بقلم: د . طارق الغزالى حرب
أشعر منذ عدة سنوات بحالة من الحزن والأسى وأنا أقرأ وأتابع ما يكتب عن مصر فى الخارج، من حيث مؤشرات الفساد والنزاهة والشفافية ومستوى المعيشة ومدى الفقر ودرجة التقدم وغيرها من البيانات التى تصدر عن مؤسسات دولية ومراكز أبحاث عالمية، ذاع صيتها،
ويصدق الناس فى شتى بقاع الأرض أخبارها، خاصة فى العقدين الأخيرين اللذين حولت فيهما ثورة الاتصالات والمعلومات العالم – بالفعل وليس بالكلام – إلى قرية صغيرة، يعرف فيها الناس فى شتى بقاعها نقاط الضوء والظلام على أرضها.. وأين يعيش خلق الله من بنى آدم المعيشة التى يستحقونها ويلقون المعاملة التى تليق بمن كرٌمهم الله على بقية خلقه ويتمتعون بحقوقهم الآدمية..
وأين يعيش بشر آخرون معيشة لا تختلف كثيرا عن معيشة فصيل آخر من خلق الله وهو البهائم، فيلقون معاملة غير آدمية ممن يتولى إدارة شئونهم، ولا يتمتعون بحقوق أكثر من حقهم فى إرضاء غرائزهم فى سد الجوع والتناسل والشكوى من الألم والظلم أحيانا برفع الصوت!! لكن أكثر ما أحزنى فى السنتين الأخيرتين، ومازال يشعرنى بالعار والمهانة دوما، هو ذلك التصنيف الذى ذاع صيته، والذى صُنفت فيه مصر ضمن الدول الفاشلة على مستوى العالم، بل وفى درجة متقدمة منه .
فى الحقيقة فإن التعبير يقصد بالتحديد «نظم الحكم الفاشلة» التى تدير الدولة بمؤسساتها المختلفة.. ومثل هذه التقارير العالمية تعتمد على مؤشرات وظواهر يتم قياسها بطريقة علمية محايدة، ولا يعنيها كثيراً رصد أو تحليل أسباب هذا الفشل، وواجب كل الوطنيين الشرفاء فى هذا البلد، أياً كانت مواقعهم، هو البحث والتنقيب عن كل ما يمكن أن يكون سبباً لتصنيف مصر العظيمة ذات الحضارة والريادة كدولة فاشلة، وتسليط الأضواء عليه وكشفه وفضحه مهما كان الثمن.
لاشك أن الخلل عظيم، والأسباب عديدة ولكن يأتى فى مقدمة هذه الأسباب بل وأهمها فى رأيى طريقة اختيار القيادات فى هذه الدولة البائسة على جميع المستويات.. للأسف الشديد فإن النظام السياسى الفرعونى السلطوى الذى يعيش تحت ظله الشعب المصرى منذ قديم الأزمان قد أثر كثيرا فى طبيعة الشخصية المصرية،
وأصبح تأليه ونفاق ومداهنة الحاكم أو الوزير أو المدير جزءاً لا يتجزأ من شخصية المصرى، وبالتالى فإن أى قيادة تتصرف فى المكان الذى أُؤتمنت عليه وكأنه عزبته الخاصة، يفعل فيه ما يشاء فى ظل غياب سياسات معلنة وواضحة ومحددة للحساب وللثواب والعقاب لا تتدخل فيها الاعتبارات الشخصية..
فى نفس الوقت الذى يخضع فيه العاملون بالمكان لمشيئة وأفكار واختيارات هذا الذى يترأس المكان دون مناقشة أو اعتراض فى ظل حالة التوجس والخوف المزروع فى النفوس، وسيادة أخلاق النفاق والرياء التى استشرت بين عموم الشعب المصرى. فى ظل مناخ فاسد كهذا يصبح اختيار القيادات والتدقيق فيها هو لب القضية كلها..
وما نسمعه أحيانا من حالات نادرة للنجاح فى موقع ما، هو نتيجة اختيار جيد صادف أهله تمت غالبا بالمصادفة وليست وليدة نظام يفرز ويدقق فى اختيار القيادات.. على العكس تماماً فإن ما يحدث فى مصر فى الغالب الأعم الآن هو أن عملية اختيار القيادات فى مواقع عديدة ومهمة تخضع لمعايير خاصة، ليس من بينها على الإطلاق مدى الكفاءة الشخصية ونظافة اليد والسمعة أو مستوى التعليم والخبرة!
