أنطونى ولسن
بقلم : أنطوني ولسن
قرب موعد ذكرى 23 يوليو / تموز ، وبالتحديد يوم الجمعة القادم .
وصلتني دعوة لي وزوجتي لحضور الأحتفال بهذه المناسبة من القنصلية المصرية في سدني ولنودع سعادة السفير طارق أبو سنة القنصل العام وعائلته بعد إنتهاء فترة خدمته في سدني.ومن كل قلبي أتمنى له ولأسرته سعادة وصحة وعافية وأن يعود الينا سفيرا لمصر في كانرا . أرجو أن يسامحني فلم تساعدني ظروفي الصحية من التواجد معكم مشاركا في الأحتفالات والمعارض الفنية التي كانت تقيمها السية الفاضلة حرمكم المصون .. حظ سعيد لكم وللعائلة .
منذ فترة زمنية طويلة توقفت عن حضور أي إحتفالات بهذه المناسبة لقناعتي الشخصية بأن المناسبة لا تستحق الأحتفال . لأن الحقيقة تكاد تكون قد وضحت تماما والتي تجعلنا بدلا من أن نحتفل بذكراها يجب أن نحاول نسيانها والتطلع الى إصلاح ما جلبه ذلك اليوم من خراب على مصر والمنطقة والعالم العربي .
وجب علي هنا أن أعتذر لسيادة السفير وسأحاول الأتصال به لتوديعه ، أو الذهاب الى القنصلية لفعل ذلك .
الثالث والعشرون من يوليو/ تموزيوما لا يمكن لإنسان مصري وعربي أن ينساه ، فهو علامة فاصلة بين الأمل وخيبة الأمل .
لا أحد ينكر أن في مصر بعد ما حدث في فلسطين عام 1948 قد أثر تأثيرا سيئا على الملك وعلى الحكومات وأيضا على الأحزاب السياسية التي بدأ سوس التخلي عن القيم والمباديء التي أنشئت من أجلها لخدمة الوطن مصر والشعب المصري والأهتمام بكرسي الحكم حتى لو كان على حساب الوطن .
مما لاشك فيه أن الأحداث كانت تنبيء بحدوث شيء ما سيكون له أثر كبير على مصر وبدون شك على المنطقة والعالم العربي والإسلامي .
كانت مصر تعيش فوق بركان يغلي تتصارع بداخله مختلف الأيدوليجيات الليبرالية والشيوعية والراديكالية والإسلامية ، وإنعكس ذلك على الحياة وكثرت المظاهرات الطلابية وغيرها من عامة الشعب ، بعضها يندد بالأستعمار والآخر يندد بالملك وتخاذله في إدارة البلاد ، وتميزت السنتان السابقتان لحركة العسكر بالتغير المستمر للحكومة وظهر جليا الصراع بين الأحزاب وتغلغل الأخوان بين الشعب والذي إتضح بعد ذلك من إنقلاب عبد الناصر عليهم في حادثة المنشية بالإسكندرية في 18 أكتوبر / تشرين أول عام 1954 ، الذي أطاح فيه عبد الناصر بالإخوان بطريقة يندى لها جبين أي إنسان عنده ذرة من الإحساس وخوف من الله .
قبل ظهيرة يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو عام 1952 بتحرك الجيش ويحاصر قصر عابدين والسيطرة على مقر الأذاعة و على الكثير من المصالح الحكومية وإعلان الفرحة ، فرحة الشعب بتولي بعض من أبناء الشعب أمور البلاد . وعم الفرح الجميع بما فيهم أنا الذي كان عمري ذلك اليوم 16 سنة وبضعة شهوروكنت قد أنهيت العام الدراسي للسنة الثانية ثانوي .
حقيقة لقد إشتركت في الكثير من المظاهرات . لكن لم أكن أنتظر هذا الحدث العظيم الذي بدون شك كانت مصر في أشد الحاجة اليه .
في البداية لم يعرف الشعب من هم وراء ما حدث غير أنهم مجموعة من الضباط أطلقوا على أنفسهم الضباط الأحرار الذين أخذوا على عاتقهم تحرير مصر من الأستعمار وحكم مصر برجال مصريين يتولون إدارة شئون البلاد . وفسر البعض أنهم سيقومون بتطهير البلاد من الأقطاع وحكومات فشلت في تطوير الحياة الى ألأحسن والأفضل . لذا رحب بها الشعب وإن وقف البعض من الشعب في شك من أمر هؤلاء الضباط الذين قالوا عن أنفسهم أحرارا دون غيرهم من أبناء مصر من السياسيين أو الأحزاب أو حتى من أبناء مصر العاديين . وكان والدي رحمه الله من أكثر الناس تشككا في قدرتهم على تولي أمور البلاد .. لأنهم عسكر .. والعسكر لا يجيدون إلأدارة المدنية والسياسة . على الرغم من معارضتي لوالدي في هذا الشأن ، إلا أنني أعترف أنه كان صاحب رؤية صائبة فسبب خراب مصر منذ ذلك الوقت وإلى الأن هو تدخل العسكر في كل مناحي الحياة المدنية والسياسية في مصر ، رحمك الله يا أبي أنت وكل من كانت لديه نفس مخاوفك من العسكر .
