د. عبد الخالق حسين
د. عبدالخالق حسين
يخطئ من يعتقد أن الأزمة العراقية الحالية هي وليدة اليوم، أو نتاج الحملة الأمريكية في إسقاط حكم البعث الصدامي...الخ، كما ويخطأ من يعتقد أنه من الخطر التطرق إلى جذور الأزمة ويحاول بشتى الوسائل قمع كل صوت يحاول البحث في هذه الجذور، وتحت مختلف التبريرات، وبعد كل هذه الكوارث، قد آن الأوان لنقول الحقيقة ونسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، فسياسة النعامة في طمس رأسها في الرمال وترك عورتها مكشوفة للصياد أثبتت فشلها
في البدء، أود أن أؤكد أني استمتع كثيراً بالنقاشات الفكرية الهادئة، لأن في الجدال الموضوعي الهادئ يمكن أن نصحح أخطاءنا ونتوصل إلى الحقيقة. وقد قال أحد العلماء في تعريف العلم، أنه كان خطأً تم تصحيحه!! وبهذا المعنى قال الصديق العزيز الدكتور كاظم حبيب: "ما كان للفكر والمعرفة وحضارة الإنسان على هذا الكوكب الجميل أن تتطور، وما كان للثقافة الإنسانية أن تغتني وتتعزز وتنتشر وتتلاقح في كل ما أبدعته الشعوب والجماعات والأفراد على مدى تاريخ البشرية، لولا النقاش وبروز الاختلاف في وجهات النظر... للوصول إلى الأكثر صواباً أو الأمثل والأقرب إلى الواقع." (1).
ولهذا السبب، فعندما تطوع الدكتور سيار الجميل بملء إرادته في الرد على مقالي الموسوم (الحل لأزمة تشكيل الحكومة) استبشرت خيراً، ولكن مع الأسف الشديد، أحال النقاش فيما بعد إلى صراع شخصي وإلى "أزمة" كما أسماها، بحيث طالب نخبة من المثقفين بإصدار نداء لحمايته من "المتطفلين على الثقافة".
وما كنت أرغب في العودة إلى هذا الموضوع لولا التطورات التي لازمت هذه "الأزمة" لذلك فمرة أخرى، أعتذر للأصدقاء الأعزاء الذين استجبت لنصائحهم بإنهاء هذا السجال، إذ رأيت من المفيد العودة للموضوع وذلك لإتمام الصورة خدمة للقراء الكرام.
بدأ الدكتور الجميل رده بعنوان ثانوي (معالجة عراقية على نار هادئة) ولكن من البداية يشعر القارئ أنها ليست معالجة هادئة، بل انفعالات غير مبررة، إذ يبدأ في الفقرة الأولى قوله: "كم تمنيت على الأخ الطبيب الدكتور عبد الخالق حسين أن يبتعد قليلا عن موقفه، وأن لا يرد، وان ردّ، فليس أفضل من الاعتراف بحدوث خطأ.." ألن يعني هذا امتلاكه للحقيقة، وكل من لا يتفق معه فهو على خطأ ويجب عليه أن يعترف بالخطأ! ويضيف: "وسوف لا انزل إلى أي مستنقع طائفي أو سياسي في ردي عليه... ولا انزل إلى أي مستوى من التعابير الهابطة أو أن اخرج عن صلب الموضوع كما خرج وطاف كما يريد على هواه". وأنا إذ أترك الحكم للقراء فيما إذا كنت قد نزلت إلى مستنقع طائفي عندما رددت عليه، وهذه هي التهمة التي يحاول إلصاقها بي في محاولاته "الهادئة" التي وعدنا بها. والجدير بالذكر أن معظم الذين راسلوني بعد قراءة ردي عليه، أثنوا على هدوئي والتزامي بالعقلانية.
والسؤال الذي أود أن أوجهه للقراء الأعزاء هو: هل من المعقول أن ورود بضع كلمات في مقالي مثل (التركية والانكشارية والمماليك.. واستيراد ملك..الخ) كاف لإثارة كل هذا الانفعال الغاضب من كاتب هو أستاذ جامعي ومؤرخ وأكاديمي، بدليل أنه هو الوحيد أثار كل هذه الضجة. والأنكى من ذلك أن الدكتور سيار قد وصف كتاباتي في رده بأنها "إنشائية ولا أهمية لها"، ولكنه مع ذلك رد بـ24 صفحة على مقالة واحدة من مقالاتي لا تتجاوز الأربع صفحات.
