الوحــدة

القس. نصيف هارون

الطلبة التي صلي لأجلها المسيح في (يوحنا 17) هل تحققت؟

بقلم: القس نصيف هارون

كثيرون يقفون حائرون أمام حالة الكنيسة اليوم، حيث العديد والعديد من المذاهب والطوائف. ويتساءلون كيف يكون هذا، والمسيح بنفسه صلي لأجل وحدة الكنيسة والمؤمنين في صلاته المعروفة "بالصلاة الشفاعية" في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر؟

فهل معنى الوحدة يتحقق في هذا الكم الهائل من طرق العبادة المختلفة والمذاهب المتعددة؟ هل الوحدة التي قصدها وصلي لأجلها يسوع هي هذه؟ أم إننا بضعفنا وخطايانا ابتعدنا عن الهدف، ونسينا أنه ينبغي أن نكون واحدًا كما أرادنا المسيح وصلي لهذا الهدف؟ لذلك أقف مع الكثيرين في هذا المقال، مقتربًا من المسيح لعله ينير أذهاننا، فنعرف ماذا قصد من الوحدة ولماذا صلي لأجلها؟ وهل تحققت صلاته وأجيبت، خاصة أنه حسب مشيئة الآب؟

1- صلاته لأجل التلاميذ والرسل:
يذكر الكتاب أن المسيح طلب لأجل وحدة الرسل والتلاميذ، وحفظهم في قوله "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن" (يوحنا 17: 11). ومعيار الوحدة هنا هو تمامًا نفس نموذج العلاقة بين الأب والابن، بل كما العلاقة بين الثالوث (واحد)، "كما نحن" (يو 17: 11).

2- صلاته لأجل الكنيسة:
كما ذكر المسيح نفس الطلبة لأجل الكنيسة "الذين يؤمنون بي"، بالسيد المسيح كمخلص ورب على الحياة" بكلامهم أي من خلال شهادتهم وكرازتهم- صلي المسيح "ليكون الجميع واحدًا كما إنك أنت أيها الأب فيَّ وأنا فيك هم أيضًا واحدًا فينا ليؤمن العالم أنك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدًا كما أننا واحد. أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكمَّلين إلي واحد، وليعلم العالم انك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني" (يوحنا 17: 20- 23).

إن معيار أو مقياس الوحدة: هو نموذج العلاقة بين الأب والابن "كما إننا نحن واحد" (يو 17: 22). كما ان الهدف والبركة من الوحدة: نمو الخدمة وإدراك العالم الخارجي بجوهر رسالة المسيح، وهي رسالة الحب والسلام الذي يوحِّد المؤمنين معًا.  "ليكون فيهم الحب الذي أحبتني به" (يوحنا 17: 26). "ليعلم العالم أنك أرسلتني" (يو 17: 23). والمسيح كما رأينا ذكر الوحدة أكثر من مرة في صلاته  (أربع مرات) وهذا يدفعني أن أتساءل: ما هو المقصود بالوحدة؟  

أولاً- معنى الوحدة
الوحدة التي قصدها المسيح في صلاته، والتي أري أنها تتحقق يومًا بعد الأخر، وتُجاب لأنها صلاة المسيح، كما أنها تتفق مع مشيئة الله الأب، والتي حاشا أن نقول إنها لم تٌجب.  هي: "وحدة روحانية، فهي ليست وحدانية في العقيدة، ولا هي وحدانية في النظام، ولا هي وحدانية جغرافية، ولكنها وحدانية روحية، باطنية، مؤسَّسة على الشركة في الجوهر الواحد، والروح الواحد، والرأي الواحد، والإرادة الواحدة."

وكما يقول الرسول "بولس" في رسالته إلي أفسس:  "جسدٌٌ واحدٌ وروحٌ واحدٌ كما دعيتم أيضًا في رجاءِ دعوتكم الواحدِ. ربٌ واحٌد وإيمانٌ واحدٌ ومعموديةٌ واحدةٌ.  إلهٌ وأبٌ واحدٌ للكلِ الذي علي الكل وبالكل وفي كلكم" (أفسس 4: 4- 6).

فالوحدة هي علاقة انسجام وتناسق روحي في الأساس والجوهر. ولكنها ليست علاقة امتزاج وذوبان لبعضنا البعض، كما العلاقة بين الأب والابن. الوحدة المطلوبة بيننا يجب أن تكون عميقة وقوية لكي نستطيع أن نعكس رسالة المسيح في هذا العالم، ولكي نُحفظ من الشرير حتى لا يبتلعنا العالم في المشاحنات والمجادلات والمخاصمات التي يجب ألا تكون بيننا؛ فعبد الرب يجب ألا يخاصم، بل يبتعد عن كل هذه الأمور التي لا تنفع ولا تبني.

