ذكريات.. العمر اللي فات 17

أنطونى ولسن

بقلم: أنطوني ولسن

ثانيا: في أستراليا..3
  ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وإن اقتضي الأمر العودة إلى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لإستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات العمراللي فات .
      
  دعونا الآن نكمل الحكاية..
  كما كتبت في الجزء السابق ان الريس تركني في عصبية وظللت واقفاً مع رفيق دون أن أمد يدي إلى أي عمل.. وإذ باحد المديرين المسؤولين يأتي إلي وفي يده أوراق وينادي عليً..
- مستر ابراهيم، أنا عندي عمل خاص لك.
  عاد رفيق إلى عمله.. وذهبت مع المدير كما طلب مني الذي اخذني إلى احد المكاتب وطلب مني الجلوس واعطاني تلك الأوراق التي بيده، تصفحتها ووجدتها عمليات حسابية.. جمع وطرح وقسمة وماشابه ذلك. نظر الي وسألني.
- هل تستطيع القيام بهذا العمل؟..
  فرح قلبي وابتهجت نفسي.. ها انذا سأعمل في مكتب وسأتحول من عامل الى موظف بالمصنع.
  انهيت تلك الأوراق في اقل من 10 دقائق وسلمتها اليه. تطلع الي وشكرني وطلب مني ان اعود إلى عملي الأول.
  رجعت الى مقر عملي وبكل غضب صرخت في وجه رئيسي الهنجاري وقلت له:
- إن أرسلتني لهذا الجاهل مرة اخرى سأعطيك انذارا وأترك العمل في التو و اللحظة..
  ضحك الرجل حتى استلقى علىقفاه.. ثم مد يده مصافحاً واعداً انه لن يرسلني إلى اي ريس جاهل مرة اخرى.
  موقف آخر مع مندوب أو ممثل نقابة العمال بالمصنع. رجل انجلوسكسوني بعين واحدة، يتحدث كثيرا وما بين كل F .. وF .. F اخرى. عمله بطيء ولا احد يستطيع ان يتحدث اليه او يحثه على العمل.. لا الريس ولا اي مدير.. قوة نقابة العمال في أستراليا مؤثرة وفعالة، وممثلوا النقابة في العمل يستطيعون تحريك العمال للتوقف عن العمل او المطالبة بتقليل ساعات العمل.. والخ من قوة حقيقية تؤثر على سير العمل مما جعلني اتخذ موقفاً منهم طوال فترة عملي في أستراليا سواء عملي في المصنع وهو غير حكومي، او في عملي الحكومي بعد ذلك، مع الأسف كل ناشط في نقابة العمال الباب مفتوح امامه لتولي رئاسة النقابة وبعدها يرشح لوزارة او رئاسة الوزراء.
 
ذات يوم أخذني الريس الى احد الممرات واخبرني انه سيعطيني الطلبات الخاصة بهذا الانسان.. الانجليزي ممثل النقابة في المصنع وسألني إن كنت استطيع ان اجعله يعمل دون توقف. فكانت اجابتي لا تخشى شيئاً. وبالفعل بدأت اتخذ معه خطة جهنمية. كل من يقوم بهذاالعمل له مساحة 3 أمتار مربعة في وسطها (طاولة) Pallet لوضع الصناديق عليها.. وعليه ان يضع الصناديق حسب حجم كل صندوق.. الصناديق الكبيرة اولا ثم الاصغر، ثم الاصغر.. وهكذا.. وعلينا نحن العمال عندما يأتينا الطلب ان نحضر الطلب ونضع الصناديق حول الطاولة.. وطبيعي تكون الصناديق الكبيرة اولا وتوضع قرب الطاولة الـ Pallet .. وبعد انتهاء وضع الصناديق يبدأ في وضع اسم كل صنف والجهة المرسل اليها الطلب.
من ملاحظاتي.. عرفت عنه انه يحب ان توضع الصناديق في نظام مميز حتى يسهل عليه وضع الأسماء.

