نسيم مجلي
بقلم: نسيم مجلي
"الروح مصرية – لمحات لمصرية مهاجرة" كتاب بالغ الأهمية للدكتورة ليلى فريد وهو في رأيي من الكتب الجديرة بالقراءة الآن، فالكتاب يطوف بك في آفاق بعيدة وقريبة ويقلب أمامك صفحات التاريخ فيربط الماضي بالحاضر في لمحات خاطفة وتختلط الذكرى بالحنين فتشعر وكأنك في الأرض الخراب التي صورها ت. س إليوت في قصيدته الرائعة، عبارات رقيقة حانية وساخرة أحيانا أخرى ولكنها تشكك كشكات الدبوس فتتنبه الحواس و يستيقظ الفكر على تشوهات الواقع وبشاعة القبح الذي ملأ حياة المصريين وأحاط بهم وعندئذ تتساءل كيف الخروج من هذا النفق المظلم؟ وكم من الزمن يلزمنا لنصلح ما أفسده الأشرار والأوغاد؟
وعند الإحساس بالعجز تكتمل دائرة المأساة التي يعيشها الوطن في ظل نظام قمعي عاجز وإرهاب ديني أسود متحالف مع السلطة، إنه كتاب مثير للأوجاع فلنقرأه ونتألم لعل الألم يطهرنا من اللا مبالاة والسلبية ويشحذ همتنا من أجل عمل مفيد.
والكاتبة طبيبة نابهة في تخصصها، على درجة كبيرة من الثقافة الأدبية والوعي بالتاريخ الحضاري لمصر وغيرها من البلدان وهذا ليس بمستغرب فالدكتورة ليلى فريد تنتمي إلى بيت علم وثقافة، فوالدها من رجال الآثار المرموقين ووالدتها باحثة في التاريخ وشقيقها هو الدكتور ماهر شفيق فريد أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة القاهرة والباحث الموسوعي في الأدب والثقافة العربية، ومن ثم جاءت نظرتها النقدية عميقة ومؤثرة.
فالجزء الأكبر من كتابها تشغله مقالات قصيرة ومتوسطة ودون أن تسهب في سرد المعلومات أو التفاصيل، فإنها تقدم ومضات تستوقفك أمام التناقض في ما ترى وما تسمع مثل رسام الكاريكاتير الموهوب الذي يلخص لك أعقد المشاكل وأخطرها في بضعة خطوط بسيطة حادة كمقالها "إذاً فما جدوى الاحتفال بذكراهم"؟! التي تشير فيه إلى ظاهرة يمكن أن نطلق عليها انفصام الشخصية أو ازدواجية العقلية المصرية التي تقول شيئاً وتفعل شيئاً آخر.
فالهيئات التي تُمجد استنارة وشجاعة طه حسين ولطفي السيد وسلامة موسى لا تحرك ساكناً من أجل وقف الهجمات التتارية لتيارات الجمود والتخلف والانغلاق بل تشارك في عملية التغييب العقلي والفكري الكامل لمجتمع بأسره.
و المؤسسات التي تتغنى بعظمة بيرم وأم كلثوم والسنباطى تقف متفرجة تشارك الأجيال الصاعدة في التهليل لأصوات نشاز نردد كلمات مسفة على خلفية من ضوضاء مزعجة، والجهات التي تتفاخر بالإعجاز المعماري للمصري القديم وبإبداعات مختار والسجيني تغمض الطرف عن نماذج القبح المسماة بالتماثيل المغروسة في كل ميدان؟
ثم تنهي كلامها بتوجيه اللوم إلى أحد الصحفيين الذي سطا على مقالاتها التي نشرتها حول الراحل الكريم الدكتور عادل أبو زهرة رائد العمل الأهلي، ومن ضمن ما نقله هذا الصحفي أخر مكتبه عادل أبو زهرة عن أصول الكتابة العلمية وما يجب أن تلتزم به من قواعد وما تتحلى به من الدقة والأمانة، لكن الصحفي الهمام لم يتورع عن السطو على مقالات الدكتورة ليلى دون أن يذكر اسمها بل الأدهى أنه حشر بين كلامها أقوالاً من عنده غير مقبولة ونشره فى "وطني" بعنوان "د. عادل أبو زهرة الغائب الحاضر" ولو كنت مكان الدكتورة ليلى لذكرت اسمه حتى يعرف كل إنسان حدوده وحقوقه.