المعايير الجديدة التى أوصلتنا إلى كوننا بلا فخر دولة فاشلة بامتياز، هى رضا وموافقة أجهزة الأمن على المرشح، ومدى صلته الشخصية بمن بيدهم أمر الاختيار مع دور المزاج الشخصى فى الموضوع، ثم مدى قوة ونفوذ الواسطة التى تقف وراءه وتدعمه من أهل السلطة والنفوذ وزوجاتهم، خاصة إذا كان قريباً أو نسيباً أو صديقاً مُقرباً! هذا الوضع الكارثى الذى أتحدث عنه هو السائد فى كل مكان على أرض المحروسة.
لا أستثنى منه وزارة أو هيئة أو مؤسسة، ولا أستثنى منه مسؤولاً واحداً.. وكأنى بهؤلاء الناس سواء بقصد أو بغير قصد ينفذون مخططاً لتدمير هذه الدولة لا يحلم به أعدى أعدائها! أحدث واقعة تجسد المأساة التى وصفتها فيما قلته فى السطور السابقة حدثت الأسبوع الماضى، وقائعها مُثبتة وشهودها موجودون.. ففى أحد المراكز التى تقدم خدمات جليلة للمواطنين، وتتيح فرص التدريب والتعليم للعاملين بها،
وحفرت لنفسها اسماً عظيماً فى مجالها، أرسلت الجهة الإدارية العليا التى يتبعها هذا المركز إليه، موظفا على المعاش منذ أكثر من عامين، ولكنه مازال يعمل بهذه الجهة مستشاراً نظرا لعلاقاته الشخصية القوية بأهل السلطة وقرابته لبعضهم، أرسلته ليدير المكان تحت مُسمى «مستشار تطوير»..
وحيث إنه بالمعاش ولا يملك صلاحيات مالية بحكم القانون، فقد طلبوا من موظف آخر بالمكان أعلى منه علماً وخبرة بالمكان أن يقوم بأعمال المدير ليوقع على ما تجود به قريحة المستشار الذى أرسلوه ولا يعلم شيئا عن المكان! فلما شعر الأخير بأن الأمور لا يمكن أن تستقيم بهذا الشكل، خاصة بعد أن لاحظ أن أفكار هذا المستشار لن تؤدى إلا إلى هدم المكان كصرح كبير ومحو سمعته العريقة اعترض،
وطالب بحقه فى أن يكون مديراً فعلياً يحافظ على ما تبقى للمكان من سمعة واعتبار.. وبالفعل اقتنع العقلاء بالجهة التى يتبعها هذا المركز بهذا الرأى وطلبوا من السيد المستشار التصرف بحكمة وفى حدود صلاحياته فقط.. فما كان منه إلا أن كتب استقالته ورماها فى وجه الجميع، فقيل له إن استقالته مقبولة، فترك المكان وهو يهدد ويتوعد، وقوبل ذلك الموقف بالترحاب والفرحة من جميع العاملين بالمكان الذين يحبونه ويخافون عليه .
ولأننا فى مصر.. البلد الفاشل الغارق لأذنيه فى بحور الفساد.. فقد فوجئ الموظفون صباح اليوم التالى بعودة السيد المستشار إلى مكتبه وقد أُلغى قرار قبول استقالته، بل وتم عزل المدير الذى عادت إليه صلاحياته كاملة لعدة ساعات! أخذ الموظفون يتساءلون.. ماذا حدث؟
وكيف تم الأمر بهذه السرعة؟ وانتشرت الشائعات انتشار النار فى الهشيم.. حتى عُرفت الحقيقة.. إنه يا سادة ببساطة شديدة يمت بصلة نسب قوية لشخصية وزارية رفيعة المستوى.. مصر الفاشلة! لقد نُقلت إلَى وقائع هذه المأساة من شباب كثير يعمل بالمكان، يتحسرون على أيام مضت وعلى ألسنتهم عبارة واحدة: «مش قلنا لك من زمان مافيش فايدة»!!
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=21566&I=536