"كاميليا زاخر" الإنسانة

راندا الحمامصى

بقلم: راندا الحمامصي 
المجتمع المتحضّر هو الذي يدرك قيمة الإنسان ويعمل على رفعته، ويحترم إنسانيته وآدميته، ويُعززه، لا أن ينظر إليه وكأنه عبد أو أقل من إنسان.
 
إن حرية الاعتقاد هى حق كل إنسان، والله تعالى كفل هذا الحق لكل إنسان في حريته، في المعتقد الذي من خلاله يعبد الله ربه، وبالطريقة التى يجد فيها قناعاته الروحانية. وحرية الاعتقاد واختيار الدين نصّت عليها كل المواثيق الدولية  وأقرّتها، سواء كان هذا ضمنيًا أو صراحةًً، وإنه حق لكل إنسان. 
 
هنا لست للدفاع عن معتقد بعينه، بل دفاعًا عن حرية إنسانة في اختيار معتقدها، والذي يتراءى لها وتجد فيه راحتها وقناعاتها، دفاعًا عن سيدة لم ترتكب إثمًا أو ذنبًا، بل كل ما قامت به هو تغيير دينها من دينٍ إلى آخر، وجدت فيه إيمانها وقناعاتها. وأيًا كان- سواء تحولها من المسيحية إلى الإسلام أو العكس- فإنني أرى حريتها الكاملة في ذلك، وعلى كل إنسان احترام اختيارها؛ لأنها وحدها التي سوف تُحاسب على معتقدها وإيماانها لا أي إنسان أخر بديل عنها. 
 
لقد خلق الله الإنسان عزيزًا حرًا عاليًا، وكان أشرف المخلوقات، وسخّر له ما أقرّ بحقه وإنسانيته من المواثيق الدولية والتى "مصر" من موقعيها، والتي تقر حرية الاعتقاد،  فكان ضمنًا أيضًا حرية تغيير الدين والمعتقد.
 
وكما نعرف ونرى فإن تغيير الدين لا يسيء إلى من خرج من دينه ولا ينتقصه، وكذلك لا يوقّر أو يزيد من الدين الآخر، فالإيمان علاقة شخصية بحتة بين الإنسان وخالقه. ولكننا نُقيم الدنيا ونثير الفتن الطائفية، وتُهدر دماء الأرواح، وتُحرق البيوت، ونخلق بكل ذلك الكراهية بين البشر والأديان المختلفة. ونحن لا ندري أن الأديان جميعها من إله واحد وربّ واحد،  وجاءت من أجل رقي الإنسان وعلوه، وخلق المدنية الإلهية على الأرض، لا من أجل العداء بين الأديان بل من أجل وحدتها ورفعة الإنسان وحفظ مكانته وشأنه.
 
فمنذ أكثر من خمسين عامًا، نادى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- بجرأة- بالمساواة التامة بين كُلّ أفراد العائلةِ الإنسانيةِ، وأوضح أن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ. وتضمنت تلك الرؤية المرشدة للمساواةِ للكُلّ، حق كُلّ إنسان في حريةِ الفكر والضمير الوجداني والدين، ووصفتها بأنها حقوق أساسية لا مراء فيها. ولكن وعلى الرغم مِنْ تبنّي المجتمع الدولي بالإجماع لهذا الإعلان،ِ وتصنيفه ضمن مواد القانون الدولي وقنوات تشريعه، إلا أن العالمُ لازال يشهد استمرار الإصرار على التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد. كما يشهد انتشار مظاهر العنف باسم الدين، بل والتلاعب بالدين لمصلحة الأيديولوجية السياسية، وتزايد التوترات بين الدين وسياسات الدولة. 
 
لقد غذّى تصاعد تيار التطرف الديني هذه التطورات، مهددًا الأمن والتنمية البشرية في الكثير من الدول، وكذلك الجهود المبذولة من أجل السلام.
إن الإنتهاكات واسعة النطاق لهذا الحق التي غالبًا ما تستهدف النساء والأقليات مستمرة في إضطراد. إن حقوق الإنسان التي نصّ عليها الإعلان العالمي لا تتجزأ، كما أن لها طبيعة تداخلية، ويعتمد كل بند منها على الآخر. وهكذا فإن انتهاكات بند حرية العقيدة والفكر قد انتقصت من ضمن ما انتقصت من حقوق، الحق في التعليم، والعمل، والتجمع السلمي، والمواطنة، والمشاركة السياسية، والصحة. بل وأحيانًا الحق في الحياة ذاته. إن الوفاء بوعد حرية الدين والمعتقد للجميع دون تمييز، ما زال يشكل أكثر الحقوقِ الإنسانية إلحاحًا في عصرنا، كما إنه يظل الحق الأكثر إثارة للغط والنزاع.
 