وعما أصاب الأقباط تقول الدكتورة ليلى إن التدهور قد شمل المصريين جميعاً لكن تأثيره على الأقباط كان أشد فداحة بحيث أصبحوا يحتلون مكاناً بارزاً في قائمة أسوأ أمثلة الملق والنفاق الرخيص، لكنها تستدرك أن هناك استثناءات، نفوس منيعة لا يمكن شراؤها عقول موزونة لا تنساق وراء الأفكار السقيمة، قامات شامخة لا تنحني ولا تتذلل وهؤلاء كما تقول الكاتبة هم ملح الأرض والسراج المضيء في الظلمة.
ثم تتساءل بسخرية "لماذا أصبح الأقباط" لقطة لكل صحفي مرتزق أو مذيع سمج يرغب في أن يجري حديثاً تافهاً أو يقدم برنامجاً سقيماً.
وبعد أن ترصد هذه الظاهرة تقسم الكاتبة الأقباط الذين يشتركون في هذه المهازل إلى ثلاثة أقسام: أولهم في داخل مصر من الذين يحسون أنهم مضطرون، والقسم الثاني: من داخل مصر أيضاً وهؤلاء يسعون ويتوسلون إلى هذه الفرص ويقولون ما يثير الغثيان.. لكن المحزن أن يحدث هذا من بعض أقباط الخارج فهم يتمتعون بمراكز اجتماعية ممتازة ولا تشكل المحاذير التي تواجه نظراءهم في الداخل أية مشكلة حقيقية فلماذا ينحدرون إلى هذا الدرك؟ وما ثمن المهانة؟ هل الولع بزعامة وهمية أو وهج كاميرات التليفزيون أو سحر الاسم المطبوع في الصحف يمكن أن يدير الرؤوس التي دب فيها المشيب؟
ثم تعيب عليهم وهم يحتلون أرفع المناصب في مجتمعات تحركها نظم الإدارة الحديثة والعمل الجماعي ومبادئ الديمقراطية، إنهم يشتتون طاقاتهم في معارك جانبية وفي خصومات تضعف من قضيتهم العادلة وتسألهم فلماذا لا تطبقون منظومة المبادئ التي تعيشون في ظلها والمهارات التي تمارسونها كل يوم على عملكم المشترك؟
بالكتاب بعض المقالات النقدية الأخرى التي تتميز بالعمق والشمول مثل مقال "كيف تعالج العدالة قصور العدالة ، و"بريد القراء والمفاهيم التي يرسخها".
أما مقالها "إذا كان هذا ما يمكن لأعمالكم أن تقدمه فسعيكم مشكوراً" فهذا حديث نقدي في باب المعارضة يكشف المستور في نوايا بعض المثقفين المسلمين في مصر وصعوبة قبولهم لفكرة أن أقباط مصر هم شركاء أصلاء في الوطن ومن حقهم أن يرفضوا كل ما يسيء إليهم وإلى عقيدتهم.
فقد أحست الدكتورة بالصدمة مما كتبه الدكتور خالد منتصر "أشعار درويش وقباني أكثر خلوداً من أشعار البابا شنوده" ومبعث الصدمة أنها كانت تظن أن الدكتور خالد من الشخصيات التي أصبحت نادرة في مجتمعاتنا، فمقاله يتعمد الإساءة إلى قداسة البابا وللأقباط عموماً وهذا واضح من عنوانه العجيب، والسبب الذي دفعه لهذا المقال هو خبر عن ذهاب الفنان عادل إمام للبابا شنوده لاستشارته في دور كاهن يفكر عادل إمام في تمثيله.
وتعبيراً عن الصدمة تقول الدكتورة ليلى فريد (المؤلم في الموضوع هو أن الكاتب يبدو وكأنه اتخذ من هذا الخبر الذي تناقلت الصحف بغرض الإثارة وبتفاصيل متناقضة ذريعة للتحامل على الكنيسة القبطية وزعيمها الروحي وأتباعه بهدف تحقيق التوازن المطلوب في مواقفه وليثبت أنه لا يهاجم "الملا عمر" فقط بل "الملا جرجس" أيضاً مع عدم وجود هذا الملا جرجس إلا في الخيال).
الكاتب هنا يوجه عتاباً شديداً لـ "إمام" لإقدامه على هذه الرحلة غير المباركة -حسب وصفه- لأن استعمال الكنيسة كمحلل فني هو اللعب بالنار.. لأن الذي يملك أن يمنح يملك أن يمنع لكن الدكتور خالد ورّط نفسه في الهجوم على الكنيسة ورئيسها دون مبرر وهذا واضح من كلامه إذ يقول "البابا لم يطلب من الفنان عادل ولم يسمع بالفيلم بل إن عادل هو الذي ذهب إليه طواعية.. ليضع رقبته ورقبتنا تحت مقصلة الوصاية الدينية.
