بقلم : د. وحيد عبد المجيد
الحرب علي الإبداع الأدبي والفني والفكري والعلمي بدعوي المحافظة علي ثوابت المجتمع أو أخلاقه أو عقيدته ليست جديدة. عمرها في تاريخنا الحديث من عمر هذا الإبداع تقريبا. وكم من أصحاب فكر وأدباء وفنانين تعرضوا للطعن. لم يكن هذا الطعن معنويا فقط وإنما جسدي أيضا في حالات أشهرها ما حدث لصاحب نوبل الراحل الكبير نجيب محفوظ علي يد شاب لا يعلم من أمر دينه ولا دنياه شيئا.
وها هي رائعته' أولاد حارتنا' التي حظر نشرها لعدة عقود في المكتبات الآن يقرأها الناس فلا يضلون ولا تزيغ أبصارهم أو يجف الإيمان من قلوبهم.
وكثيرة هي تفسيرات هذه الحرب التي تهدف إلي إرهاب المبدعين وكذلك المداخل التي تساعد في فهم مصادر سلوك الحانقين علي الإبداع. وكان للراحل الكبير إحسان عبد القدوس تفسير بديع للإرهاب الذي يستهدف الإبداع الأدبي بصفة خاصة. فالأدب وفق هذا التفسير هو مرآة المجتمع التي تظهر عيوبه ومشكلاته. ولكن بدلا من أن نعالج هذه العيوب يحاول البعض تحطيم المرآة.
وكان عبد القدوس أحد أكثر من تعرض لإرهاب من هذا النوع. ومع ذلك كان عصره الذي لا يبتعد كثيرا عن زمننا أكثر انفتاحا وأقل محافظة. ولم تكن محاربة الإبداع قد صارت حرفة يحترفها البعض لإرهاب المبدعين. كما لم تكن السطحية قد انتشرت في المجتمع الذي لم يعد قادرا علي التمييز بين الإبداع بما ينطوي عليه من خيال ومجاز ورمز من ناحية والتعبير المباشر عن رأي أو موقف من ناحية أخري. ولذلك يشيع الخلط بين حرية التعبير وحرية الإبداع في أوساط قانونية كما في دوائر إعلامية يفترض أن تكون أكثر عمقا وأوفر إدراكا.
وفي ظل هذه السطحية لا يبدو مثيرا للاستغراب أن يسأل إعلامي مشهور: لماذا لا نمنع قصيدة شعرية يظن أحدنا أنها تمس الذات الإلهية وأن نوقع بالشاعر أشد العقاب مادمنا قد طالبنا بمنع الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام عندما نشرتها صحيفة دانماركية!
ولا يخفي أن المنطق المتضمن في مثل هذا السؤال هو أحد الأساليب التي يعتمد عليها محاربو الإبداع لإرهاب كل من يدافع عن حرية المبدع ويري أن الحجر علي هذه الحرية تحديدا هو أحد أهم العوامل التي تؤدي إلي تكريس تبعيتنا للأجنبي الذي ينتج عقله العلم والمعرفة ويخترع بالتالي المنتجات المختلفة التي نقوم نحن باستهلاكها.
فالعقل الإنساني لا يتجزأ. ولا يمكن أن ينطلق بحرية لإبداع علم وتكنولوجيا وهو خائف مرعوب لوطأة القيود التي تكبله في مجال الإبداع الأدبي والفني والفكري. أما إذا كان هذا العقل عاجزا عن التمييز بين تعبير مجازي أو خيالي أو رمزي وآخر صريح أو مباشر فقل عليه وعلينا السلام لأن الفرق بين التعبيرين أكبر من أن نغفله وأكثر وضوحا من أن نعمي عنه. ولأن هذا الفرق كبير فمن الجائز حظر رسم كاريكاتوري يحمل معني مباشرا, وكأنه مقال رأي بينما لا يصح منع قصيدة أو رواية تقوم علي الخيال والمجاز.
وهذا هو الفرق بين حرية الرأي عبر كتابة مقال أو تقرير أو رسم كاريكاتوري يحمل رأيا أو موقفا صريحا وحرية الإبداع الروائي أو القصصي أو الشعري حيث يعتمد الكاتب علي المجاز الذي قد يجعل الخيال واقعا أو يربط الواقع بالخيال ويكون المعني فيه وراء الكلام المسطور.