ويضيف الأستاذ الجميل قائلاً: " .. وعندما انتقد كتّابا كبارا أمثال محمد حسنين هيكل ونزولا الى كتاب عاديين، لم اقصد الا تصويب مفاهيم، وتصحيح معلومات، ..." وفي مكان آخر يقول: "سواء أتت من كاتب أسمه محمد حسنين هيكل أو أتت من دكتور عبد الخالق حسين!" وهذا يعني: إذا كان هيكل يحتل أعلى درجة في سلم الكتّاب العرب، فعبدالخالق حسين هو في أدنى السلَّم! ألا يدل هذا على أن الكاتب يحاول التقليل من شأن محاوره؟ ومع ذلك يتنازل الأستاذ الأكاديمي أن يرد على من هو في أدنى السلم لا لشيء إلا لتصحيح معلوماته!. وهكذا التواضع وإلا فلا!!!
كذلك ذكر كاتبنا الفاضل في مكان آخر عندما يريد الإشارة إلى اسمي قائلاً: (الطبيب المتقاعد)، وكأنه سبة أن تكون طبيباً وتدخل في عالم الكتابة، وسبة أكبر عندما يكون هذا الطبيب متقاعداً. طبعاً القصد واضح من هذه الإشارة كما لا يخفى على القارئ اللبيب، إذ يعني أن عبدالخالق يخوض في مجال ليس من اختصاصه!! (فإن القول ما قالت حذام!!- الجواهري). أود أن أذكِّر الأستاذ الجميل، أن من خيرة الفلاسفة المسلمين كانوا أطباء، مثل ابن سينا وأبو بكر الرازي، وكذلك من أهم فلاسفة التنوير الأوربي كان جون لوك، وهو طبيب، ومن ألمع الروائيين المصريين هو يوسف إدريس، وكذلك من ألمع كتاب المسرح هو برتولت بريشت، وجميع هؤلاء كانوا أطباء.
وفي أيامنا هذه، نقرأ لكتاب لامعين وهم أطباء أيضاً مثل الدكاترة: وفاء سلطان، وكامل النجار، وصلاح محسن، وخالد منتصر وغيرهم كثير. في الحقيقة هذه نظرة استعلائية ابتلى بها الدكتور سيار الجميل، إضافة إلى مدح الذات في معظم كتاباته، نتمنى عليه أن يتخلص منها، فمكانة الكاتب يجب تركها لحكم القراء الكرام.
في الحقيقة أنا أشكر الدكتور سيّار لأنه أثنى عليَّ من حيث لا يدري، إذ جعلني على طرفي نقيض من محمد حسنين هيكل، بغض النظر عن مكاننا من السلَّم!! إذ يشرفني أن أكون نقيضاً لهذا الكاتب الذي يُعتبر غوبلز العرب، فمعظم القراء يعرفون دوره المخرب للعقل العربي، مع زميله المذيع أحمد سعيد، ذو الصوت الجهوَري وهو يلعلع من إذاعة صوت العرب القاهرية لتضليل الرأي العام العربي في الستينات وكان من ثمار جهودهما هزيمة 5 حزيران 1967 وما تلاها من هزائم لحد هذه الساعة.
مسألة نبش أصول العراقيين
لقد أثار الدكتور سيار الجميل زوبعة لورود بعض كلمات في مقالي، ولغرض ما، ركز عليها وصب جام غضبه بحجة أننا يجب أن لا ننظر إلى العراقيين من ناحية أصولهم ومن أي بلد أتوا، بل ننظر إلى ما قدموه للعراق من خدمات. أود أن أطمئن الدكتور، وهو مؤرخ أكاديمي، أن ذكر أصول بعض الشخصيات أو أسر ليس بقصد الإهانة كما يتصور، وإني ألعن كل من يميِّز بين العراقيين على أساس الأصل والفصل، أو الدين والمذهب، لأننا جميعاً عراقيون بغض النظر عن أي بلد جاء أجدادنا منه، وإني أعتبر كل من يميِّز بين العراقيين، عرقياً وطائفياً فهو فاشي، ولهذا السبب حاربت البعث الفاشي وسأحارب أي فاشي آخر يميِّز بين العراقيين على أساس الأصل والفصل، ولكن هناك فرق بين القول والممارسة.