ويعزو هذا التصرف من عادل إمام إلى الفزع الذي زرعته الكنيسة في قلوب الفنانين منذ فيلم بحب السيما ومسلسل أوان الورد، الرعب الذي كبل العقول ولجم الألسنة، وجعل أسامة فوزي يعتزل الفن ووحيد حامد يقسم بألا يكرر التجربة، وكأن الدكتور خالد يتكلم عن محاكم التفتيش في العصور الوسطى وليس عن الكنيسة المسيحية المضطهدة في مصر.
وترد الدكتورة ليلى بأسلوب موضوعي مقنع فتقول: فلو كان المخرج أسامة فوزي قد اعتزل الفن بعد "بحب السيما" فلماذا تكون "السكتة الكنسية" حسب تشخيص الدكتور خالد هي التي قتلت فيلمه؟ لماذا لا يكون فيلمه قد مات لأنه -وبالرغم من حشوه بكل المتبلات الحريفة التي تروق لجمهور السينما الحالي من جوع جنسي وبذاءة لفظية وتجريح ديني– لم يكن يملك المقومات الضرورية لبقاء أي عمل فني؟
ولو كان الكاتب وحيد حامد قد أقسم ألا يكرر التجربة بعد "أوان الورد" فلماذا لا يكون السبب أنه واجه نفسه بصراحة وشجاعة عندما جوبه بالسؤال البسيط والمباشر: هل كان بمقدوره أن يعكس الوضع ويقدم قصة تحكي زواج مسلمة من مسيحي؟
وتعليقي الخاص ككاتب هو أن الدكتور خالد منتصر لا يصلح حكماً في قضايا الشعر ولا يملك شهادات الخلود ليوزعها على هذا أو ذاك من الشعراء ونرجو أن يكون كلامه في هذا الموضوع كبوة وليس انحداراً إلى جانب الإسلاميين المتعصبين.
والكاتبة تهدي كتابها إلى الأحباء في مصر الباقين والراحلين، فالمحور الأول يزجى التحية لأديبنا الراحل العظيم نجيب محفوظ الذي كان –بسلوكه وقلمه– نموذجاً للمصري المتحضر المستنير.
والمحور الثاني "وداعاً للراحلين" من الأدباء والفنانين أمثال يوسف جوهر والدكتور عادل أبو زهرة وعادل كامل والفنان إيزاك فانوس وغيرهم.
والمحور الثالث يرصد عدداً من الظواهر كعودة الشباب الغربي إلى الدين، وثورة المسيحية في بريطانيا على الغبن، وانقضاء شهر العسل الذي نعمت به المنظمات الإرهابية في "لندنستان" بالإضافة إلى شجاعة الاعتذار عن خطأ، وجرائم الشرف والغضب، وكارثة ظهور أطباء إرهابيين، والنبوغ العلمي المقترن بالإنسانية الكريمة، كما يتجسد في شخص الدكتور مجدي يعقوب.
ويضم المحور الرابع بعض هموم الوطن كما تنعكس في مرآة الكاتبة ويتناول بصراحة وشجاعة مشاكل الأقباط في إطارها الوطني الأوسع ويخاطب ضمير مصر لكي يظل دائماً وأبداً صاحياً يقظاً.
والقسم الأخير من الكتاب "مشاهدات وقراءات" يستعرض بعض الكتب والأعمال الفنية المثيرة للجدل، فيتتبع رحلة المسيحية من جبل ألوس في اليونان إلى الواحات الخارجة في مصر من منظور كاتب اسكتلندي قام بهذه الرحلة، ويعرض ديواناً للشاعر الطبيب شريف مليكة من شعر العامية المصرية ويتحدث عن أيقونات الفنان التشكيلي والروائي جورج البهجوري.
وعن صحيفة "وطني الدولي" بمناسبة انقضاء ثلاثة أعوام على صدورها، وعن أفلام وكتب أثارت ضجة مثل "آلام المسيح" و"شفرة دافنشي" موضحاً كيف ينبغي أن يكون التعامل المستنير المتحضر مع مثل هذه الأعمال التي قد تخدم كثيرين.
إنه حقاً كتاب نافذ البصيرة، مكتوب بمداد الصدق وجامع بين العقلية العلمية والحساسية الأدبية، بل كتاب نادر ينبغي أن يقرأ وبعناية شديدة.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1889&I=51