ولذلك يختلف الرأي أو التعبير المباشر عن الإبداع مبني ومعني. فالتعبير عن الرأي أو الموقف يعتمد علي لغة الواقع حيث يتناول المعبر ما يراه أو يعتقده أو يؤمن به أو يعترض عليه أو يرفضه. أما في الإبداع فيستخدم المبدع لغة مجازية فيها خيال وترميز وينشئ عالما لا يشترط أن يكون واقعيا ولكن من الضروري أن يكون جميلا.
والتعبير عن الرأي يكون مباشرا في الأغلب. وعندما يكون هذا الرأي نقديا فربما يجرح أو يؤلم أو يؤدي إلي تشهير. ولكن يسهل عادة التمييز بين ما إذا كان هجوما موضوعيا يتوخي مصلحة عامة فيستحق الحماية ولا يحق عليه التأثيم أم تجريحا شخصيا تجدر معاقبة من صدر عنه كونه سب غيره أو قذف في حقه.
أما في التعبير الابداعي فنحن نتعامل مع خيال الكاتب وما يقدمه من صور ورموز وتصورات تتجاوز المعني الظاهر والمباشر. والفرق واضح بل لعله ساطع. فالإبداع هو نوع من التعبير لا يتسم بالمباشرة ولا يأخذ في الغالب طابعا تقريريا. فالعمل الإبداعي يخلق عالما منظورا ليوحي بعالم وراءه. وكثيرا ما يكون فيه رموز يدخل في صياغتها الخيال. إنه عمل يعمل فيه المبدع عقله وليس مجرد عمل يجري به قلمه. ولذلك يحتاج الإبداع إلي مساحة أوسع من الحرية حتي عندما يتعلق الأمر بمسائل تتصل بما نعتبره' تابوهات' دينية وجنسية وغيرها بشرط أن يكون تناول هذه المسائل جزءا لا يتجزأ من نسيج العمل الإبداعي وسياقه وليس مقحما فيه. فالإقحام يتعارض مع أخص خصائص الإبداع لأنه يهدف إلي تمرير رأي مباشر,
الأمر الذي يعني اجتياز الحد الفاصل بين الإبداع والرأي. غير أن الحكم علي مثل هذه الأمور لا ينعقد إلا للمتخصصين في هذا المجال والنقاد والعارفين به وليس لغيرهم. فمن الضروري معاملة العمل الأدبي والفني والمقال الفكري بطريقة تختلف عن مقال الرأي. ومن المنطقي أيضا أن يكون للرسم التشكيلي حكم يختلف عن الرسم الكاريكاتوري خصوصا إذا كان هذا الأخير مباشرا علي نحو يجعله أقرب إلي رأي منه إلي إبداع فني.
وكانت الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية من هذا النوع الذي يدخل في نطاق الرأي وليس الإبداع. فالتعبير فيها مباشر فج بل حقير وليس فيها أي فن أو إبداع. وهنا يكون الرسم سبا مباشرا مثله مثل الكلمة التي يسيء الفرد استخدامها.
وهذا هو ما فات بعض الأوروبيين الذين أضفوا عليها الحماية التي توفرها حرية التعبير بالرغم من أنها تنتمي إلي ذلك النوع من التعبير الذي يجوز تقييده, وليس إلي النوع الذي يصح إطلاق الحرية فيه. وهذا هو أيضا ما يفوت بعض المصريين الذين يساقون بحسن نية وراء الإرهاب الفكري فيساندون بعض من يحاولون فرض مزيد من القيود علي حرية الإبداع.
فدعونا نتفق علي أن الرأي ليس كالعمل الإبداعي. الرأي يكون المقصود منه واضحا للعامة. أما الإبداع فيجوز أن يختلف فهم الناس لمقصده فيكون الحكم عليه للخاصة أصحاب العلم والمعرفة بحقول الإبداع المختلفة ومناهج النقد في كل منها. فمن السهل لأي شخص أن يحكم علي مقصد مقال أو رسم صريح المعني, ولكن لا يمكن لأي شخص الحكم علي رواية' أولاد حارتنا' وعلي شخصية مثل' الجبلاوي' فيها. وليكن التمييز بين الرأي والإبداع إذن هو مدخلنا لمعالجة قضية حرية التعبير لكي نفتح للعقل المصري والعربي عموما مجالا للتنفس لعله يعود إلي الحياة.
نقلا عن الأهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=2240&I=61