بقلم:حسن طلب
أود فى البداية أن أذكر القراء بأن تعبير «الثقافة ليست بخير»، هو عنوان كتاب للشاعر الرائد أحمد عبدالمعطى حجازى، وقد صدر الكتاب منذ حوالى عامين، عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وقد احتفلنا بالكتاب وصاحبه فى حينه، وناقشناه بمشاركة الدكتور سعيد توفيق والروائى جمال الغيطانى وآخرين.
ولعل مواطن الداء التى رصدها هذا الكتاب فى جسد الثقافة المصرية، أصبحت اليوم وقد فشت وتضاعفت، فالأحكام القضائية لم تزل تلاحق الأدباء والفنانين والكتاب، لصالح الدجالين والمشعوذين ممن يتسترون وراء عباءة الدين، ومصادرة الأعمال الإبداعية لم تزل قائمة على قدم وساق، بل إنها لفى اطراد مخيف، حتى لقد وصل الأمر أخيراً إلى الحكم الذى فاجأنا جميعاً بسحب ترخيص مجلة «إبداع»!
على أن الأمر سيهون لو وقف عند هذا الحد، فالمثقفون قادرون - إذا هم اتحدوا وخلصت نواياهم - على أن يخوضوا معركتهم إلى النهاية، فى مواجهة هذا المد الظلامى الهائج.
غير أن الكارثة الكبرى، هى أن الجبهة تحولت إلى جبهات عدة، والمعركة الواحدة أصبحت معارك شتى، فالمثقفون الحقيقيون الذين نذروا أنفسهم بإخلاص وحماسة للدفاع عن حرية التفكير والاعتقاد والإبداع، أصبحوا اليوم وقد أحيطوا بأكثر من عدو يتربص بهم عن اليمين حيث فريق المتأسلمين المتاجرين بالدين، وعن الشمال حيث أدعياء الثقافة المتاجرين بالكلمة.
وأذكر أننى كنت وقفت عند بعض سماسرة الثقافة هؤلاء، فى مقال غاضب حاد، ولكنه صريح كضوء النهار، ونشرته فى إحدى الصحف الأدبية تحت عنوان: «الحبابكة والألياث فى حياتنا الثقافية»، وأشرت فيه بالاسم والمنصب إلى اثنين من كبار المسؤولين عن الفساد الثقافى فى مصر، أحدهما انتقل إلى رحمة ربه منذ ثلاث سنوات، والثانى انتقل - أنسأ الله فى عمره - إلى موقع قيادى آخر يمارس فيه هوايته غير البريئة!
وأذكر أن الأصدقاء قالوا لى بعد نشر المقال: كان لابد من أن يذهب هذان المسؤولان إلى السجن، أو تذهب أنت، لو أننا فى بلد محترم! أما رئيس تحرير تلك الصحيفة فقد علق على المقال بأن المتهم الثانى هو الأخطر، لأنه يلعب فى عصب الثقافة المصرية، وينفث سمه القاتل فى شرايينها!
وما كان ليدور بخلدى أيامها أن السنوات سوف تمر، فإذا بالمصالح قد التقت، وإذا بالصفقات قد أبرمت بليل، فتبدلت المواقع، لأرى رئيس التحرير المذكور يضع يده فى يد الأفعى، ليشعلا معاً حرباً شريرة خبيثة، لا هدف لها إلا النيل من الشعر المصرى فى شخص أحمد عبدالمعطى حجازى، أو من أحمد عبدالمعطى حجازى فى صورة الشعر المصرى!
وفى ظل هذا الحلف غير المقدس، بدأت الصحيفة مع مثيلات لها طقوس نعى الشعر المصرى، وتجرد الناقد إياه ليعلن على صفحاتها أن مصر ليس بها شاعر كبير واحد، فسائر من فيها هم من شعراء الطبقة الأدنى، أما الطبقة العليا - على طريقة الجمحى - فقد احتفظ بها طبعاً لأسماء بعينها من هذا القطر العربى أو ذاك، وهى أسماء يعرف أصحابها قبل غيرهم، مقدار ما فى هذه الأحكام الموتورة من جهل، كما يدركون ما وراءها من نفاق!
كان ملتقى القاهرة الدولى الأول للشعر العربى قد انفض، ولم تذهب جائزته إلى الرائدة نازك الملائكة كما كانت تريد الأصوات العاقلة العادلة فى لجنة الشعر وخارجها، وإنما ذهبت إلى محمود درويش كما خطط أمين المجلس وقتها، حتى لقد أجل موعد الملتقى بعد إبلاغ المشاركين به، إلى أن عوفى من مرضه، فى سابقة لا تعرفها إلا البلاد المتخلفة مثلنا! ولاشك فى أن نازك ودرويش كليهما يستحقان الجائزة، ولكن يبقى لنازك - رحمها الله - حق الريادة عند من يعرفون قيمتها، ويقدرون فضيلة النزاهة، أما الباحثون عن المنافع العاجلة أو الآجلة، فليس عند نازك منها ما يطمعهم!
