د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: ماجد إسرائيل
لما كانت صــحراء وادي النـــــــطرون تحيط بـوادي النيل، حيث تتدفق مياهه وتنتشر في فـــرع رشيد، فــقد أغـرى ذلك البدو أو كثيرًا منــهم على النــــــزول إلى الأراضي الزراعية حيث الرزق الوفيــر والحياة السهلة، وقد لانت طبائعــهم الغليظة في الأرض الــــــطيبة. وانتهى الأمــــــــر إلى هــجرة بعضهم والانتشـــار بقـــــرى وادي النطرون الواقعة على نفس الــــفرع من النيل، وانتقلوا بشكل تدريجي من حالة البداوة إلى مجتمع الزراعة المستقر.
وبالرغم من ذلك، فـــقد ظلت بعــــض القبائل البدوية تصــر على حــــــــياة الصــــحراء، وتسكن الخيام؛ نظرًا لأن تقاليدها تــــحرّم السـكن تحت أسقف الــبيوت وزرع الأشجار، اعتقادًا منها بأن الذين يخضــــعون لهذا العادات سيخضعون سريعًا لحكام يستعبدونهم.
على أية حـال، أطلق العديد من الباحثين والكتاب والمؤرخين مصطلحات متعددة عند تناول دراسة البـدو، فيـقول "ابن خلدون" في هذا الإطار: "إن العرب أشد بداوة من غيرهم من الأمم البدوية؛ لقيام بداوتهم على رعى الإبل فقط. وهـؤلاء يُعرفون باسم "الإبالة" أي رعاة الإبل، بينما أطلق عليهم "صلاح الفوال" "الشاوية" أي أصحاب الشـاء ورعاتها. كما عُرفوا بأصحاب "التايات"، أي رعاة البقر والجاموس. وبـ"البربر" نتيجة لاختلاط القبائل العربية التي هاجرت من شبة جزيرة العرب، مع القبائل التي هاجرت من شمال إفريقيا. وبـ"الأعراب"، وبـ"عربان الصحراء". وأطلقت عليهم الوثائق بشتى أنواعها اسم "الأشقياء" أو "العربان".
ــ أهم قبائل البدو بوادي النطرون
ونظرًا لأهمية دورهم، يجدر بنا أن نشير لأشهرها وأهمها في الوادي في ذلك القرن فمنها:
- قبيلة الهنادي: وهي احدى فروع "بني سليم" و"بني سلام". وكان مجيئها من "طرابلس الغرب" في القرن الثامن عشر. واستقرت في صحراء "مصر" الغربية بساحل "مريوط"، وفى وادي النطرون بلغ عددها نحو مائة وعشرين نسمة، واستقر جزء منها في الشرقية. وهم من البدو الرُّحل الذين لا يعرف أبناؤهم الزراعة أو التجارة، بل يعيشون على الرعي والسلب والنهب، وكانت من أقوى قبائل "العربان" بالوادي.
- قبيلة "أولاد علي": وهي من أكبر القبائل العربية الرحَّالة في "مــصر"، وجــاءت من "طرابلس الغرب" بعد "بني سلام" في الـــقرن الثامن عـــشر، وانقسمت إلى قسمين، أقام القسم الأكبر منها في "البحيرة"، بمركز
"أبو المطامير"، و"الدلنجات"، و"إيتاي البارود"، و"أبو حمص" و"وادي النطرون". وتقاسمت هناك النفوذ مع قبيلة "الهنادي"، وهناك قسم آخر من القبيلة سكن في "الشرقية"، وقد بلغ عددها (1344) نسمة، وكان منها أربعة وعشرين شيخًا.
- قبيلة "بني عونة": وهي من قبائل "السلالمة" أو "بني سلامة"، وقد جاءت إلى "مصر" من "طرابلس الغرب" في أواخر القرن الثامن عشر. وبلغ عددها ثلاثمائة فارس، واتخذت من وادي النطرون مركزًا لها.
- قبيلة "الجوابي": وقد استقرت في البحيرة في إقليم "مريوط"، و"وادي النطرون". وأحيانًا كان يُطلق على أفرادها "الجوابيص". وكانت تمثل جماعة صغيرة من الرعاة، تتجول بحثًا عن المراعي اللازمة لإمداد قطعانها بالغذاء، وتذهب كل عام من الوادي إلى الصعيد حاملةً معها النطرون مقابل ثمن محدود، ويذهب من يتجر من أفرادها إلى الواحات لشراء البلح الطازج أو المجفف لبيعه بعد ذلك لصغار التجار في "القاهرة"، وهي قبيلة مسالمة لا تشهر السلاح إلا للدفاع عن النفس، وبلغ عددها نحو ألفي رجل، وتُعد من أكثر القبائل حفاظًا على العادات والتقاليد القديمة.
