ثقافة الاختلاف وقبول الآخر

منير بشاي

بقلم: منير بشاي- لوس أنجلوس
 الاختلاف بين الناس شيئ طبيعي؛ لأن الله لم يخلقنا نسخـًا متطابقة، والاختلاف خاصية يمكن أن توفر التنوع الجميل الذي يمنع الرتابة والملل، وهو مثل البهارات التي عندما تضيفها للطعام تعطي له مذاقـًا مميزًا، ومثل عبير الزهور لكل منها جاذبيتها وأريجها الخاص.

 ولكن مثل أي شيئ جميل أصبح الاختلاف في يد الإنسان وسيلة للتفاخر والتمييز، الذي قد يصل إلى التحقير والتجريح، ولذلك فنحن نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نتعلم ثقافة الاختلاف وقبول الآخر، وهي ثقافة حضارية قائمة بذاتها، يجيدها الغرب ونفتقر إليها في الشرق.

 في هذا المقال أركز على مناقشة هذا المفهوم بالنسبة لنا كأقباط، وخاصة في علاقاتنا مع بعضنا البعض في بلاد المهجر، وقبول الآخرين ليس معناه الاتفاق معهم تمامـًا في الرأي، ولكن معناه قبول الشخص كما هو، والاعتراف بقيمته كإنسان؛ وهو نوع من التسامح يجب أن يكون فينا كمسيحيين قبل أن نكون أعضاء جالية واحدة، وأيضًا هو نوع من التواضع الذي ينزل إلى مستوى الآخرين، ولا يتعالى عليهم ويعتبرهم أدنى منه.

 وظاهرة عدم قبول الآخر ربما تكون أكثر وضوحـًا في المجتمعات القبطية في أرض المهجر، وذلك للاختلافات الكثيرة التي تفصل بين الناس؛ نتيجة طبيعة الحياة في المجتمعات الجديدة.

 قبل أن نترك بلدنا الأم "مصر"، كان الأقباط يمثلون طبقة متجانسة متقاربة من بعضها البعض؛ فإذا استبعدنا القلة من الأقباط التي كانت شديدة الثراء، فإن معظم مَن تبقى كانوا غالبـًا يمثلون الطبقة المتوسطة المتقاربة المستوى، والتي تحرص على تعليم أبنائها، ولكنها لا تملك من الثروة إلا القليل.

 أما بعد الهجرة فقد تغيرت المعايير وازدادت الإختلافات، وأصبح الكل في سباق للوصول إلى مستوى أعلى في مجتمع مفتوح متعدد الفرص، ومع الاختلافات ازدادت احتمالات التباهي والتفاخر بما وصلوا إليه، والذي يُترجم أحيانـًا في نوع السيارة التي تركبها، ومستوى الفيلا التي تعيش فيها، ومقدار الرصيد الذي لديك في البنوك.

 ومع هذه الاختلافات في المستويات ازدادت مآساة عدم قبول الآخر، بل أحيانـًا رفض الآخر وتحقيره، وأصبح الاحتياج ماسـًا لأن تتعلم ثقافة قبول الآخر المختلف عنا.

قبول الآخر المختلف في الرأي
 من السذاجة أن نعتقد أن في إمكاننا أن نجبر الآخرين على تبني أفكارنا، كل ما نستطيع أن نعمله هو أن نحاول إقناعهم بوجهة نظرنا، وفي نفس الوقت علينا أن نستمع لرأيهم، عسى أن يكونوا هم على صواب، ومع الحوار الهادئ يجب أن نكون دائمـًا على استعداد لتغيير رأينا وتبني رأي الآخر إذا اقتنعنا بصوابه.

 أما بعد تبادل وجهات النظر واكتشاف أنه ليس هناك أرضية مشتركة للاتفاق؛ فالأمر يجب أن ينتهي إلى الخلاف في الرأي وعدم العداء، وهذا من شأنه أن يعطي فرصة في المستقبل للوفاق؛ فالزمن كفيل لأن يظهر الحقيقة، والأيام أحيانـًا تقرّب وجهات النظر، أما القطيعة فإنها تغلق أبواب إمكانية التصالح والتعايش على أساس من الود والاحترام المتبادل.

قبول الآخر المختلف في المذهب
 التعصب المذهبي آفة من آفات العصر، والمتعصب هو مثل شخص يضع "عصابة" على عينيه حتى لا يرى وجهة نظر الآخر، ومجموع مَن يشتركون في هذه يطلق عليهم "عصابة"؛ لأنهم يؤيدون بعضهم ولا يحاولوا التفاهم مع الآخرين، وقد رأينا كيف تحول التعصب الديني لدى البعض إلى محاولات للإرهاب والتدمير والقتل.

 واعتقد البعض أن الله يأمرهم بإرهاب الآخرين، بينما لو تفكر هؤلاء في الأمر لأدركوا أن "الله محبة"، وأن الإله المحب لا يمكن أن يأمر بترميل النساء وتيتيم الأطفال وحرق الأشجار وتدمير البيوت والقضاء على الحضارة والرجوع بنا إلى الكهف.

 والحل هو أن تعيش وتدع الآخرين يعيشون، أن تؤمن بما تريد وتدع الآخرين يؤمنون بما يريدون، وفي يوم من الأيام سيلتقي الجميع بالديان العادل؛ لينال كل جزائه.