لم يكد ينقشع غبار الملتقى الأول، حتى كان هذا الحلف غير المقدس يواصل بضراوة حملته المنظمة على الشعر المصرى، فى شخص رائده أحمد عبدالمعطى حجازى حيناً، وبصورة سافرة حينا آخر، وبتقديم أسماء الشواعر والشعارير من العرب على زملائهم المصريين حيناً ثالثاً، وكأنما أرادت تلك الصحيفة أن تطبق عملياً أفكار الناقد الهمام عن تخلف الشعر المصرى ودونيته!
وقد أصابنى أنا نفسى شىء من هذا الكيد المبيت، حين نشرت منذ عامين إحدى قصائدى فى تلك الصحيفة، فعقدت العزم على أن تكون هذه هى المرة الأخيرة، حتى لا أتيح لهؤلاء أن يمارسوا مؤامرتهم على الشعراء المصريين بتقديم من هم دونهم عليهم، وقد عتبت على صديقى الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة، حين نشر منذ شهور قصيدة فى تلك الصحيفة، فعرضها وعرض نفسه لما لا يليق بمكانته.
وقد بلغت هذه الحرب غير الشريفة ذروتها هذه الأيام، عقب انتهاء مؤتمر القاهرة الدولى الثانى للشعر العربى فى الشهر الماضى، حيث أطلق بعض أقطاب هذا الحلف جراءهم من الحظائر لتنبح أحد رموز الثقافة المصرية والعربية المعاصرة، وانضم إليهم بعض أوليائهم من الشعارير الذين يشرفون على القسم الثقافى فى إحدى الصحف العربية التى تصدر فى لندن، ويالها من جناية للصحافة على الشعر.
فلم يكد يبقى من صحفى يعمل فى القسم الثقافى إلا وأصبح بحكم منصبه شاعراً أو قاصاً أو روائياً! لاسيما ذلك الشاعر الذى كان ضيفاً دائماً من لبنان على سائر مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة فى عهده الغابر، ولأنه رأى كيف أن بعض الصحف المصرية قد مثلت بالشعر المصرى وأنزلت رموزه إلى الدرك الأسفل، فلم لا يتجرأ ليقول إن فى مصر مؤتمرين للشعر، ولكن الشعر مع ذلك قليل!
ويحتار دليل المرء إذا حاول أن يفهم أسباب هذه الحملة المسعورة على أحمد عبدالمعطى حجازى وعلى الشعر المصرى عامة منذ أكثر من عامين؟! ألأنه فاز بجائزة الملتقى وهو مقرر لجنة الشعر؟! ولكن الحملة المسعورة أقدم من هذه الواقعة بعامين على الأقل!
وهب أننا صدقنا دعاواهم على علمنا بزيفها، ألم يكونوا يعلمون أن الجائزة مخصصة هذه الدورة للشعر المصرى بعد أن نالها فى الدورة السابقة شاعر عربى؟ فهل فى مصر من يدعى أنه أجدر بجائزة الشعر من أحد رواد الشعر الحداثى ورموزه الكبيرة؟ هل هناك من يزعم أنه يستحقها قبل أحمد عبدالمعطى حجازى؟
هل محمد عفيفى مطر مثلاً كما رشحه بعض المغرضين الذين لا يريدون الخير لعفيفى مطر بقدر ما يضمرون الشر لحجازى؟! وإنى لأظن أن عفيفى مطر نفسه هو أول من يعلم منزلة حجازى ويقدر تاريخه ودوره وريادته، فما أخاله كان سيقبل أن ينافسه على الجائزة، بالضبط كما لن يقبل شاعر مثلى أن ينافس عفيفى مطر أو فاروق شوشة عليها!
ولا شك لحظة واحدة فى أن أعضاء ذلك الحلف غير المقدس، يعلمون علم اليقين منزلة حجازى، فهم يعلمون أن شعراءهم المفضلين مثل أمل دنقل ومحمود درويش وغيرهما، كانوا لا يفتأون يجهرون بفضل حجازى عليهم، ويعتبرونه واحداً من أساتذتهم، ولكن أعضاء ذلك الحلف يغالطون أنفسهم قبل أن يغالطوا غيرهم، فيتمحكون بحجة شكلية متهافتة، هى أن الجائزة ما كان يصح أن تذهب إليه وهو «رئيس الملتقى».