- قبيلة "الحرابي": وهي فرع من "العقاقرة" من قبائل "سليم" التي وفدت إلى "مصر" من "طرابلس" في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وانقسمت إلى خمسة فروع هي: "العبيدات"، و"الحاسة"، و"الدرسة"، و"الفوايد"، و"البراعصة". واستقرت بـ"البحيرة" في وادي النطرون، و"الفيوم"...
- قبيلة "السمالو": وهي بطن من بني عجلان، تُنتسب إلى عرب "الحجاز"، وأحيانًا يُطلق على أفرادها "السمالوس". وهي من القبائل الرُحّل، يعيش أفرادها في خيام، واستقروا بنواحي بحيرات "وادي النطرون"، وكانوا يقومون بنقل ملح النطرون مع عرب "الجميعات" إلى "الطرانة". واستقر الجزء الأكبر منهم في إقليم "الفيوم"، وكانوا يعيشون في حرب مع قبائل "الضعفا" و"الفرجان".
- قبائل "الجميعات": وتتفرع عن قبائل "سليم" الوافدة من شمال غرب إفريقيا في القرن الثامن عشر الميلادي، واستقر بعضها في "البحيرة" في "وادي النطرون"، وأقام الفرع الآخر في "بني سويف".
ـــ اعتداءات "العربان" على أديرة "وادي النطرون"
تعتبر مشكلة اعتداءات العربان على أديرة "وادي النطرون" من المشكلات القديمة التي يعود تاريخها إلى أوائل القرن الخامس الميلادي. ويرجع ذلك إلى الطبيعة الصحراوية القاسية، وحياة البداوة وعدم الاستقرار، والترحال والتجوال للبحث عن قوت يومهم؛ لأنه لم يكن لديهم مصدر ثابت للعيش، مما جعلهم في حالة حرب مستمرة لقيامهم بأعمال السلب والنهب والتخريب. ومنذ ذلك القرن وحتى أواخر القرن التاسع عشر، لم يكفوا عن غاراتهم المفاجئة لأديرة الوادي ورهبانه، فأنزلوا بهم الكثير من الظلم نتيجة للعنف الذي كانوا يستعملونه معهم، حتى إن بعض الرهبان كانوا يفرون إلى المغارات والشقوق عند اقترابهم، تاركين وراءهم كل شيء، مما ترتب عليه خراب كثير من الأديرة التي كانت منتشرة بالوادي.
وقد تعرّضت أديرة "وادي النطرون" لسلسلة من الغارات، كان أشدها ما بين عامي (407-1069م)، وكان يصاحب هذه الاعتداءات عمليات سلب ونهب وقتل وأسر للرهبان لمدة تطول أو تقصر، ولكن عقب كل غارة كان الرهبان يعودون فيتجمعون في البرية من جديد، ليعيدوا بناء ما قد تخرّب، وجمع شتات تلاميذ الرهبنة.
ونتيجة لاعتداءات "العربان"، تناقصت أعداد أديرة وادي النطرون، فبعد أن كانت نحو خمسين ديرًا منذ القرن الخامس الميلادي، أصبحت نحو عشر أديرة فقط عند مجيء الفرنسيين إلى "مصر" سنة 1798م. واندثرت منها ستة أديرة، ولم يبق سوى أربعة عامرة – على نحو ما رأينا – خلال فترة الدراسة.
على أية حال، لم تسلم هذه الأديرة من أيدي "العربان" المغيرين، ومن ذلك تعرُّض دير البراموس في أوائل القرن التاسع عشر لهجماتهم، فأعملوا السلب والنهب والقتل بين نساكه، وحل الخراب كالمعتاد؛ فهرب أغلب الرهبان وتشتتوا في جميع أنحاء البرية، ولم يتبق إلا راهب واحد يدعى "عوض الإبراهيمي". وبعد فترة ليست بقصيرة عاود "العربان" الاعتداء على نفس الدير مرة ثانية، ولكن باءت محاولتهم بالفشل؛ لأن الدير كان محصنًا جيدًا من قبل الراهب الكفيف.
وكان هجوم "العربان" على أديرة وادي النطرون لا ينقطع، خاصةً إذا ما ترامي إلى علمهم انتعاش الأديرة وازدهارها، فكانوا يعيدون الكرة والانقضاض على الأديرة ورهبانها، وسلب ونهب ما بها. مثلما تعرّض دير الأنبا "بيشوي" لهجوم من جانب مجموعة من "العربان" انتهى باستيلائهم على ما يمتلكه الدير من أدوات ومؤن غذائية. وكذلك تعرُّض دير الأنبا "مقار" لاعتداءات من عربان الوادي و"الواحات" و"الفيوم"، فنهبوا ما فيه من متاع وزاد، وجردوا من فيه مما عليهم بالقوة.