بنيت خطتي على، اولا.. سرعة إنهاء الطلبات واعدادها.. وبحكم معرفتي التامة للمخزن استطعت ان انجز الطلب الذي يأخذ 20 دقيقة.. انجزه في 10 دقائق.. ثانيا..كنت انجز طلبات الصناديق الصغيرة اولا.. وطبيعي توضع بالقرب من الطاولة الـ Palllet حتى أغطي الأربع جهات المحيطة بالطاولة.. بعدها الصناديق الأكبر ثم في الآخر الصنايدق الكبيرة.. فيضطر ان ينتظر حتى انهي الطلب ويبدأ في حمل الصناديق الكبيرة اولا وهي على بعد حوالي 3 أمتار.. وطبيعي يتدرج حمل الصناديق حتى ينهي الطلب. بهذا اصبح لا وقت عنده للكلام وإلا ينفضح امام الجميع، ولم يعد احد يسمع صوته.. واصبحت انا العامل الوحيد الذي يقوم بتحضيرالطلبات التي عليه اعدادها للشحن.
  ذات يوم نظر إليّ بتحد وقال:
-
Are you going to die فكان ردي عليه وبسرعة   NoI am going to encrease your income idiot  وواصلت السير. إستمريت في عملي في المصنع ولم أرفد لا على الكريسماس ولا بعد الكريسماس. بل في الاحتفال بالكريسماس جاءني نفس المدير الذي نادي علي واعطاني تلك الاوراق ومعه طبق مزخرف موضوع في «علبة» بحيث يمكن رؤيته وزجاجة شمبانيا غالية الثمن.. اعطاني اياهما وهو يصافحني ويشكرني امام الجميع.. عمال المخزن وعمال وعاملات المصنع سواء من يعمل في المصنع او أماكن اخرى تابعة.. وربكم والحق عندما تسلمت منه الهدية وبعدها زجاجة نبيذ من رئيسي المباشر، اغرورقت عيناي وتذكرت تلك المسابقة التي فكرت فيها وانا اعمل بمصلحة الاحوال المدنية والتي اقترحت بها على رئيسي العقيد محمد نصار خليل والذي عرضها على وكيل عام المصلحة اللواء محمود انور حبيب الذي وافق عليها..   نعم تذكرت يوم توزيع الجوائز فحصل على الجائزة الاولى والثالثة، اثنان من موظفي المنطقة التي اشرف عليها.. والجائزة الثالثة الموظف من منطقة اخرى.. اما جائزة رئيس المنطقة فكان رئيس المنطقة الثانية فاروق عطوه من نصيبه.. مما حدى بي ان اضرب بيدي على مكتب العقيد محمد نصار خليل محتجا على ذلك مما اذهله والجميع.. واتذكر على رغم مرور ما يزيد على الأربعين سنة على ذلك الحادث انه صمت وبدأ يلعب في شاربه (المحلوق) ولكنها عادته عندما كان يفكر.. ثم قال.. لك حق فأنت تشرف على المنطقة الأولى والرابعة.. واتذكر جيدا انني اجبته بالنفي وإنما ان عدد الاستمارات التي كانت عندي في المنطقة 105 الف استمارة.. وبعد شهر واحد أصبح عندي 3 آلاف استمارة فقط بالاضافة إلى الاول والثالث من منطقتي!!