إن كفالة حرية المعتقد كما يترآى لضمير الفرد، وحرية تغيير المعتقد وفقا لذات القاعدة، أمر جوهري في مسألة التطور الإنساني. فهو بمثابة الطريق في رحلة الإنسان للبحث عن المعنى. فالرغبةِ في المعرفة والتعرف على ذواتنا كبشر هو بالتحديد ما يُميّزُ الضميرَ الإنسانيَ. ونحن نثني على تقريرِ الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة 2004 الذي حمل عنوانًا ذا أهمية بالغة ألا وهو: "الحريَّة الثقافية في عالمِ اليومِ المتنوّعِ"،  والذي يعترف للمرّة الأولى في تاريخ تقارير برنامج التنمية البشرية (التي بدأ إصدارها منذ خمسة عشر سَنَةِ) بالحريَّة الثقافية، بوصفها "جزء حيوي في عملية التنمية البشرية". وأَكّدَ التقرير على "عمق الأهمية التي يمثلها الدينِ لهويات الشعوب. 
 
إن تركيز التقرير على حرية العقيدة والدين إنما جاء في وقته تمامًا. فقد أعاد هذا التقرير الأهمية البالغة لكل من التنمية البشرية والأمن – وقد صارتا في قلب اهتمامات الأسرة الدولية - تركيز المجتمع الدولي على مفاهيم حرية الإنسان.
اتفقت دول العالم في كل من إعلان الألفية للأمم المتحدة ووثيقة أهداف الألفية للتنمية الذي تبع الإعلان، على تعريف الحرية على إنها "قيمة جوهرية أساسية للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين". وبالمثل جاء التقرير العربي للتنمية لعام 2002 (وهوجهد رائد من قبل العلماء العرب) بتعريف الحرية بإنها "الهدف والضمان في آن" للتنمية البشرية وحقوق الإنسان بوصفها الشرط المبدئي للتنمية في المنطقة. 
وفي إطار التحضير لعملية التقويم الشامل في الاجتماع رفيع المستوى للجمعية العمومية للأمم المتحدة، أكد السكرتير العام في تقريرين محوريين موجهين للجمعية العمومية، على العلاقة الحرجة بين التنمية والأمن وحرية الانسان. فمن غير الممكن وجود تنمية دون توفر الأمن، كما إنه لا يمكن أن يكون هناك أمن بغياب فرص التنمية. ويتوجب على كليهما أن يعتمدا على ركيزة صلبة من حماية لحقوق الإنسان،  وكفالة الحريات للجميع.
 
لقد أرسى تقرير التنمية البشرية، الأرضية لمرحلة جديدة، تتيح إعادة النظر في دور حرية الفكر والوجدان والدين في مجال التنمية البشرية على نحو جاد. وهو توجّه يقوم في الأساس على ترسيخ الاعتراف بهيبة الكرامة الإنسانية والضمير الحر لبني البشر، مستردًا معيار المساواة العالمي الذي حدّده الإعلان العالمي لحقوق الانسان. 
 
الحق في تغيير الدين أو المعتقد
عرّف تقرير التنمية البشرية الحرية الثقافية بإنها: "قدرة الناس على العيش وفقًا لما يختار الإنسان أن يكون عليه وجوده مع إتاحة الفرص لاعتبار خيارات أخرى" لكن التقرير يركّز في المقام الأول على الاستثناء الثقافي والاستبعاد، مستندًا على المظاهر الخارجية لدين المرء أو معتقده، في حين أهمل في نقاشه لهذا التعريف البعد الجوهري للاستبعاد الثقافي- ألا وهو الحق الداخلي الخاص في تغيير المرء لمعتقده أو دينه.
 إن الإعلان العالمي لحقوق الانسان، في المادة (18)، يؤكد صراحة على أنه: "لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، والحرية، إمّا وحده أو في جماعة ومع آخرين، علانية أو على نحو خاص، والحق في إظهار دينه أو معتقده من خلال الإفصاح والدعوة والممارسة والعبادة والإلتزام بما يمليه عليه هذا المعتقد أو الدين."
 
إن حق الإنسان في تغيير دينه أو معتقده حق غير قابل للتقييد،  هو حق مكفول دون قيد أو شرط، وفي أي وقت من الأوقات، ولا يخضع لأي منظم حكومي. فالحماية الخاصة الممنوحة وفقًا لهذا الحق، إنما تعكس مكانته في منظومة صون كرامة الانسان. وبالتاكيد فإن رحلة بحث المرء عن الحقيقة والمعنى لهي النشاط الأوثق ارتباطًا بالضمير الإنساني، وبرغبة الإنسان في رؤية العالم من خلال عينيه هو لا أعين الآخرين، وفهمه وفقًا لما تمليه عليه مداركه وذكاؤه وفطرته، وهي بذلك مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بكل مناحي تطور البشر.
 