فما أبهج منظر المؤمنين الذين يجمعهم الروح الواحد، والرب الواحد، والرجاء الواحد، من كل قبيلة وشعب ولسان وأمة، فتختفي بينهم كل الفوارق الجنسية، والإجتماعية، والثقافية، والعلمية! إن روعة هذا المنظر المُبهج، رسالة قوية موجَّهة للعالم الممزَّق والمشتت، تبعث فيه الرجاء والإيمان في شخص المسح الذي وحَّد قلوبنا معًا، هكذا برغم التعددية.

فالوحدة هي مطلب ايماني هام وحتمي، فهي طلبة أساسية في صلاة المسيح الشفاعية لأجل التلاميذ (يوحنا 17: 6-19)، ولأجل الكنيسة "الذين يؤمنون بي بكلامهم" (يوحنا 17: 20).

ثانيًا: مبادئ هذه الوحدة
1- قبول التعددية وإقرار قيمة الإختلاف: فالعصر الذي نعيش فيه الآن (عصر السماوات المفتوحة)، لم يعد الإنغلاق والتزمت هو الأسلوب الأمثل في للتعامل مع الإختلافات. فلم تعد هناك مكانة للوصاية على الذهن، والفكر، وحرية التعبير والرأي، بل السيادة لمن يملك القدرة على التحليل والمناقشة، والتعامل الواعي الحر مع الإختلافات، من خلال محاولة لفهمها والتعامل معها دون التعصب الأعمي الرافض للأخر وأفكاره، لمجرد أنها تختلف معه؛ أو الهجوم لمجرد الهجوم؛ فالتعددية والتنوع هما أساس الوحدة، فلو كان البستان كله زهرة واحدة، لما كان بستانًا، ولو كان كل البشر أو الرسل حتى شخصًا واحدًا، لما كانت الحاجة للوحدة. بل الوحدة تنشأ أساسًا لوجود تعددية وتنوع.

فهل ننظر للتنوع والتعدد على إنه إثراء وبركة للجماعة؟ أم إنه خطر وضعف يهدد الجماعة واستقرارها؟
2- التكامل: كما أن الجسد واحد، لكنه أعضاء كثيرة وكل عضو يكمِّل الأخر، وليس في تنافس معه. بل العين "النظر" تكمل الأذن "السمع"، واليد تكمل الرجل، وهكذا الأعضاء متناغمة برغم اختلاف موقعها في الجسد واختلاف شكلها وطبيعة عملها. هكذا نحن بكل المذاهب والطوائف المتعددة، ينبغي أن يكمِّل أحدنا الأخر. فهل نتعلم من هذا النموذج، ونفرح لنجاح بعضنا البعض وكنائسنا؟ فعندما تنجح كنيسة ما- متفقة أو مختلفة في نظام العبادة مع الأخرى- ينبغي ان نفرح، ونكف على أن نهاجم ونكفِّر بعضنا البعض، فهذا الفكر لا ينتمي للمسيحية، ولا لتعاليم المسيح مطلقًا.
3- التميز والتفرد: فالوحدة بين التلاميذ "الرسل"، لم تلغ شخصياتهم المتفردة، وتميزهم الواعي، وأساليبهم المختلفة- سواء في الخدمة أو الكرازة أو الكتابة أو التبشير- فيوحنا لاشك أنه مختلف ومتفرد في أسلوبه الواضح في الإنجيل عن "بطرس"، أو "يعقوب" أو "متى" أو "لوقا الطبيب" أو "بولس الرسول"..الخ،  ولكنهم جميعًا كانوا متحدين في شخص المسيح متكاملين، وكل منهم يستفيد من خبرات الآخر وتميزه.