  نعم تذكرت كل ذلك.. واليوم أسأل لو كنت ما زلت في مصر الآن وحدث مثل ما حدث.. هل كنت استطيع ان افتح فمي بكلمة واحدة؟!.. الإجابة الطبيعية لا.. ولربما كانوا ارسلوني للعمل في مكان ابعد من قنا التي ارسلوني إليها لمجرد انني تحديت رئيس السكرتارية واصريت على إضاءة نور الغرفة التي أصر هوعلى عدم الاضاءة بحجة الاقتصاد الذي تنادي به الدولة ثم اراد ان يخرصني فقال وجمال عبد الناصر يطالبنا بالاقتصاد ولا انسى ردي عليه «روح قول لسيادة المدير ان يمنع سيارات المصلحة من توصيل ابناء الضباط للمدارس وشراء الخضروات ومستلزمات البيت لزوجات الضباط»,, لن انسى حتى اليوم فقد كان يوم سبت.. ولن انسى ايضا يوم الثلاثاء وإعلاني بنقلي الى قنا.. ويا عجبي على ذلك الفارق الكبير.
  كما سبق وذكرت ان صاحب البيت جورج اراد اشراكي معه في عمل تجاري.. واعتذرت له.. بعد فترة وجدته جاد في اتخاذ الخطوات اللازمة لفعل ذلك بعرض منزله للبيع.. بعد فترة جاء شاري وكان مصريا طرد من سكنه ولم تكن لديه فرصة البحث عن سكن فسألني إن كان يستطيع هو وزوجته البقاء معنا لفترة وجيزة لحين ايجاد سكن. وافق صاحب المنزل ورفع السعر.. سعر الإيجار إلى 30 دولارا في الأسبوع.
  عندما رأى الشاري الجديد الوضع اخبرته بان المصري سوف يترك الأسبوع المقبل.. فكان رده ان اردت ان تبقى في السكن سواء مع المصري او وحدك سيظل الايجار كما هو ثلاثون دولارا في الأسبوع.
  الحق اقول لكم لم استرح إلى الشاري الجديد فأخبرت جورج بذلك فبدأ هو وزوجته في البحث لي عن سكن آخر.. وبالفعل وجدت سيا زوجته منزلا من اربعة غرف وصالة وحمام.. غرفتان للإيجار.. اما الصالة والحمام فهما مشترك بين المستأجر وصاحب المنزل.. ولا حاجة لي  لشراء اي شيء فالمنزل مفروش وغرف النوم جديدة وكل شيء جديد.
  كانت سيا قد دفعت لنا مقدم الإيجار.. ذهبنا زوجتي وأنا لرؤية هذا السكن الجديد. الحقيقة كل شيء جديد ونظيف.. لكن لم نتعود ان يشاركنا أ حد في منزل واحد يغلق بابه علينا وعليهم.. فرفضت الفكرة.. وعندما اخبرتني سيا انها دفعت مقدم الإيجار عرضت عليها دفعه لها.. لكنها رفضت وطمأنتني انها ستسترد ما دفعته.
  ذهبت الى الـ  ٍReal State الخاص ببيع وشراء وتأجير المنازل والشقق والمحلات التجارية. اخبرت الرجل انني ابحث عن سكن يكون قريب من المواصلات (قطار أو باص) وقريب من مدارس للأولاد، محلات (البقالة) او ما شابه ذلك، ضحك وقال انتظر حتى ابني لك مسكنا تتوفر فيه كل طلباتك. ومع ذلك قال لي تعالى معي عندي شقة للإيجار لعلها تصلح لك.
  ذهبنا الى حيث توجد (الشقة ) في مبنى من طابقين وكل طابق به ثلاث شقق والشقة التي للإيجار كانت الاولى ولها بلكون يطل على شارع ايلاوارا في حي ماركفيل.. ولم تكن مفروشة وإيجارها 26 دولارا ايضا.. وكانت في موقع به كل ما طلبت.
  بقي شيء واحد.. (العفش).. اخبرنا جورج وسيا بالأمر، اتصلت سيا باخوتها الذين كانوا قد اشتروا منزلا (بالعفش).. قالوا لها اعطنا العنوان وسنذهب لرؤية الشقة وسوف نعطيهم كل ما يحتاجون اليه.
  وبالفعل احضروا كل شيء ما عدا (الثلاجة) و(التلفزيون) ولم ياخذوا منا سنتا واحدا في فرش الشقة من غرفتين وصالة وحتى (طاولة) ترابيزة السفرة وكراسيها.. مجانا.. شيء لا يصدقه عقل.. وربكم والحق لم الق مثل جورج وسيا اليونانيان وعائلة سيا بين المصريين في سدني.. ليس لما فعلوه معنا فقط.. بل لانهم كانوا يتعجبون كيف يهاجر مصري، ومصر بلد مهجر يهاجر اليه الناس من كل انحاء العالم وخاصة اليونان.