فقد حدّدت لجنة حقوق الإنسان حرية الفرد في تغيير دينه أو معتقده، والإجهار بذلك، وعدم الإكراه في أمور الدين، وعدم التمييز على أساس من الدين كمكون جوهري لهذا الحق، كما هو منصوص عليه في الإعلان العالمي. وجنبًا إلى جنب تشريعات الأمم المتحدة خلال الخمسة عشر سنة الماضية،  تولدت عن الاجتماعات الدولية والتجمعات العالمية ما يربو من الإلتزام العالمي لتعزيز وتذكية احترام حرية الديانة والمعتقد.
 إن حكومات العالم بوصفها موقِّّعة على الإعلان العالمي والمعاهدات اللاحقة وما يواكبها، مطالبة بتحمل المسئولية الأولية لإنشاء وصيانة وتعزيز الظروف اللازمة؛ من أجل التمتع بحرية الضمير والديانة والمعتقد لمواطنيها جميعهم.
 
إن مسئولية دعم المبادئ العالمية لحرية الدين أو المعتقد، لا تقع فقط على الدول بل على القيادات الدينية في كل مكان أيضًا. وفي عالم ضاق بالعنف والصراع باسم الدين، تقع على عاتق القادة الدينيين مسئولية توجيه أتباعهم نحو التعايش السلمي والتفاهم المتبادل مع أصحاب التفكير والمعتقد الآخر. 
 
إنا كثيرًا ما نجد أن من يتصرفون باسم الدين، هم أنفسهم من ينفخون في نار الكراهية والبغضاء والتعصب، جاعلين من أنفسهم العقبة الأكبر في طريق السلام. ولكن وعلى الرغم من تلك الحقائق المؤلمة، فنحن نشهد بحقيقة أن ديانات العالم وأبعادها الإيمانية التي تتبناها الغالبية العظمى من سكان الأرض، ما زالت تغيث العالم وترشده في هذه الأوقات العصيبة، مثلما كانت قد فاضت بإرثها الروحي والأخلاقي والحضاري من قبل على الإنسانية. والواقع أن الأديان وَصلتْ إلى جذورِ الدافع الإنساني لتسمو بنا فوق المفاهيم المادية البحتة؛ لاعتناق مفاهيم العدالة، والمصالحة، والمحبة، ونكران الذات في خدمة المصلحة المشتركة للجميع.
 
ونظرًا لأهمية الثقافة والدين في تشكيل السلوك والدوافع، يصبح من الواضح أن الآليات القانونية وحدها لن تؤدي إلى الالتزام والتفاهم المتبادل اللازم للحفاظ على ثقافة التعايش السلمي.
 إن دور قادة الأديان كشركاء- قولاً وفعلاً- في خلق ثقافة احترام كرامة الانسان وحرية الضمير والدين أو المعتقد، هو دور لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه بأي حال. 
تشكّل قوى التاريخ الآن تحديًا لكل شخص مؤمن لتعريف المبادئ الروحية التي تخصه، من خلال كتاباته المقدسة وتقاليده التي تزوده بالإجابة على الأسئلة الصعبة التي يطرحها عصرنا هذا، التواق إلى الوحدة والعدالة في الشئون الإنسانية.
 في هذا الجهد المشترك، المستند على فهم معاني الكرامة المتأصلة في كل كائن إنساني واحترام عقله وضميره، يتوجب على قادة الأديان أَنْ يؤازروا الطبيعةَ المقدّسةَ للضمير الإنساني، ويمنحوا موافقتهم دون تحفظ لكل فرد في حرية البحث عن الحقيقة.
أرى إنه حق كل فرد في أن يؤمن أو لا يؤمن، في أن يعتقد في شيء أو لا يعتقد، في أن يعتنق عقيدة مغايرة للعقيدة السائدة، أو معارضة لها.
 
السيدة "كاميليا" لها مُطلق الحرية في اعتناقها وليس عليها حظر، فهى إنسانة قبل كل شيء، وعلينا جميعًا أن نُدرك ونعي ذلك. من هنا أناشد المجتمع المصري الرشيد بإطلاق السيدة "كاميليا" للحياة كما تود، طالما إنها لا تسيء ولا تتعدى على حق أحد. وأن نعي هذا تمامًا، وتعي الجهات المسئولة في أن مسئولياتها هى إعطاء السيدة "كاميليا" كامل حريتها في اعتناقها. فهى إنسانة والله تعالى خلق الإنسان عزيزًا وليس ذليلًا لآخر، خلقه عاليًا فلا يجعلها دانية في نظر الآخرين ويتصرف معها بتصرف لا إنساني.
 
الخالق سوف يحاسبها هى على إيمانها من عدمه، ولن يُحاسب أحدٍ آخر على هدايتها أو كفرها كما يُسمي. اتركوها لحال سبيلها والله موجود وهو كفيل بعباده أجمعين، وليس العباد هم الكافلين بأعمال العباد.