وضحت الرؤيا وتم خلع الملك وطرده من البلاد هو وأسرته ، ثم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية المصرية وأختير اللواء محمد نجيب رئيسا للجمهورية وجمال عبد الناصر رئيسا للوزراء وعبد الحكيم عامر رقي الى رتبة المشير وتولى قيادة الجيش وكان ذلك أول تأكيد على أن الضباط الأحرار قرروا حكم البلاد فقد وزعت الوزارات عليهم وقبل الشعب هذا الوضع دون التفكير في صلاحيتهم للحكم من عدمه .
ظهر ذ كاء عبد الناصر واضحا من معرفته من أين يؤكل الكتف منذ اليوم الأول للحركة وتصدير اللواء محمد نجيب في الواجه تحسبا لإمكانية إكتشاف أمرهم فيكون هو بعيدا عن الصورة . كذلك عندما تولى اللواء محمد نجيب سدة الحكم وتولي عبد الناصر رئاسة الوزراء وتولي رجال الجيش الذين وقفوا الى جواره الوزارات التي وزعت عليهم فيضمن ولاء كل القوى المحيطة به عند إتخاذ الخطوة التالية . بل أنه بدأ يؤهل الشعب لتقبله بإنشاء شركة وهمية حملت إسم ( سالم سالم ) تعمل على جمع أفراد الشعب عن طريق إعلان عن وظائف خالية لمن يبحث عن عمل . إنتشرت الشركة التي أصبح لها فروع وتقدم الآلاف من الشعب لطلب وظيفة فكان يعطى له خمسة جنيهات ووعد بالعمل مع إستمرارية دفع الجنيهات الخمس كل شهر .كذلك قامت الشركة بإقامت إحتفالات في الأحياء التي يمر بها عبدالناصر وقد إختبرت ذلك عندما أخبرني الشقيق الأكبر لزميل الدراسة المرحوم أحمد فؤاد بالإحتفال المقام في أحد شوارع ( حدائق شبرا ) ، أخذني معه وكان قد أقيم ( سرادق ) كبير في الشارع ، وهناك فوجئت به يطلب مني أن أكتب كلمة لألقيها للترحيب بجمال عبد الناصر. أدخلني في حجرة بها مكتب وطلب مني أن أجلس وأكتب كلمتي . خرجت بعد كتابة كلمة مختصرة وانتظرت حتى جاء دوري وتقدمت لإلقاء كلمتي .بدأت في قراءة كلمتي وبداخلي خوف .. ومع ذلك تمالكت نفسي واستمريت في الألقاء الى أن وصلت النطق بأسم جمال عبد الناصر .. إنتابني ذهول من كثرة التصفيق الذي دوى في السرادق .. بعدها أخذت أكرر إسم عبد الناصر ( في الفاضية والمليانة ) وأنا أحي الجمهور.
جمال عبد الناصر إستغل كل إنسان ليصل الى القمة .. إستغل القضية الفلسطينية خير إستغلال ليلتف حوله العرب .. غدر بمحمد نجيب وتولى رئاسة الجمهورية مع رئاسة الوزراء . من يعارضه ( يروح ورا الشمس ) . تعلم من كل من التنظيم الشيوعي وتنظيم الأخوان معنى تكوين الخلايا التابعة له ، أضاف الى الجامعة الأزهرية التعليم المدني غير الديني من كليات طب وهندسة وخلافه .. وسع جامعة الأزهر كجامعة لها فروع في كل مدريات مصر في ذلك الوقت ، فإذا وجدت جامعة لابد وأن يوجد حولها أماكن سكنية لإحتواء عدد الطلاب ، وبهذا يزداد عدد الأسر المسلمة في المدن التي يكون التواجد المسيحي أكثر. بنى مدينة البعوث الإسلامية لتدريس شئون الدين لطالبي العلوم الأسلامية من أبناء المسلمين من الدول الأسلامية وكان يصرف على الطلبة من خزينة الدولة مرتبات شهرية .بدأ في التطلع الى الأمة الأسلامية وزعامتها . إزداد نشاطه خارج مصر خاصة بعد تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي . كل هذا والشعب المصري مبهور بشخصيته وبمكانته في العالم العربي والإسلامي .إتفق مع الروس وبنى السد العالى الذي دفع النوبيون ثمنا باهظا بتهجيرهم من ديارهم وغرق أراضيهم . أصبح الجندي الروسي والضابط الروسي يتمتع بإمتيازات داخل مصر وحرية لم يتمتع بها الجندي والضابط المصري . باع مصر وأسم مصر العظيم من أجل إمتداد إمبراطوريته بالوحدة مع سوريا .