 باع جورج منزله.. ولم اعرف مكانه ودارت بنا عجلة الحياة كل في طريقه ولم يرى احدنا الآخر حتى اليوم. أحيانا كثيرة كنت احن وزوجتي لرؤيتهما.. لكن ما مررنا به بعد ذلك الهانا عن كل شيء.
  إستمريت في عملي في المصنع ولم ارفد لا على الكريسماس ولا بعد الكريسماس، ولم يجعلني الـ Boss امسك (بالمكنسة) مثل بقية العمال في فترة الركود بعد الكريسماس.. بل كان يرسلني الى عمل آخر بعيدا عن المخازن مليء ببضاعة علي ان اضع عليها اسماء انواع الزجاج على الصناديق.. على الرغم من كثرة العمل لكن كان الريس يغمزلي بعينه طالبا مني ان ابقى هناك الى ان يحتاجني.
  وجدت زوجتي عملا في مصنع للخيام.. فرحت بالعمل.. ودخل الاولاد الثلاثة مدرسة كاثوليكية قريبة من المنزل فلا حاجة لهم لاحد لتوصيلهم الى المدرسة. ابنتنا الكبيرة ميرفت والتي احتفلنا بعيد ميلادها العاشر في سيدني كانت ترعى شقيقها الأصغر منها وشقيقتها الصغرى (آخر العنقود).
  لم تفارقني فكرة التدريس وبدأت اجمع المعلومات اللازمة لمعرفة ما احتاجه للتقدم بطلبات إلى مكتب التعليم الكاثوليكي فهو مكتب مستقل.. والتقدم الى مكتب التعليم في وزارة التعليم في سيدني.
كان من الطبيعي ان نبدأ الحياة الجديدة في سدني دون الإعتماد على احد غير الله. زوجتي تحاول ان تكون عنصراً فعالاً ومؤثرا في حياتنا الجديدة هنا. لا تريد ان تكون مجرد ربة بيت فقط كما كانت في مصر. انها تعرف مدى التعب والجهد الذي اقوم به في العمل. أعمال يدوية لم اتعود عليها.. ساعات عمل أطول من ساعات العمل في مصر. تريد ان تقف إلى جواري مع رعاية الأولاد.
  اتذكر ما قصه عليّ ابني مجدي بعد عودتي من العمل عن محاولات امه لشراء واقيات مطر  Raining Coat من محمل في شارع ماركفيل.. استطاعت بالحركة والإشارة والكلمة المترددة ان تجعل البائعة تفهم ما تريده للأولاد. كان ابني يقص علي ذلك وهو يضحك وفي الوقت نفسه كان فخورا بأمه التي لم تعتمد على احد واخذت تشق طريق الحياة الجديدة في أستراليا.
  اتذكر ضمن ما اتذكر ان زوجتي ذات يوم لم تعد من العمل وتأخرت عن موعدها بفترة تجاوزت الساعتين. اخذ القلق يسلط الهواجس في قلبي وبدأت اخشى وقوع مكروه لها. كنت انتظر قدومها من البلكون المطل على شارع ايلاوارا.. لمحتها قادمة.. تركت المنزل وجريت إليها وهممت بسؤالها بغضب عن سبب التأخير.. إبتسمت في حياء وقالت:
- لما نروح البيت خليني اخد نفسي..
  ساعدتها في السير.. في المنزل قصت علي قصتها.. لقد توقفت جميع خطوط الاتوبيس بسبب الأضراب العام (وهذا احد عيوب نقابة العمال التي لا تراعي مثل هذه الظروف».. وخشيت ركوب تاكسي.. فمشيت الطريق كله غلى المنزل بعد عمل شاق مضني في المصنع. أسرعت ميرفت ابنتنا الكبرى بإحضار ماء دافئ في (طبق كبير من البلاستيك) ووضعت مع الماء قليلاً من الملح واخذت تدلك قدمي امها.
المسافة التي قطعتها زوجتي من باراماتا رود - بيترشام الى محل اقامتنا في 1/1469 أيلاوارا رود ماركفيل .. جد طويلة وبعد إنتهاء عمل يوم شاق ولم يكن الهاتف المحمول قد تم اختراعه، أرهقها وشد أعصابنا جميعا خشية ان يكون قد حدث لها مكروه لا سمح الله.
  ذكريات حلوة على الرغم من حدتها وصعوبتها، وخاصة لم يكن لنا اقرباء ولا أصدقاء او معارف، ومع ذلك اندفع جميع افراد الأسرة إلى هذه الحياة الجديدة بكل همة وأمل في مستقبل أفضل.
وإلى لقاء آخر مع ذكريات العمر.. اللي فات.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع