العلامة "عزيز عطية" ودوره فى تحقيق المخطوطات ..2-2

نسيم مجلي

بقلم : نسيم مجلي
وأود قبل الحديث تفصيلا عن كتاب "قوانين الدواوين" أن أعطى لمحة عابرة عن تحقيقه  لكتاب "الإلمام" للإمام النويرى الاسكندرانى ( المتوفى بعد سنة 775 / 1372 م ) الذى نشر لأول مرة فى سلسلة " مطبوعات دائرة المعارف العثمانية " بحيدر أباد الدكن بالهند ، وعنوانه " كتاب الإلمام  بالأعلام فيما جرت به الأحكام والأمور المقضية ، فى وقعة الإسكندرية وعودها إلى حالتها المرضية" وذلك على أثر الكارثة التى نزلت بالمدينة فى حملة القبا رصة وحلفائهم  من أوربا أثناء عام 767/ 1365 م ) فدمروا منها ما استطاعوا تدميره ونهبوا ما أمكنهم حمله من كنوزها .وعن ذلك يقول د. سوريال  فى   تقديمه للكتاب  :
 
" وكان غرض المؤلف الأول من تحرير الكتاب هو تسجيل مذكراته ومشاهداته وما أمكنه جمع شتاته من المعلومات عن تلك الحملة الصليبية الجامحة الكاسحة ، ولكنه أخذ فى الاسترسال فى الحديث عن شتئ الفنون بمستطردات واسعة فى الأدب والتاريخ والفقه وعلوم الكلام والحديث القصصى وغير ذلك من الموضوعات التى لا تمت للغرض الأصيل مما زخر به الكتاب حتى اصبح أشبه بموسوعة أدبية عامة منه بسجل تاريخى خاص"

ثم يضيف قائلا : "ورغم ذلك فإن كتاب النويرى يعتبر بلا نزاع الحجة الأولى عن تاريخ تلك الحملة من الناحية الشرقية المصرية بقدر ما اصبح كتاب غليوم أو جيوم ما شوه،  المكتوب بالفرنسية القديمة هو  المرجع الأكبر لتلك الحركة الصليبية من الجانب الغربى باعتبارأن الكاتبين شاهدى عيان لتلك الأحداث من زاويتين مختلفتين ".

ومن هذا نعرف أهمية هذا الكتاب الذى جمع مخطوطاته وحققه الراحل عزيز سوريال. إن بحثه عن هذه الوثائق واخراجها يمثل عملية اكتشافً خطيرةً وأساسية من أجل الوصول إلى مصادر المعرفة التاريخية الموثقة وهذا ما يتضح من رحلته فى البحث عن كتاب "قوانين الدواوين" لابن مماتى الذى نشرته الجمعية الزراعية برئاسة الأمير طوسون سنة 1943 الذى يقول  فى مقدمته:  
"أبلغنا حضرة صاحب العزة محمد رمزى بك أن حضرة الأستاذ الدكتور عزيز سوريال عطية – أستاذ تاريخ العصور الوسطى بجامعة فاروق الأول – عنى بهذا الكتاب منذ أن كان موجوداً بأوربا ، ووفق فى الحصول على الكثير من نسخه ( المخطوطة ) الموزعة بين مختلف دور الكتب الأوربية والمصرية ، فرأينا إسناد هذا العمل إليه لما عرف عنه من مقدرة وأمانة ، فقام على ذلك بهمة نرى أثارها بين دفتى الكتاب ، وبذل فى العناية بتحرى الأصول والتدقيق الكامل فى إثبات نصوص النسخ المتعددة ، جهوداً مضنية يلمس أثرها القارئء بنفسه ، مما يستحق عليه أجزل الشكر "
     
أما ابن  مماتى  مؤلف الكتاب فهو  كاتب وشاعر ورجل دولة  عاش فى عهد الأيوبيين . ألف أكثر من عشرين كتاباً ، ولكن القراء لا يعرفون له سوى كتابين " الفاشوش فى أحكام قراقوش" و " قوانين الدواوين "
والفاشوش فى أحكام قراقوش" ينتمى إلى أدب الفكاهة والسخرية والهجاء ويمثل بحق أسلوباً فنياً بارعاً فى تصوير الغرابة والشذوذ وإحداث المفارقة  وهذا الكتاب الذى اضحك اجيالاً ولا زال يضحكنا ، كتبه صاحبه باللغة العامية المصرية ، ووصل به الى أعرض الجماهير حتى صار قراقوش فى المخيلة الجماعية للشعب المصرى مثالاً لكل حاكم اخرق ينحرف عن طريق العقل والمنطق فى سلوكه وتصرفاته .
 
أما الكتاب الآخر " قوانين الدواوين" فهو كتاب علمى صرف يمكن اعتباره بحق من الكتب الفريدة فى بابها ، العظيمة فى قيمتها، فهو يصف لنا حالة البلاد المصرية خلال القرن السادس الهجرى أو الثانى عشر الميلادى على وجه التقريب .
 
وإذا نظرنا فى محتويات هذا الكتاب الثمين ، ظهرت لنا الثروة العلمية التى جمعها المؤلف ، والتراث التاريخى والجغرافى والزراعى الذى انطوى عليه ، هذا إلى جانب المسائل الأخرى الكثيرة التى تعرض لها الكتاب ، والتى تجلو لنا الكثير مما غمض فى صدر عصر من العصور الزاهية فى تاريخ الدولةالإسلامية وحضارتها .وهذا ما يوضحه دكتور سوريال فى المقدمة حيث يقول :
 
ولما كان هذا الكتاب يعالج موضوعات عدة ، متباينة فى طبيعتها ، كان لزاماً علينا فى هذه المقدمة أن نشيد بذكر الأهم منها ، وأن نضعه فى المرتبة ونوجه نظر القارئء إليه ، حتى يهتدى بذلك إلى تقدير ما جاء بين دفتيه .
 
أما الموضوعات الأساسية التى تعرض المؤلف لها فى هذا السفر الجليل ، فيمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات نلخصها فيما يأتى :
أولا- ما يتعلق من بينها بجغرافية القطر المصرى فى العهد الأيوبى ، حيث تكلم ابن مماتى بصفة عامة عن مصر ونهر النيل فى الباب الثانى ثم انتقل بعدئذ فى الباب الثالث – على حد قوله – إلى ذكر أعمالها ، وتفاصيل نواحيها ، وتحقيق أسماء ضياعها وكفورها ، وجزايرها ،ومناءها ، وكل ما يقع عليه اسم الديوان منها.ونكتفى الآن بالإشارة إلى أن القوائم الضافية التى تمثل فى هذا الباب هى اقدم ما عرف من نوعها فى تاريخ مصر الإسلامية ، وننشرها اليوم لأول مرة ولنا إليها عود ، يضاف إلى ذلك ما ورد فى " الباب الخامس " من الكتاب " فى ذكر خلجانها وترعها وجسورها "
 
ثانياً – تصدى المؤلف إلى الكثير من المسائل الخاصة بأنظمة الحكم فى عصر بنى ايوب ، مثال ذلك  "الباب الثامن " الذى استعرض فيه وظائف الدولة الهامة وشرح اختصاص كل منها كما انه أتى فى الأجزاء الأخيرة من الكتاب على شذرات كثيرة طريفة عن بعض الدواوين ودور الحكومة وموارد الدولة المالية .
 
ثالثاً – أفاض الكاتب فى شؤون البلاد الزراعية فذكر أنواع الأراضى المختلفة والفصول الزراعية وأنظمة الرى وأنواع المزروعات وأوقات غرزها وحصادها والبساتين وأوقات تقليم الأشجار، وغير ذلك من المعلومات فى أبواب شتى تدلنا محتوياتها على حالة الزراعة ونظمها وقتئذ بدقة تدعو إلى الإعجاب بعلم المؤلف الغزير كما أنها تدلنا على تقدم الفلاحة فى ذلك العهد إلى حد أبعد مما يتصوره الكثيرون . وقد عرضنا بعض اجزاء المتن على عدد من كبار إلاخصائيين فى فن الزراعة ففهمنا من ملاحظتهم أن كثيراً من أسس الزراعة  فى ذلك العصر يتفق وما وصل إليه البحث الحديث فى هذه الناحية التى تعوزنا فيها المادة التاريخية.

