل عائلة "محيي الدين"- العائلة الثورية تاريخيًا- والتي منها العملاق "خالد محيي الدين" الذي اختلف معه هو الآخر في بعض الأحيان، لكن أقدّره في تأييده للدعوة إلى حياة ديموقراطية كانت قد تبنتها الثورة في بواكيرها، ونستها ما أن وصل رجالها لسدة الحكم. غير أن "خالد" صمّم عليها حتى كّلفه ذلك كرسيه. وهو أول من دعى مع اللواء "نجيب"- رحمه الله- بعودة الضباط الأحرار إلى ثكنات الجيش، وهو الأمر الذي لو كان حدث، لما وصل بنا الحال لما نحن عليه.
ويكفي "خالد محيي الدين" فخرًا إنه أول عربي معارض يتخلى عن كرسيه كرئيس لحزب التجمع طواعية لخليفته العملاق الآخر الدكتور "رفعت السعيد". وأسس ورسّخ في نفوس شباب حزبه الديموقراطية وتداول السلطات، وهو أمر أشهد به ولمسته في أصدقائي المنتمين لحزب التجمُّع، حتى صار لديهم الجراءة أن يعارضوا حتى رؤسائهم، وهو أمر نادر في بلادنا. كما إنها ذات العائلة التي حوت بين جنباتها "زكريا محيي الدين" الضابط الحر وعضو مجلس الثورة، مثله في ذلك مثل "خالد محيي الدين". ويكفي "زكريا" إنه كان رئيس وزراء "مصر" في فترة صارت من أحلك فتراتها، حيث إنه كان المنوط به السفر للتفاوض مع الأمريكيين قُبيل النكسة مباشرةً؛ إذ كان مقررًا سفره في 7/6/1967 لولا حدوث النكسة، وهو الذي قدّمه "ناصر" كبديل له ليعتلي سدة الرئاسة في "مصر" على إثر إدعاء "ناصر" التنحي.
كما أن هذه العائلة حوت رئيسًا لوزراء "مصر" أسبق، ألا وهو المرحوم "فؤاد محيي الدين". ومن المدهش أن الشاب الطالب حينها "محمود محيي الدين" كان معارضًا لقريبه، وخرج في مظاهرات منددة به وبسياساته، وأخذوه في أمن الدولة وسالوه وسألوا عمه "فؤاد" وأخرجوه. والعجيب إنه لم يُعلم عليه بل عاد لـ"مصر" بعد أن أخذ الدكتوراه من جامعة ووريك ليشغل منصب مستشار الوزير "يوسف بطرس غالي"، ثم تخلى عنه وكأنها عادة عنده التخلي عن المناصب ليترأس اللجنة الإقتصادية بالحزب الوطني. ولا ننسى أن من ضمن العائلة والده الدكتور "صفوت محيي الدين" الذي علمه كيف يستقيل، وإن الاستقالة يجب أن تبقى في جيبه، ما دام في منصب عام؛ ليتقدم بها متى لزم الأمر.
ونعود للدكتور "محمود" المحمود على تركه منصبه الوزاري، الذي قد يطول بقائه فيه إلى أكثر من ثلاث سنوات لينتقل لمنصب آخر قد لا يستمر فيه أكثر من ثلاث سنوات. دعك من المكاسب المالية التي قد تعود عليه والصيت الذي سيكسبه، لكنه آثر التخلي عن منصب وزاري قد يؤدي به إلى منصب أعلى، أو إلى الشارع بمنصب يستقر فيه لثلاث سنوات، يعمل بعقله بمزاج، باحترافية، بإدارية نفتقدها في بلادنا؛ ولذا أنا أحييه لحسن اختياره وفطنته، ويكفيه شرفًا إنه وصل لمنصب مدير البنك الدولي بناءًا على ترشيح من رئيس البنك نفسه "روبرت زولك"، مما يعني اقتناع رجال الإقتصاد العالميين بإمكانياته وعقليته. ولما لا وهو الرجل الذي أجهد الأمريكيين في التفاوض حول ملف المساعدات الإضافية المقدمة لـ"مصر".
والآن، والوزير يغادر ويلملم أوراقه من مكتبه، لا يعنيني إلا أن أقول له من كل قلبي: مع السلامة، وربنا يستر علينا من القادم. فقد عرفناك، اختلفنا معك، واتفقنا معك ولكن نحترمك. كما إننا لا نعرف من هو آت؟ هل هو من المهادنين والذين يريدون أن يعيشوا وتُباع "مصر"؟ أم من أمثالك الذين لهم رأي، ورؤية؟ فالذين لهم رأي ورؤية صاروا قلة في هذه البلد، وصاروا مضطهدين من مديريهم ورؤسائهم. لكنك كنت نعم المرؤوس، ونعم صاحب الرأي. ولكن لا تنسى إنني اختلفت معك كثيرًا، وكلامي المادح لك حق علينا، كما كان حق علينا أن ننتقدك متى أخطأت.
وأخيرًا يا دكتور "محمود محيي الدين"، يا من غيرت لقبك من وزير البيع إلى وزير الصعيد. قد تعود لـ"مصر" يومًا ما رئيسًا للوزراء، أو قد تعود مثل الدكتور "البرادعي" باحثًا عن الكرسي الكبير. وكل حلم منهما يحق لك أن تحلمه. لكن أخشى عليك من زبانية السلطة الذين قد يهاجمونك من لحظة وطأ قدمك البنك الدولي إذا ما اختلفت مصلحة "مصر" مع مصلحة ممولي البنك، وبالتالي فقد يتدهور مركزك بين إخوانك المصريين..لكن على كل حال، كلنا أمل أن "مصر" يمثلها رجل مثلك في المحافل الدولية، ناهينا من مصيرك حال عودتك لـ"مصر".
http://www.copts-united.com/article.php?A=22726&I=568