وزادت اعتداءات العربان على أديرة الوادي في موسم اقتلاع النطرون، حيث كانوا يجتمعون ويسكنون حول بحيرات النطرون، وتعددت قبائلهم، فكان منهم الجميعات والجوابيص والحرابي وغيرهم، فأتاحت لهم الفرصة الإقامة إلى جوار الرهبان، مما أدى إلى اعتداءاتهم على أديرتهم من أجل أعمال السلب والنهب.
ولجأ بعض العربان خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الاعتداء على القوافل والمترددين على الأديرة والعاملين فيها، ومن ذلك اعتداء بعض العربان على قافلة متجهة إلى دير السريان، قادمة من عزبة الدير بـ"أتريس" بـ"الجيزة" وسلبهم ما بها من بلاطة لفرن الدير ومؤن غذائية للرهبان. كما اعتدى آخرون من العربان على مجموعة من المترددين على الأديرة، وجردوهم من أموالهم وملابسهم، وعلى صراف عزبة دير السريان ونهبوا ما معه من أموال.
وخلاصة القول:إأنه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قلّت الاعتداءات على أديرة وادي النطرون، وما حدث منها فهي حالات تكاد تكون فردية، فربما يرجع ذلك إلى سياسة "محمد على" التي اتبعها خلال القرن التاسع عشر نحو نشر الأمن وتوطين البدو بالبلاد، مما حدَّ من هذه الاعتداءات. وقد استمرت هذه الحال حتى نهاية القرن التاسع عشر.
أما فيما يتعلق بموقف رهبان أديرة وادي النطرون من اعتداءات العربان، فقد عملوا على تحصين الدير أمامهم، بتعليته وترميم أسواره، ومراقبتها من غرفة الرقوابة (غرفة المراقبة)، أو ضرب الناقوس ضربًا مختلفًا كإشارات دالة على أن هناك خطرًا من غارات للعربان أو قطاع الطرق واللصوص الفرادى وعابري السبيل، فكان الناقوس لغة مفهومة من طرف واحد وهو الرهبان.
كما لجأ رهبان وادي النطرون إلى العربان أنفسهم لحراستهم في مقابل تقديم واجب الضيافة؛ لأن العربان كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان ليلاً، ويمرون بالأديرة أثناء جولاتهم، ويتوقفون ليتناولوا طعامهم، ولكي يستريحوا ويريحوا خيولهم. وكانوا يقدمون إليهم واجب الضيافة من وراء الجدران، فلا يفتحون الأبواب ليلاً، وقد اضطروا إلى ذلك حتى لا يتعرضون لاعتداءاتهم خارج الأديرة نهبًا أو سـلبًا أو قــــتلاً.
ومع هذا، فقد اعتمد رهبان أديرة وادي النطرون على بعض العربان في تأدية بعض الخدمات التي قد تعرضهم للاعتداء بالسلب أو النهب. وكان من ذلك لجوء رهبان دير الأنبا "بيشوي" إلى "على صالح" و"الحوفي الحجاوي" لرعي مواشي الدير بالوادي، كذلك اعتمد دير السريان على "منصور عامر"، و"عامر شريعة" في صحبة قوافل المؤن ما بين عزبة الدير بـ"أتريس" والدير الذي بالوادي.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن تلك الاعتداءات كان يتخللها بعض العلاقات الحميمة بين الرهبان والعربان، فعلى سبيل المثال حدث صراع بين اثنين من العلمانيين ممن هم تحت الاختبار للرهبنة بديري السريان والأنبا بشوي، وصل خبره إلى حاكم "الطرانة"، فتدخل أحد العربان لديه ووعده بإنهاء النزاع والصلح فيما بينهما، فحكم على كليهما بغرامة خمسة قروش تُدفع لدى الحاكم، ووافق الطرفان على حكم الأعرابي. وعندما وشى أحد الرهبان للبابا "كيرلس الخامس" باستيلاء القمص "يوحنا" على أموال الدير، قام عربان وادي النطرون بكتابة شهادة موقعة من مجموعة منهم، تشهد بحسن سير وسلوك والتزام هذا؛ لإزالة شك البطريرك.