فكثيرًا ما يخطئ البعض في فهم الوحدة على إنها إلغاء لتميز جماعة ما أو أسلوب عبادتها أو أنها اندماج الجميع في مذهب أو طائفة واحدة، فالوحدة لا تلغي الانتماء المتعدد بل تشجعه و تدعمه.
4- الوحدة في الجوهر واحد "وهو المسيح"، فلم ينقسم المسيح أبدًا، فهو واحد في جميع المذاهب والطوائف. وهذا هو السؤال الذي وجَّهه الرسول "بولس" للكنيسة في "كورنثوس": "هل انقسم المسيح، ألعل بولس  صُلب لأجلكم؟ أم باسم بولس اعتمدتم؟ (1كو 1: 13). فكانت الكنيسة مُمزَّقة، وفيها خصام وانشقاق واجهه الرسول بالعودة إلي الجوهر، مطالبًا إياهم "أن لا يكون بينهم انشقاقات، بل يكونوا كاملين في فكر واحد ورأي واحد" (1كو 1: 10). كما أن الجوهر واحد، فلنتمسك بالجوهر؛ لنحقق الهدف الواحد، ونكون مقدسين إلي واحد، كما أن دستورنا المعصوم للإيمان والأعمال- كلمة الله الحي، الكتاب المقدس- واحد في جميع كنائسنا المتعددة.

ثالثًا- كيف تتحقق الوحدة؟
1- الحب: فبدون الحب الصادق بعضنا لبعض، لن نستطيع أن نتحد أو نحقق تلك الوحدة الروحية العميقة التي صلي من أجلها المسيح. الحب الناضج الذي يتخطى دائرة المفردات والكلمات، عابرًا بنا إلي حيِّز التطبيق والفعل والعمل. نعم ينبغي أن تكون محبتنا بعضنا لبعض بالعمل والحق.
2- العمل الجاد والإجتهاد: فالعالم لن يشجعنا على الوحدة، بل على العكس. لذلك يقول الرسول "بولس": "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" (أفسس 4: 3). فالوحدة تحتاج إلي جهد وبذل كثير من التضحيات لإحقاقها وتطبيقها. فهي لا تأتي من فراغ أو بين يوم وليلة، لكنها عملية مستمرة باستمرار الحياة والكنيسة، وعلينا أن نثابر ونستمر في السعي الجاد لتحقيق الوحدة.
3- العمل الجماعي والتكاتف معا كقادة ومنقادين: لابد من العمل الجماعي وليس الفردي من البعض؛ فالوحدة لا تتحقق فقط على مستوي قمة الهرم "القيادات فقط"، بل أيضًا القاعدة العريضة "الشعب والمتعبدين". فليس الأهم أن نجلس معًا كقادة ورجال دين نصلي معًا أو نأكل ونشرب معًا، ثم نمضي إلي كنائسنا وننسى ونعزل ما كنا نتحدث عنه معًا عن الشعب. فلابد من خط متوازي آخر في وجهة نظري،  وهو "التعليم" في كنائسنا علي أهمية الإتحاد رغم الإختلاف والتنوع، دون الخوف أو التعصب. فلابد من تفعيل الوحدة في كنائسنا. فلن نقدر أن نكذب على الله بأن نصلي معًا كقادة، ثم نمضي ونعلِّم كنائسنا عكس ذلك، أو حتى ننادي بالعزلة والإنفصال عن الآخر والحذر منه.
4- الحوار الناضج وإقرار أهمية التنوع: فالحوار بيننا لابد أن يتميز بالنضج، والفهم، والحب، والاحترام المتبادل القائم على إقرار التعددية والتنوع كما ذكرت.  وأيضًا أن نعي أن الوحدة هي عميقة ومتأصلة فينا بسبب الجوهر الواحد، والروح الواحد، والإيمان الواحد.
5- الصلاة المسئولة: وهي ببساطة نصلي ونعمل،  وليس فقط نلتقي للصلاة، أو نخرج ببيانات وأوراق عمل دون تفعيلها في كنائسنا ومجتمعاتنا وطريقة تفكيرنا، كما هي دون تغيير. وهذا ما يحدث في مجتمعنا الذي نعيش فيه. فما أكثر قرارات الشجب والرفض لأعمال العنف وتكفير الأخر دون فائدة حتى من مردديها.

أخيرًا- أصلي أن يسودنا هذا الفكر الذي كان في المسيح وصلي لأجله  أكثر من مرة في صلاته، وهو "الوحدة". وأقتبس كلمات المسيح مصليًا بها: "أيها الآب القدوس احفظهم في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدًا كما نحن" (يوحنا 17: 11). "ليكون الجميع واحدًا كما إنك أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ليكونوا أيضًا واحدًا فينا"(يوحنا 17: 21). "ليكونوا واحدًا كما إننا نحن واحد" (يوحنا 17: 22). "أنا فيهم وأنت فيَّ ليكونوا مكملين إلي واحد" (يوحنا 17: 23).