وفى هذه الدعوى افتراء واضح، فأحمد عبدالمعطى حجازى هو مقرر لجنة الشعر وليس «رئيس الملتقى»، وإنما الرئيس هو أمين المجلس الأعلى للثقافة الأستاذ على أبوشادى نائباً عن الوزير، فهو المخول قانوناً بتشكيل لجنة التحكيم التى منحت الجائزة لأحمد عبدالمعطى حجازى بالإجماع، وهى لجنة يعرف القاصى قبل الدانى رئيسها وأعضاءها، وكلهم من النقاد والشعراء المحترمين المشهود لهم بالنزاهة فى الحياة الثقافية المصرية والعربية، من الرئيس الدكتور عبدالسلام المسدى، إلى الأعضاء الأساتذة والدكاترة: على جعفر العلاق وفاروق شوشة ومحمود الربيعى ومحمد عبدالمطلب، فهل يستحق واحد من هؤلاء مثل ذلك الطعن والتجريح والتشكيك فى الضمائر، الذى تولاه الصغار نيابة عن سادتهم من الكبار؟!
أم أنهم كانوا يريدون لحجازى أن يستقيل من المنصب الشرفى: مقرر لجنة الشعر قبل حصوله على الجائزة؟ وآه لو كان قد فعل إذن لسطروا ما سطروه عن التمثيلية الهزلية التى لم يقدم فيها البطل استقالته، إلا لأنه يعلم سلفاً أن الجائزة آتية لا ريب!
ألم يسأل هؤلاء الموتورون أنفسهم: ما الذى يحوج حجازى إلى استغلال منصبه الشرفى للحصول على جائزة يؤهله لها تاريخه ودوره الريادى الكبير؟! وما قيمة هذه الجائزة مادياً، مقارنة بما يحصلون هم عليه من جوائز عربية ونياشين أوروبية لم تأت إليهم إلا بقيراط عمل وفدان شطارة؟! سيقولون إننا ندافع عن المال العام، وأقول لهم ونحن ندافع عن مطلق الجدارة، أما المال العام فإذا أردتم فهناك مظان أخرى لتبديده، لدى أولئك الذين يستلحقون بعض الصحفيين والمحاسيب ويغدقون عليهم بلا حساب تحت بند: المستشارين؟!
لقد تناسى أعضاء ذلك الحلف غير المقدس، أن هناك قيماً لابد أن تراعى، هى قيمة الريادة، وقيمة الإخلاص للشعر كتابة ونقداً وحواراً ونشاطاً ورعاية للأجيال التالية، ألم يكن «أحفاد شوقى» هو أول كتاب عن شعراء السبعينيات الذين لم يلتفت إليهم قبل هذا الكتاب أحد من النقاد؟ أم أنهم يتخذون من انقطاع حجازى عن كتابة الشعر منذ حوالى عشرة أعوام ذريعة.
ويالها من ذريعة لا ترتد إلا عليهم، فلو أننا نظرنا إلى معظم من يواصلون الكتابة والنشر، فلن نرى فيما ينشرونه إلا غثاء خير منه الصمت، ومن يدركون هذه الحقيقة من أصحاب البصيرة، لا يستطيعون إلا أن يحيوا حجازى على احترامه لإنجازه الريادى الكبير، بحيث يبقى مصراً على ألا ينشر شعراً جديداً إلا إذا وجده يليق بذلك الإنجاز، ثم ماذا سيقول هؤلاء إذا طلع علينا حجازى اليوم أو غداً بقصائد جديدة تخرس ألسنتهم، على نحو ما فعل «فاليرى» فكتب رائعته «المقبرة البحرية» بعد توقف دام خمسة عشر عاماً!
لقد استلذ أعضاء هذا الحلف غير المقدس، هواية تجريح الرواد والرموز والأعلام الكبار فى الفن والأدب، ونحن شهدنا من قبل، ونشهد اليوم أمثلة شتى لهذا النشاط السادى المريض، حتى لمن رحلوا من الأعلام مثل حسن سليمان ويوسف شاهين، وكأنه داء مصرى مخصوص، أو جرثومة مصرية متوطنة قد لا يبرأ منها جسد الثقافة إلا ببتر العضو المصاب! ألم يهزأ أمثال هؤلاء من قبل بنجيب محفوظ ويشككوا فى جدارته بجائزة نوبل ويتهموه فى وطنيته! وموضع حجازى من خريطة الشعر، هو نفسه موضع نجيب محفوظ من خريطة الرواية، فما أشبه اليوم بالبارحة!
كيف يمكن إذن للثقافة المصرية أن تتعافى؟ كيف لها أن تصبح بخير؟ إنه طريق واحد لاغير، أن نفضح سماسرة الثقافة ونفوت عليهم فرصة تحقيق مآربهم، فليعمل الفنان من أجل الفن وحده، والسينمائيون من أجل السينما وحدها، والروائيون والمسرحيون والنقاد.. وإذا بقيت كلمة أود أن أخص بها الشعراء، فهى أن ينأوا بأنفسهم عن أن يكونوا أداة فى أيدى المغرضين، وأن يخلصوا للشعر وحده، حيث لا يوجد شعر بديل عن شعر، ولا شاعر يسد مسد آخر.
نقلاً عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1873&I=50