كما وأود التأكيد على أن التطرق إلى الأصول لا يعني التمييز بينهم، أو إهانة لأحد، فقد كُتِبَ الكثير عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أنه ابن مهاجر هنغاري، ولم يعتبر أحد ذلك إهانة له، وهناك العشرات من الأمثلة لا مجال لذكرها. ونحن عندما نذكر أصول بعض الحكام بشكل عابر، لا لننتقص منهم، بل ننتقدهم على أفعالهم، ولأنهم ظلموا الشعب العراقي، وسأذكر مثالاً على ذلك لاحقاً.
فأصول الذين حكموا العراق سواء في العهد العثماني أو الملكي، قد تطرق إليها كتاب، ومؤرخون، وأكاديميون، وسياسيون من الوزن الثقيل لا يمكن الشك في وطنيتهم، أو اتهامهم بأنهم يصنفون أبناء الشعب وفق أصولهم لبذر التفرقة!!، ومن هؤلاء المؤلفين أمثال: علي الوردي، وكامل الجادرجي، وحنا بطاطو، ومجيد خدوري وغيرهم، بل هي معلومات تاريخية تذكر حسب ما يقتضيه المقام والمقال، وعلى سبيل المثال جاء في كتاب العلامة علي الوردي (لمحات اجتماعية ج3) عن الصدر الأعظم محمود شوكت باشا ما يلي:
[ومن الجدير بالذكر أن محمود شوكت باشا الذي كانت له اليد الطولى في خلع السلطان عبدالحميد كان بغدادياً وهو ابن سليمان فائق وأخو مراد سليمان وحكمت سليمان. كان محمود شوكت باشا من بقايا المماليك في العراق- أي شركسي الأصل- ولكن الناس كانوا يظنون خطاً أنه عربي من سلالة عمر بن الخطاب. وكان سبب هذا الخطأ أن محمود شوكت باشا هو ابن خالة هادي باشا العمري فتوهَّم الناس أنه لا بد أن يكون عمرياً كابن خالته، وقد راج هذا الخطأ في العراق والبلاد العربية الأخرى، ونظم شوقي قصيدة في مدح محمود شوكت باشا ذكر فيها أنه "ابن الأكارم من بني عمر"، وفعل مثل ذلك شاعر عراقي حيث وصف محمود شوكت باشا بأنه "بجده عمر اقتدى". (علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج3، ص 169-170، نقلاً من كتاب: شخصيات عراقية، لخيري العمري، بغداد 1955، ج1، ص4).
كذلك وتحت عنوان ثانوي: الشجرة التركية، (ص 102) يذكر لنا حسن العلوي، أسماء نحو 15 شخصية وأسرة من الأسر البغدادية التي احتكرت السلطة بعد تأسيس الدولة العراقية فقال:
"بعد الحرب العالمية الأولى بدأت القومية تحل محل الولاء الديني أصبح كثيرون من زعماء العرب من دعاة العروبة المتحمسين، وراح بعضهم يدعي الانتماء إلى أصل عربي، بعضه صحيح، وبعضه أسطوري لا وجود له." (نقلاً عن كتاب: عبدالمحسن السعدون- رسالة ماجستير- لطفي جعفر فرج، بغداد، ص 61-62).
ويضيف الأستاذ العلوي: "لجأ القادة الإداريون في العراق إلى بناء هيكل تقليدي للقوة تعتمد أساساً على أبعاد شخصية لا رسمية. إن (رابطة الدم) اعتبرت أحد المقومات الهامة بهذا المجال. وتصبح الوظائف الرسمية المختلفة في الأجهزة الإدارية والسياسية (الحديثة) قناعاً يقبع وراءه أفراد مرتبطون بعلاقة الدم. وبعرض مجموعة كبيرة من أسماء الشخصيات والأسر التي وجَّهت السياسة العراقية وساهمت في المشروع القومي العربي- ويستنتج أن رابطة الدم هذه على مستويين، عنصري ينحدر من أصول تركية، وعائلي عن طريق المصاهرات الزوجية."