كما اعتمدت أديرة وادي النطرون على العربان في عملية النقل، مثل نقل بعض مواد البناء والمؤن من عزب الأديرة بـ"أتربيس" بـ"الجيزة"، و"كـــفر الدوار" بـ"البحيرة"، ونقل الرهبان والزائرين بواسطة الإبل ودواب الحمل من الأديرة إلى "الطرانة" لوجود مرسى للنيل بها؛ حتى يتسنى لهم الانتقــــال إلى "القاهرة" أو "الإسكندرية" أو "رشيد"، كذلك إمدادهم بالعمالة في بعض الأشغال المؤقتة بالدير أو الدائمة بعزب الأديرة. وكل ذلك كان لا يمكن أن يتم إلا في جو تسوده العلاقات الحميمة بين الرهبان والعربان.
ــ الأب "متي المسكين" وعلاقات الحب مع بدو "وادي النطرون"
واصل الأب "متي المسكين" علاقات الحب والعطف مع بدو "وادي النطرون"، وتمثل ذلك في تلبية مطالبهم واحتباجتهم. ومثال ذلك: جاء ذات يوم بعض مشايخ عربان قرية "بنس سلامة" المجاورة لحدود دير أنبا "مقار"، وطلبوا مساعدتهم في توسيع مدرسة "بني سلامة" الإبتدائية فصلين للدراسة، فطلب مهلة للرد علي طلبهم. فاجتمع مع الرهبان وعرض عليهم هذا الأمر، وقال لهم: ماذا تتصورون أن تكون احتياجات قريتكم من الفصول للمدرسة بعد عشرون عامًا؟ فتعجبوا وقالوا: عشرة فصول للإبتدائى والإعدادي بدلاً من سفر الأولاد بالسيارات لمدراس "وادي النطران". فأمر الأب "متي المسكين" ببناء مدرسة للقرية تكون متكاملة في شتي النواحي من حجرات متعددة للدراسة ودورات للمياة ومكتبة وملاعب متنوعة للمارسة الطلاب هوايتهم. ورفض أن يطلق عليها مدرسة دير "أنبا مقار"، وأصر علي تسميتها مدرسة "بني سلامة الإعدادية المشتركة"، وحضر محافظ "البحيرة" "محمد عادل إلهامي" افتتحها، كما ساهم في ترميم مدرسة ومسجد، وبناء دار للمناسبات.
وظل الأب "متي المسكين" يواصل عطائه للبدو، فبعد تأسيس استراحة الدير في الساحل الشمالي علي البحر المتوسط (الكيلو 70 غرب الإسكندرية)، أصدر أوامره بتقديم أي طلب للبدو سواء كان طلب غذاء أو دواء أو توصيل مريض بعربة الدير لمستشفي الإسكندرية، لدرجة أن وصل الأمر إلي علاجه ورعايته على نفقة الدير.
ومن الطريف إنه حدث ذات مرة أن واحدًا من العرب اسمه"محمود" لدغه ثعبان وانتفخ، فأرسله الأب "متي المسكين" مع أحد الرهبان إلي المستشفي بسرعة، ولأنهم ذاقوا محبة الرهبان وأمناتهم، قالوا للأب الراهب: "إذا مات محمود في الطريق لا تخف، أعده إلينا وليس عليك أية مسئولية". وقد تم علاجه وعاد سليمًا. ولما كان بعض الرهبان يذهبون للقرية لقضاء بعض المناسبات، فكان بعض الأعراب يقولون لـ"محمود" تعال سلم علي الرهبان؛ لأنك كنت ميتًا والرهبان أقاموك!.
وكان من نتائج علاقات الحب والمودة التي أقامها الأب "متي المسكين" مع شيوخ عرب "بني سلامة"، بأن شهد شيخ مسجد "بني سلامة" شهادة حق عندما أدَّعي أحد الأشخاص أن أرض الدير هي ملك آبائه وأجداده، وطالب يتسليمها له. فقال في شهادته:"أن هذا الشخص المدَّعي لا يعرفه أهل وادي النطرون ولا بني سلامة، ولا يعرفون له أي أقارب، ولا وجود لهم أصلاً بمنطقة بني سلامة والدير"؛ فحكم القاضي برفض الدعوي شكلاً وموضوعًا.
ويسبب هذه المحبة، أصبح العرب أصدقاء للرهبان. بل كانوا يشعرون بهيبتهم وتقواهم، لدرجة وصلت إلي أن أطلقوا علي الأب "متي المسكين" اسم"الشايب" علي الرغم إنهم لم يروه سوى مرة واحدة، وهذا كناية علي الاحترام والتبجيل.
وبهذا نستطيع أن نتلمس صورة العطاء والمحبة للأب "متي المسكين"، في كيفية التعامل مع الآخر، وهو ما تنادي بهي جميع المنتديات وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.
http://www.copts-united.com/article.php?A=22567&I=563