د. أحمد الخميسي
بقلم: د. أحمد الخميسي
"والمتهم بيصر.. شمس الحقيقة تحر.. والمتهم صامد.. كل القضاة زايلين.. والمتهم خالد".
تلك بعض من أبيات إحدى روائع الشاعر الكبير. "عبد الرحمن الأبنودي"، أهداها لروح الشاب. "خالد سعيد" الذي ثارت الضجة حول مقتله تحت وطأة التعذيب على أيدي رجال شرطة قسم سيدي جابر بالإسكندرية.
والمتهم "خالد"؛ لأنه يمثل ما هو أكبر من مصرع فرد، وما هو أكبر من كرامة فرد، ولأنه يثير التساؤل عما إن كانت حدود الوطن شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا، هي حدود الرعب؟.
"خالد سعيد" في الثامنة والعشرين، فعمره من عمر قانون الطوارئ، أو أقل، عاش في ظله، وتوفي في ظله، ومازال الاستثناء هو القاعدة، الروايات التي نشرت حول مصرعه كثيرة ومتضاربة، لكن الصورتين اللتين نشرتا لـ "خالد" لا تكذبان، واحدة لشاب وسيم ذي ملامح هادئة مشعة، والأخرى للوحشية وقد حطمت ذلك الوجه بقبضة فولاذية لا يختلج فيها عرق إنساني واحد؛ هي قبضة حرس السجون، وحرس الفقر، وحرس الجهل، وحرس الفوارق الطبقية.
وقد أحال النائب العام ملف القتيل إلي نيابة الاستئناف، وأمر بإعادة تشريح الجثة لمعرفة سبب الوفاة، وهذا بحد ذاته يعني أن القصة الرسمية لوزارة الداخلية عن أن وفاة "خالد سعيد" حدثت نتيجة ابتلاعه لفافة بانجو هي قصة موضع شكوك عميقة.
يضاف إلي ذلك عدم صحة الإدعاءات الرسمية بأن "خالد" متهرب من الخدمة العسكرية، وله صحيفة سوابق جنائية، وعاطل عن العمل، فقد أثبتت أسرة "خالد" بالوثائق المنشورة أنه ليس عاطلاً، وأن صحيفته خالية من أي سوابق، وزادت على ذلك بأن نشرت شهادة تثبت موقفه من الخدمة العسكرية، علاوة على أن الشاب من أسرة محترمة يعمل كل من فيها ويتلقى راتبا كبيرًا.
وهكذا نجد أنفسنا أمام ادعاءات باطلة لفقت لـ "خالد" على عجل لتشويه سمعته وتبرير وفاته، كما تظل تطالعنا وتؤرق نومنا صورة الوجه والفك المحطم من التعذيب، وصورة الأحلام التي تطل من عيني "خالد" قبل وفاته.
القصة الرسمية هي اشتباه ضابط ومخبرين في "خالد سعيد" أثناء وجوده بكافيه انترنت، حيث أنه معروف بالاتجار في المخدرات، ثم مطاردته، حتى ابتلاعه لفافة بانجو اختنق بها.
وإذا كان الأمر كذلك.. فمَنْ وكيف ولماذا تم تحطيم وجهه على هذا النحو المروع؟
أما القصة الأخرى فهي أن "خالد" عثر على شريط مسجل لضباط يقتسمون أموالاً أمام كمية مخدرات داخل قسم شرطة، وقرر نشره على شبكة الانترنت، والشريط موجود بالفعل على الانترنت، وما يدور فيه من حديث، والمشاهد التي يتضمنها تثير أسئلة كثيرة جدًا.
وما يريده الرأي العام من القضاء هو الحقيقة، هو الحكم بأن التعذيب ممنوع، الحكم بأن للفرد كرامته، وأنه لا يمكن سحق البشر في الشوارع كما تسحق السيارات الضخمة الكلاب الضالة.
ما يريده الرأي العام من القضاء هو حكم بأن الحياة مازالت ممكنة، وأن الجريمة لا يمكن أن تمر دون عقاب، فالوجه الشاب البريء الذي تحطم لم يكن وجه "خالد سعيد" فحسب، بل وجه الثقة في المستقبل عموما، والثقة في الوطن، ووجه الإيمان بالحياة، هذا هو الوجه الذي أحالته القبضة الباطشة إلي عجينة من لحم ودم بلا عينين ولا أمل.
ما يريده الرأي العام والكتاب والمثقفون هو حقيقة ما جرى، ليس ثأرًا لـ "خالد سعيد"، لكن لتعزيز الثقة في الحياة، ليس انتقامًا، لكن حبًا للعدل.
نريد حدودًا للوطن، شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا، غير تلك الحدود.
فما حدث لم يحطم وجه "خالد سعيد" وحده، بل وحطم وجه الكتابة الأدبية، والترجمة، والشعر، والفن، والتنوير، والثقافة، والتعليم، ومرغ بذلك كله الأرض، لأنه لاقيمة لشيىء إن كان الإنسان مذعورًا ومطاردًا.
الآن.. نريد من القضاء المصري أن يمنحنا المستقبل، وأن يؤكد لنا أن للأعوام القادمة وجهًا آخر، تشع فيه الأعين بأحلامها دون خوف أو ذعر.
http://www.copts-united.com/article.php?A=19345&I=478