ويستشهد العلوي بقول من الزعيم الوطني الراحل كامل الجادرجي في مذكراته عن هذه الأسر، وللمزيد، يرجى مراجعة كتاب: (حسن العلوي، التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق، ص 102، دار الزوراء لندن، 1988، نقلاً عن مجيد خدوري، عرب معاصرون، ص34).
ولم يتهم أحدٌ هؤلاء المؤلفين والباحثين بأنهم ينبشون أصول العراقيين، أو يريدون تمزيق وحدة الصف، معاذ الله.
وأنا إذ أؤيد الدكتور سيار الجميل مائة بالمائة في عدم التمييز بين العراقيين على أساس الأصول والفصول، ولكن من الإنصاف أيضاً أن يُطبَّق هذا المبدأ على جميع العراقيين دون استثناء، وليس على فئة معينة فقط.
فمنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 صنَّف الحكام أكثر من 80% من الشعب العراقي كمواطنين من الدرجة الثانية وحسب انتمائهم القومي والديني والمذهبي، بل وحتى الجنسية العراقية صنفوها إلى تبعية إيرانية وتبعية عثمانية ولم يعتبروا الحكم العثماني احتلالاً أو استعماراً. واعتماداً على هذا التصنيف هجَّر حكم البعث الصدامي نحو مليون عراقي من الشيعة العرب والأكراد الفيلية بتهمة التبعية الإيرانية، ولم نسمع من الدكتور سيار أي رد فعل على هذا الظلم الفاحش أو إدانة له.
ولما عاتبناه في مقالنا السابق على سكوته عن سلسلة مقالات جريدة الثورة عام 1991 بعنوان (لماذا حصل ما حصل) يشتم كاتبها الشيعة العراقيين الذين يشكلون ما بين 60 إلى 65 بالمائة من الشعب، و80% من العرب، ويسفِّه عقائدهم ويطعن في أخلاقهم وشرفهم وأعراضهم فوصفوهم بالشذوذ الجنسي وهتك الأعراض وكل قبيح بشكل لم يسبق له مثيل، بل وحتى يصنفهم بأنهم ليسوا عراقيين، وراحت تطعن في ولائهم ووطنيتهم، والإدعاء بأن جلبهم محمد القاسم مع الجواميس من الهند، فبرر الدكتور سيار سكوته قائلاً: " ... ربما لم تقع بيدي سلسلة المقالات البعثية في جريدة الثورة التي تذكرها، واطلب منك هنا أمام العالم كله ان تزودني بنصوص موثقة بالكامل...الخ ".
فهل يعقل أن أستاذ ومؤرخ وأكاديمي، المفترض به أن يمتلك أدوات البحث ويلاحق الظلم أينما كان، يقول أنه لم يمتلك المصادر، بل والأدهى من ذلك طالبني بأن أمده بالمصادر!!! وها أنا أذكر له المصدر، فليراجع (جريدة الثورة، العدد الصادر يوم 5 نيسان 1991، وما بعدها). ولماذا سكت عن تصريحات الرئيس المصري حسني مبارك عندما طعن بولاء الشيعة العرب لأوطانهم واتهمهم بأن ولاءهم لإيران؟ وهل شعر الأستاذ الدكتور الجميل بمشاعر الشيعة العرب عندما يطعن رئيس أكبر دولة عربية بولائهم لأوطانهم، وهل انبرى بالتصدي لتلك التصريحات الجارحة بنفس الحماس الذي تصدى به عند ورود ثلاث كلمات في مقالي عن شريحة معينة من العراقيين؟؟؟
يقول مارتن لوثر كنغ: "المصيبة ليس في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار". ويقول فولتير: "أينما وجد الظلم فالكتاب مسؤولون عنه"، بل ويذهب سارتر إلى أبعد من ذلك عندما قال: "الكتاب مسؤولون عن الظلم أينما حصل في العالم حتى ولو لم يسمعوا به"، ويعني بذلك أن على المثقف أن يبحث عن الظلم ويدينه ويدافع عن المظلومين، ولا يتحجج مثل صاحبنا بأنه لم يطلع على المصدر، إذ كما يقول الشاعر:
إن كنت تدري فهي مصيبة......وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.