كل هذا والشعب المصري مغيب ومخدر ومأخوذ بالدعايات المضللة التي كانوا يغزونه بها . فعاش بالأمل وعلى الأمل وأعطى أفضل ما عنده . أما الداخل في قلوبهم فكان ينطبق عليهم المثل الشعبي ( أسمع كلامك أصدقك ، أشوف أمورك أستعجب ) .
أخذوا الأراضي من الأقطاعيين وأعطوا الفلاح خمسة فدادين ليصبح صاحب أرض . وما أعطوه باليمين أخذوه بالشمال . يزرع ما يطلبونه منه من زرع ويبيع لهم بالسعر الذي يحددونه ، ويجد نفسه في آخر كل موسم مديون للجمعية الزراعية . فماذا إستفاد ؟؟!! .. لا شيء !!
تأممت المصانع والشركات وقا م بإدارتها المقربون من العسكر وعوائلهم . ولكم أن تتخيلوا عواقب ذلك .
روسيا أمدتنا بأسلحة كثيرة جدا .. لكن مجندينا بعد التدريب كل من له واسطة أو يدفع رشوة يستطيع أن يمارس عمله الذي كان يقوم به قبل التجنيد على أن يتواجد في آخر الشهر لأخذ مرتبه العسكري . وكان من الطبيعي أن ينسى الجندي ما تدرب عليه الذي لم يبق منه سوي إسمه أمام السلاح الذي تدرب عليه .
وكانت الكارسة في 5 يونيو / حزيران عام 1967 . وبعد أربعة أيام وفي اليوم الخامس ( الجمعة 9 يونيو 1967 ) جاء خطاب التنحي .. وياله من خطاب تم إتقان صياغته حتى لا يدفع بالرئيس الى محاكمة دولية . وكانت لعبة خروج الناس في تلك الليلة والليلة التي تلتها مطالبينه بعدم التنحي .. لعبة ذكية من فكر فيها عالم بعاطفة الشعب المصري المسكين .
وجاء يوم الحساب .. رفضت روسيا إمداد مصر بالسلاح . يئس ناصر وقال لنائبه السادات في المطار بعد عودته من روسيا HOPLESS CASE .
أعلن ناصر أنه مستعد لقبول مبادرة روجرز . ثارت ثائرة الفلسطينيين واتهموه بالخيانة . فأوقف صخفهم وأغلق إذاعاتهم ومكاتبهم في مصر . جاء الملك حسين في زيارة سرية سريعة . حدث ما يعرف بأيلول الأسود . إجتمع ملوك ورؤساء العرب . أدانوا الملك حسين الذي لم يحضر المؤتمر . في يوم إنفضاض المؤتمر حضر الملك حسين بطائرته الخاصة الى مطار ألماظه طالبا السماح بالهبوط والتوجه الى حيث ينعقد المؤتمر .بعد ذلك إنفض المؤتمر دون إصدار أي بيانات عن نتيجة المؤتمروما دار بداخله ولا أحد يعرف حتى اليوم مادار من أحاديث أو إتهامات ، أو إدانات لأحد .
فوجئنا كما فوجيء العالم بالرئيس جمال عبد الناصربترنحه وفقد قدرته على الوقوف وهو يودع أمير الكويت بالمطار وإنقطاع الإرسال التلفزيوني . ثم خبر وفاته في اليوم التالي .
دارت الإشاعات حول أسباب الوفاة ورجح البعض أن معالجه الطبيعي الذي كان يقوم بتدليكه قد وضع السم مع ما يدهنه به ليتم إمتصاص السم عبر مسام الجلد ويموت المريض .
قد يكون ذلك كذلك .. لكن الى معرفة حقيقة ما دار داخل المؤتمر بعد زيارة الملك حسين سيطل الأمر غامضا .
فترة الرئيس جمال عبد الناصر في إيجاز ..
كان يشوبها الأمل الممزوج بالشك والخوف .
كانت فترة سطوة المخابرات التي تحكمت في كل شيء بما فيه الرئيس ناصر نفسه بحجة حمايته ممن يريدون إغتياله .
كانت الفترة الذهبية لرجال الجيش الذين إنتابهم الكسل والخمول وعدم الأهتمام بمصلحة وأمن مصر .
حرب 67 أعطت لإسرائيل ما لم يعطه داوود أو سليمان من قوة وإتساع في الأرض المحتلة .
إهتزت الشخصية المصرية وفقدت ذلك الأمل الذي كان الحلم الذي عاشوه ، فأصبحوا كالريشة في مهب الريح . حدوث شرخ بين عنصري الأمة ( المسلمون والمسيحيون ) والذي بدأ يتسع في عهد الرئيس المؤمن محمد أنور السادات .
يتبع
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=20589&I=511