قبول الآخر المختلف في الثراء
 جئنا إلى أرض الفرص المفتوحة، والتي استطاع البعض ممَن لديهم العقلية المالية الرأسمالية أن ينجحوا فيها ويصبحوا من أصحاب الملايين، أما البعض الآخر الذين لا يجيدون هذه المهارة فاكتفوا بالوظيفة التي لا تقدم لهم سوى تلبية مطالب الحياة الضرورية، وهذا أنتج طبقات من الأثرياء، وكذا طبقات من المستوى المتوسط والفقير، وأثرياء اليوم ليسوا بالضرورة هم أثرياء الأمس في مصر، وكذا الفقراء ليسوا بالضرورة مَن كانوا فقراء في مصر.

 والفقر ليس عيبـًا، كما أن الغنى وحده لا يجب أن يعطي لصاحبه منزلة أعلى، ولكن للأسف أن المجتمع لا يتعامل بهذه المثالية؛ فيقال أن "مَن معه قرشـًا يساوي قرشـًا"، ولكن كمسيحيين يجب أن نعرف كيف نتعامل مع بعضنا بعضـًا، رغم الفروقات التي قد تكون لدينا من ناحية المال.

قبول الآخر المختلف في المستوى الطبقي
 مع الاختلافات المالية أحيانـًا يكون هناك اختلاف في المستوى الطبقي، ولكن أحيانـًا يكون الاختلاف في المستوى الطبقي لا صلة له بالمال؛ فالبعض ما يزالوا يتصرفون على أنهم من طبقة أرستقراطية، حتى ولو لم يكونوا من الأغنياء، ويظهر هذا من طريقة كلامهم، ومن طريقة لبسهم، وحرصهم على اتباع "إتيكيت" خاص على المائدة، أو في تعاملهم مع الناس.

 وهم غالبـًا ما يحتقرون مَن ليس على شاكلتهم، ويعتبرونهم "بلدي"، أما هم فيتصرفون مثل الأجانب، ويؤمنون أن كل ما هو أجنبي متمدين، وكل ما هو "مصري" غير متحضر.

 هذه التصرفات قد تصل إلى حد أن تصبح مرضـًا، وعلينا أن ندرك أننا جميعـًا أولاد أب واحد وأم واحدة؛ هما "آدم، وحواء"، وأننا يجب أن نترك البرج العاجي الذي نعيش فيه وننزل إلى مستوى عامة الشعب، ونعتبرهم أخوة لنا متساوون في القيمة والكرامة.

قبول الآخر المختلف في المستوى العلمي
 المؤسسات التعليمية في بلاد المهجر مفتوحة على مصراعيها لكل مجتهد، ولا توجد حواجز تمنع مَن يريد أن ينهل من العلم ما يشاء، فليس هناك مشكلة المجموع كما يحدث في مصر، ولا مشكلة المصاريف، كل ما يحتاجه الطالب هو الرغبة في الاستزادة من العلم، وليس من الضرورى أن يكون أهله من الأثرياء حتى يصرفوا عليه، فهناك المنح الدراسية المجانية التي تُعطى للمتفوقين، وهناك السلف الضئيلة الفوائد من الدولة، وكذا الوظائف الجانبية للطلبة التي تمكنهم من الصرف على أنفسهم مع الدراسة.

 ونتيجة لهذا نجح الكثيرون وحصلوا على الدراجات العلمية العالية، وبالتالي على الوظائف المرموقة، وظهرت طبقة المتعلمين التي قد تحمل ألقابـًا علمية، وقد تفرز نفسها وتتعالى على الطبقات الآخرى؛ مثل الحرفيين والموظفين العاديين.
وبعد..

 إن كان هناك مستقبل لجاليتنا القبطية في أن تنجح كجالية، وليس فقط كأفراد، فإن هذا يتوقف على مقدرتنا على تحطيم الحواجز التي تفرقنا، ومد الجسور التي تجمعنا وتوحد صفوفنا.

 صحيح أن هناك مَن تفوق علمـًا أو مركزًا أو مالاً؛ مثل هذا لا يجب أن يحتقر الآخرين الذين لم يصلوا إلى ما وصل إليه، بل عليه أن يمد يده ليساعد ويعين غيره، وعليه ألا يتعالى عليهم، بل يعاملهم على أنهم متساوون معه في القيمة والاحترام والكرامة، أما مَن لم تساعده الظروف ليصل، فعليه أن لا يحسد ويحقد على مَن وصل، بل عليه أن يشكر الله على أي حال.

 علينا أن نبدأ التعامل مع اختلافاتنا الفكرية ونتعلم ثقافة قبول الآخر، إننا جالية جديدة العهد بالممارسة الديمقراطية، لذلك أحيانـًا لا نقبل رأي الآخر إذا كان لا يتفق مع رأينا، ونحاول أن نفرض رأينا على الآخرين، والبعض عندما يُواجَهوا بهذا يمتعضوا وينسحبوا من العمل، وهكذا تستمر الانقسامات وتتزايد.

 الأقباط شعب ذكي ومكافح، استطاع أن يحقق خلال عقود قليلة ما لم تحققه الجاليات الآخرى خلال قرون، ولكن يبدو أنه نظرًا للظروف الصعبة التي مررنا بها نجد صعوبة في التعامل مع بعضنا البعض، ونحتاج أن نبذل جهدًا مضاعفـًا لإجادة ثقافة التعامل مع الاختلاف وقبول الآخر.