ازدواجية المعايير
وأخيراً أعترف الدكتور سيار الجميل بوجود الطائفية قبل 2003، إذ قال: "بأنني لا أنكر أبدا، ان التمييز الطائفي كان موجودا منذ احقاب طوال..". ولكنه كغيره من بعض الكتاب، ينصح بعدم التطرق إلى هذا الموضوع، لأن في ذكره "دعوة للانقسام وإثارة للانتقام" على حد قوله. ونحن ضد هذا التوجه، لأن الطائفية مرض عضال يجب تشخيصه ومعالجته وليس إتباع سياسة النعامة في دفن رأسها بالرمال وإبراز مؤخرتها للصياد!!
والملاحظ أنه عندما تتعلق المظالم بحكام العهد الملكي يحاول الدكتور سيار إيجاد التبريرات لها، فيطالبني قائلاً: "وأن ندرك أن ليس هناك مثالية في حكم العراق ولا يمكن ان تبنى جمهورية افلاطون في العراق ولا غير العراق .. وان تكون حياديا في تناولك القادة والزعماء."
ونحن لم نطالب حكام العهد الملكي بمدينة أفلاطون الطوباوية، ولا بمدينة الفارابي الفاضلة، ولكن لماذا يستكثر علينا محاسبتهم على ترويجهم للطائفية وتكريسها وجعلها كالقدر المكتوب؟ أليس من حقنا أن ننتقد هؤلاء على سياسة التمييز بين مكونات الشعب بمثل ما هو يطالب الآن في عراق ما بعد صدام؟ في الحقيقة إن حكام العهد الملكي هم الذين كرسوا الطائفية ضد شيعة العراق، استمراراً للموروث التركي العثماني والذي تبناه الإنكليز انتقاماً منهم بسبب مواقفهم من الاحتلال البريطاني (حرب الجهاد وثورة العشرين)، بل وراحوا يغذون الصراع الطائفي ويثيرون الفتن.
والدكتور سيار غضب من معلومة نقلتها من كتاب حنا بطاطو عن ياسين الهاشمي، وحتى لو كانت هذه المعلومة خطأ كما يعتقد، فناقل الكفر ليس كافراً، كما قال الأولون. وياسين الهاشمي هذا، وكما تفيد كتب التاريخ، بقي يحارب إلى جانب الدولة العثمانية، ولم ينضم إلى جماعة فيصل في دمشق إلا بعد أن اندحرت الدولة العثمانية نهائياً في الحرب العالمية الأولى. وإذا كنا ننتقد ياسين الهاشمي أو غيره، فليس لكونه سلجوقي، أو عربي هاشمي من ذرية النبي محمد (ص)، أو أي عنصر بشري آخر، فالذي يهمني هو هل عمل هذا الرجل أو ذاك من رجال العهد الملكي على بناء أمة وحرصوا على وحدة الصف الوطني، أم عملوا على تمزيق هذا الشعب، وواصلوا الطائفية البغيضة التي ندفع ثمنها الآن؟ الجواب: إن التاريخ يخبرنا أن ياسين الهاشمي، ونوري السعيد وغيرهما عملوا على تمزيق وحدة الشعب بتشجيعهم التمييز الطائفي ضد شيعة العراق، وحرمانهم من حقوق المواطنة والمشاركة في المناصب السياسية والوظائف الإدارية إلا ما ندر، وإليك الدليل:
لتبرير عدم مشاركة الشيعة في السلطة، بالإضافة إلى وصفهم بـ"الأغلبية الجاهلة" كما جاء في مذكر الملك فيصل الأول، راحوا يبحثون عن سبب آخر، حيث ألفوا الكتب ضدهم بإلصاق تهمة العجمة والشعوبية بهم وإظهارهم كأجانب، والأجنبي طبعاً لا يحق له المشاركة في حكم البلد الذي يقيم فيه. وعلى سبيل المثال لا الحصر نعود ثانية إلى حسن العلوي في هذا الخصوص قائلاً:
"فقد لاحظنا إن الدراسات العربية في الشعوبية تتستر على الشعوبية التركية وتكرس اهتمامها للتشهير بالشعوبية الفارسية فقط. وتتجاوز هذا الحد إلى الغمز الطائفي وأحياناً إلى الإعلان الرسمي للتشهير بمذهب معين. وفي الثلاثينات تجرأ عبد الرزاق الحصّان المقرب من نوري السعيد وياسين الهاشمي، وكان يعمل مع ساطع الحصري في مديرية المعارف، بنشر كتاب بعنوان: (العروبة في الميزان) صرح فيه بدون مواربة أو رمز، بأن الشيعة فرس حيثما وجدوا، وهم في العراق من بقايا الساسانيين. وإن تاريخهم تاريخ الشعوبية نفسه. وظهر فيما بعد أن ياسين الهاشمي كان وراء المؤلف، وقد تبناه شخصياً طه الهاشمي طيلة حياته. وبهذه السهولة يتم إسقاط الجنسية عن مليوني عربي من مجموع سكان العراق البالغ مطلع تأسيسه الحديث ثلاثة مليون نسمة وفقاً للإحصائية التي نشرها ساطع الحصري في الصفحات الأولى من مذكراته. (حسن العلوي، التأثيرات التركية في المشروع القومي العربي في العراق، ص 12، دار الزوراء، لندن، 1988، نقلاً عن مذكرات الهاشمي).
يطالبنا الدكتور سيار الجميل بعدم التطرق إلى تلك المظالم الطائفية التي وقعت في العهد الملكي حتى لا نعرض الوحدة الوطنية إلى الخطر، ويعتبر أي نقد لياسين الهاشمي وأمثاله خطأ، ونقد الطائفية فيه دعوة للانقسام وجهر بالانتقام!!
ولكنه عندما يتعلق الأمر بعراق ما بعد صدام، يغير الكاتب لهجته ويطالبنا بتجنب سياسة النعامة، وأن نقول الحقيقة كلها، بل ويطالب بالقفز بالعراق من استبداد البعث الصدامي إلى ديمقراطية السويد، فيقول:
" وهل يلزمنا هذا " الواقع " أن نبقيه على ما هو عليه، حتى وان غاص في التخلف والعهر والموبقات؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كانت ثوراتنا وانتفاضاتنا الوطنية على امتداد قرن مضى ضد واقع متخلف ومزري تماما؟ لماذا كان هناك رفض للعشائرية والطائفية والانفصالية المقيتة من قبل كل الأحرار والتقدميين العراقيين؟". أليس هذا الموقف هو أفلاطوني طوباوي بامتياز؟
فالكل يعرف أن حكم البعث الفاشي البدوي أعاد العراق مائة عام إلى الوراء، وأحيى القبلية والطائفية، وعمل على تدمير النسيج الاجتماعي، والتجهيل المتعمد للشعب خلال أربعة عقود من حكمه الغاشم. فكيف يمكن القفز بهكذا شعب من هذا الدمار إلى مستوى الشعب السويدي؟ فعندما نحاسب بعض زعماء العهد الملكي على سياساتهم الطائفية والفصل الطائفي ضد الشيعة، والعرقي ضد الأكراد وغيرهم، يصفنا بالأفلاطونية، ولكنه عندما يتعلق بعراق ما بعد صدام يشن حرباً شعواء عليه ويصفه بأنه "غاص في التخلف والعهر والموبقات" ويريد من قادة اليوم أن يقفزوا بالعراق من استبداد صدام إلى ديمقراطية جيفرسون بين عشية وضحاها. فيصف ديمقراطية اليوم بأنها كسيحة!! أليست هذه ازدواجية المعايير لدى مؤرخنا وكاتبنا الفاضل؟؟.
