بقلم: طارق حجي
(1) لا شك أن احراق الكتب هو عمل همجي ، وتزداد الهمجية عندما تكون الكتب محل هذا العمل الشائن موضع تقديس وتجلة البعض (كثر هؤلاء او قلوا ) ... ولا شك عندي ان القس الأمريكي الذى كان يهم بحرق القرآن فى ولاية فلوريدا الأمريكية هو رجل صيغ من مادتين بشعتين هما التعصب الأعمي والحماقة المنفلتة من عقال العقل والرشد . ولكن ذلك الرجل البشع ومشروعه الأخرق لا يجب ان يثنيانا عن رؤية المناخ العام الذى كانت هذه الفعلة الشائنة على وشك الحدوث فى ظله .
ولا يعني ذلك تبرير هذا الفعل المعتوه والمشرب بالجنون والتعصب وضيق الأفق والكراهية . فيجب علينا أن نري بوضوح ان هذا الرجل كان على وشك القيام بعمل بالغ الرداءة كالذى قامت به حكومة طالبان الإسلامية فى أفغانستان منذ نحو عشر سنوات عندما داست على مشاعر ملايين من البشر بإطلاقها دانات المدافع على تمثالين لبوذا حتى تم دمار التمثالين . ويجب ان نتذكر ان قليل من المسلمين قد أدانوا يومها تلك الجريمة الحمقاء . ويجب ايضا ان نتذكر بل وان نعي ان العالم لم ينقلب على المسلمين ، بل ان افعال وتوجهات وسلوك واقوال ونوايا بعض المسلمين هى التى تقلب العالم ضدنا . كثير من المسلمين لا يرون جريمة 11 سبتمبر / أيلول 2001 بحجمها الحقيقي.
وقليلون هم الذين يصدقون ان القاعدة هى الفاعل ، وكثيرون يرددون (بجهل أسطوري عجيب ) ان فاعل تلك الجريمة هو من داخل النظام السياسي والأمني الأمريكي ، وملايين المهاجرين المسلمين فى اوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا يعطون الإنطباع شبه المؤكد أنهم عازمون على أسلمة المجتمعات التى هاجروا اليها ... وكثيرة هى وسائل الإعلام والتثقيف (!!) فى مجتمعاتنا التى تصور الغرب بأنه أضحي منغمسا بالكلية فى مؤامرة ضد الإسلام - وهو عبث محض .
وما أكثر لجهلاء فى مجتمعاتنا الذين لا يفرقون بين تدين البعض فى الغرب وعلمانية مجتمعات هذا الغرب . ولاشك عندي ان وسائل الإعلام وجل طبقة الإنتلجنسيا فى مجتمعاتنا ستضرب الصفح عن مواقف نبيلة للأغلبية من رجال الدين اليهود والمسيحيين فى الغرب الذين أدانوا بقوة الحماقة التى كان ذلك القس الشائه فى فلوريدا على وشك إقترافه ، فمعظمنا أصحاب عقلية إنتقائية تختار من بين الأشياء الحادثة ما تحب أن تراه ، وتستبعد ما لا يوافق أهواءها ، كما فعل معظمنا عندما ناصرت أمريكا مسلمي البوسنة ، على خلاف المواقف الأوروبية (الروس مع الصرب الأرثوئوكس وفرنسا مع الكروات الكاثوليك ) التى حكمتها عقد تاريخية .
(2) منذ أيام سمعت عالم مصري يشيد يالمستوايات التعليمية العالية للغاية فى مصر الخمسينات والستينيات ، ويرجع الفضل لتلك الحقبة وقادتها وعلى رأسهم "جمال عبد الناصر" . وهو قول ساذج للغاية . فأنا كإبن لهذه المرحلة (إذ حصلت على الشهادات الإبتدائية والإعدادية والثانوية والليسانس أي الشهادة الجامعية الأولي ) غبا رئاسة جمال عبد الناصر ، أعرف أن مستويات التعليم بمصر كانت وقتها على أرفع المستويات ، بل وبعض أبناء جيلي تذهلهم المستويات التعليمية والثقافية لمن هم فى أعمارنا من الأوروبيين والأمريكيين . ولكن تلك المستويات هى نتيجة طبيعية لمعدن وسبيكة ومستويات مدرسينا وأساتذتنا والذين هم (جميعا) من ثمار وتجليات ما قبل حقبة العسكر . هؤلاء كانوا نتاج وثمار عهد كان وزراء التعليم (المعارف) خلاله على شاكلة منصور باشا فهمي ومحمد حسين هيكل باشا وطه باشا حسين . أما التعليم فى عهد جمال عبدالناصر فكان بيد عسكري شبه أمي ومعدوم الثقافة وإخواني النزعة (وأعني كمال الدين حسين) . وكما كان التعليم المصري رفيع المستوي فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين ‘ فكذلك كانت الحياة الثقافية الحركة الأدبية والمسرح والفنون والسينيما .