الإمام علي والملك فيصل
وعن تنصيب فيصل ملكاً على العراق، يقول الدكتور سيار الجميل: ".. وكأنهم نسوا أن الامام علي (ع) قد قدم من مكة والحجاز، وجعل من الكوفة عاصمة للخلافة .. وكما احتضن تراب العراق الإمام علي وأولاده وأحفاده الميامين، كذلك دفن فيصل الأول وابنه وحفيده في تراب العراق". (انتهى النص.)
هنا تظهر عملية خلط الأوراق وليّ عنق الحقيقة.
أولاً، وكما ذكرت مراراً منذ سنوات، أني لست ضد تنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق وبل ومن المعجبين به، خاصة وقد أثبت الرجل إخلاصه للعراق وقدراته في بناء دولة وأمة، ولكن لسوء حظ العراقيين أنه توفى مبكراً، وهذا لا يتناقض مع قولي عن استيراد فيصل، أو هو غير عراقي.. الخ، ولكن المقاربة أو المشابهة بين الإمام (ع) علي والملك فيصل مغالطة فيها الكثير من التضليل. فالإمام علي لم يأتِ به الإنكليز أو أية قوة أجنبية محتلة لتنصيبه خليفة أو ملكاً على العراق، بل كان خليفة على المسلمين قبل مجيئه إلى العراق الذي كان جزءً من الدولة الإسلامية الراشدية، وحتى قبل اختيار الإمام علي خليفة على المسلمين، فانتقل الإمام من الحجاز إلى العراق الذي كان خاضعاً لسلطته مسبقاً.
أما الملك فيصل، فقد اختارته بريطانيا المحتلة للعراق، وهذه حقائق تاريخية لا ينكرها أحد، بل ويعتقد أن بريطانيا كافأت فيصل بحكم العراق بعد أن طردته فرنسا من سوريا لموافقته على وعد بالفور، وكذلك لقاءات فيصل مع وايزمان وفرانكفورتر، وأن فيصل وقَّع على رسالة جاء فيها: " ننظر إلى الحركة الصهيونية بعطف عميق جداً... نرحب باليهود القادمين إلى الوطن ترحيباً قلبياً صميمياً." وهذه الرسالة عليها شكوك، والدكتور علي الوردي يذكر أن الناطق الرسمي للملك فيصل نفى ذلك فيما بعد. (علي الوردي، لمحات، ج6، ملحق، ص 108-112)
حول نسيان الماضي
البعض يطالبنا بنسيان الماضي، وخاصة أولئك الحاقدين على عراق ما بعد صدام، بحجة أن نركز على المستقبل!
يقول تشرتشل: لكي تعرف حاضرك وتخطط لمستقبلك، عليك أن تعرف ماضيك، لأن الحاضر هو نتاج الماضي، والمستقبل نتاج الحاضر". كما ويقول الفيلسوف الاسباني المولد جورج سانتايانا: "الذين لا يستطيعون تذكر أخطاء الماضي محكوم عليهم بتكرارها."
لذا فمن الخطأ الفظيع نسيان الماضي، فلو كانت هذه النصيحة صحيحة، لما ركَّز الغربيون على تذكير شعوبهم بجرائم النازية والفاشية ليل نهار، ومآسي الحرب العالمية الثانية التي قتلت نحو 55 مليون إنسان في أوربا وحدها. لذلك فأولئك الذين ينصحون بنسيان جرائم البعث لم يكونوا بدوافع حسنة، ونحن نطالب الحكومة العراقية والإعلام والمؤسسات الثقافية بالتركيز على تذكير شعبنا بجرائم البعث: من مقابر جماعية، والأنفال، وحلبجة، والحروب الداخلية، والخارجية، والتهجير، ليس انتقاماً من أحد، بل لمنع تكرار تلك الجرائم بحق الإنسانية ثانية. كذلك نذكر السيد سيار حول حملة تشويه صورة الشيعة العرب ليس في العراق فحسب، بل وفي البلاد العربية، فقد نشر الكاتب والصحفي الكويتي الأستاذ سعد بن طفلة مقالاً قيماً في هذا الخصوص بعنوان (فرسنة الشيعة وعوربة السنة) في صحيفة (الشرق الأوسط يوم السبت 28/8/2010،) فهل الكاتب يدعو إلى الانقسام وإثارة الانتقا
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=22194&I=553