ولكن بسبب ذات العامل ، وأعني العنصر الرفيع لأجيال تشكلت وتكونت فى ظل الحقبة الليبرالية وقبل قيام العسكر (أنصاف المتعلمين) بخطف مصر يوم الأربعاء 23 يوليو / تموز 1952 . أما المدرسون والأساتذة الذين تكونوا فى الحقبة الناصرية ، فانهم المسؤلون عن الأوضاع التعليميى المتردية فى مصر اليوم ، ويقال ذات الشيء على المثفقين : فكما ان طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وسلامة موسي وسهير القلماوي ولطيفة الزيات ونجيب محفوظ ويوسف ادريس ولويس عوض ومجدي وهبة ومحمد مندور وجل المثقفين المصريين الماركسيين (جيل محمد سيد أحمد) هم أناس تكونوا فى بيئة ما قبل إنقلاب العسكر (غير المثقفين) ، فإن المثقفين الذين تكونوا فى مصر - عبدالناصر هم المثقفون المصريون أصحاب القامات المتوسطة والقصيرة الذين يقفون اليوم فى حالة عجز عن التصدي للوحشين الكبيرين الذين تقف مصر اليوم بينهما : وحش الاستبداد السياسي الذى أفرز الفساد والزواج المشبوه بين السلطة والثروة ، ووحش الأفكار الظلامية التى تحاول ان تجهز على روح مصر وتسحبها لما قبل القرون الوسطي ...
(3) الإئتلاف والتحالف مع الإسلاميين (بل ومع غلاة التطرف منهم) كان منتجا ذا منبعين : فهو من منتجات حقبة الحرب الباردة ، إذ إستعمل الإسلاميين ضد الإتحاد السوفيتي وضد نظم إشتراكية (أو تبدو كذلك) مثل النظام المصري فى خمسينيات وستينيات القرن الماضي (حرب السعودية المدعومة أمريكيا مع مصر المدعومة سوفيتيا على أرض اليمن) . وكان شعار المرحلة (فى هذا الشأن) أن (عدو عدوي هو حليف لي) . ونظرا لأن الإسلام السياسي كان (بتفاهة وسطحية منقطعي النظير) عدوا للمعسكر الإشتراكي ، فقد وجدته الولايات المتحدة (بغباء تاريخي منقطع النظير) "نعم الحليف" ضد الإتحاد السوفيتي وأنسباءه ! وأما المنبع الثاني لهذا الإئتلاف فقد كان أمريكي - سعودي المصدر . وهذا المنهج (المفتقد كلية للثقافة وللحس التاريخي) هو نهج مخابرتي بريطاني منذ أوائل القرن العشرين .
فقد كانت الأغلبية فى المخابرات البريطانية (إم . آي . 6 ) تعمل مع عبدالعزيز آل سعود (المندمج آنذاك مع إخوان نجد ذوي الهوس الديني) لكي يمد نفوذه ويسيطر على معظم الجزيرة العربية ، بل وحارب معه فى بعض معاركه صباط بريطانيون ‘ بل ومات بعضهم وهو يحارب ضمن قوات عبدالعزيز آل سعود . ونفس المخابرات (البريطانية) هى التى ساعدت حسن البنا على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين فى مصر سنة 1928 أي بعد سنة واحدة من وفاة قائد وزعيم الحركة الوطنية المصرية سعد زغلول الذى رأت بريطانيا والملك فؤاد ضرورة تأسيس حركة الإخوان فى محاولة منهما لسرقة الشارع المصري (بإسم الإسلام) من الوفد المصري الذى فقد زعيمه منذ عام واحد. ومعروف ان الأب الروحي لحسن البنا هو السوري المتزمت محمد رشيد رضا (صاحب تفسير المنار) والذى كان وصلة الصلة بين حسن البنا وعبدالعزيز آل سعود والذى كان قد أصبح (بعون الإنجليز) ومنذ ثلاث سنوات فقط (1925) ملك الحجاز وسلطان نجد ... وحتى اليوم ، لم تعترف الولايات المتحدة بخطئها وخطيئتها التى جعلت العالم الذى نعبشه اليوم عالما خطرا ، وأحيانا كثيرة "عالما كريها" ...
نقلا عن الحوار المتمدن
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=22583&I=563