غير أن ما ذكرناه ليس كل شئ فىء هذا المؤلف النفيس . فالكتاب ، على صغر حجمه نسبياً ، زاخر بمختلف الأبحاث والموضوعات . ولما كان مصنفه من أصل قبطى ، فقد استطاع أن يجمع إلى جانب فقه المسلمين علم الأقباط فى شتى المسائل التى اختصوا بها دون غيرهم من طوائف الأمة المصرية وطبقاتها ، ومثال ذلك ما جاء فى " الباب السابع" عن أصول مساحة الأرض وبعض القضايا الهندسية التى يمكننا اليوم إثباتها بأحدث الطرق العلمية . وبالكتاب ايضاَ ملاحظات جمة عن السنة القبطية وعلاقتها بالزراعة المصرية وما هذا إلا قليل من كثير مما يمكن القارئء استيعابه فى المتن.
 
وقيمة الكتاب ليست مقصورة على سعة اطلاع المؤلف وغزارة علمه وحدة ذهنه ، وانما ترجع كذلك إلى مكانته الخاصة فى المجتمع المصرى ومركزه السامى فى حكومة البلاد ، فإبن مماتى – كما سيظهر من تاريخ حياته فيما بعد – تقلب فى كثير من داواوين الحكومة ، وانتهى به الأمر إلى تقليد الوزارة نفسها ، وبذلك أصبح كل ما يكتبه ذا صبغة خاصة تجعله وثيقة رسمية صدرت عن قلم أحد وزراء الدولة المسئولين.
 
كتاب " قوانين الدواوين " إذن من وثائق الطراز الأول . وهو ، على اختصاره وعدم إمعانه فى استعراض المسائل المفصلة كل التفصيل ، يحمل كثيراً من الصفات التى امتاز بها ذلك النوع المعروف من الموسوعات العظيمة التى ظهرت فى العصور الوسطى الإسلامية.
 
ومهما يكن من شئء فإن رائدنا فى العمل هو محاولة إظهار هذا الكتاب كما دونه مؤلفه ، لا كما يريد بعضهم من إدخال أى إصلاح أو تنميق حديث مصطنع على نصه ، فاحتفظنا بكل ما فيه من ألفاظ واصطلاحات وعبارات قد تبدو غريبة ، وتركنا أخطاءه اللغوية والنحوية والإملائية – عدا ما لا يمكن التهاون فيه- وأسلوبه الأثرى دون تغير ، وهذا قد يعده البعض تقصيراً من الناشر ، آلا أننا رأينا العمل على تلك القاعدة واجباً لا مفر منه تقضى به الأمانة الأدبية .
 
إن مؤلف كتاب " قوانين الدواوين " لم يكن أول شخص عظم شأنه فى دواوين الحكومة من بين أفراد آسرته ، إذ نجد أن جده أبا المليح الذى عاش بمصر فى العصر الفاطمى عمل فى خدمة الوزير بدر الجمالى والخليفة المستنصر حتى بلغ فى سلم الترقى إلى وظيفة " مستوفى الديوان وهى من الوظائف الرئيسية فى الدولة الفاطمية ، وبعد موته تولى ابنه واسمه المهذب بن أبى المليح رئاسة " ديوان الجيش " والدولة الفاطمية تحتضر فى وزارة أسد الدين شيركوه السنى المذهب ، وفى عهده أسلم هو وأولاده لكى يفلت من التضييق الذى وقع فيه النصارى وقتئذ ، ويحتفظ بمكانته السامية فى دواوين الحكومة ، وأما ابنه وهو حفيد أبى المليح واسمه الأسعد فقد قضى الجزء الأول من حياته فى عصر الانتقال من الفاطميين للأيوبيين ، وورث فى بداية الأمرعن أبيه وجده " ديوان الجيش" الذى احتفظ به فى عهد صلاح الدين الأيوبى (564-589/1169-1193 م) وسلطنة ابنه العزيز عماد الدين عثمان (589-595 /1193-1198 م )

ويظهر مما ورد فى رواية ياقوت الرومى أنه أضيف إليه أيضاً " "ديوان المال "الذى اعتبر فى كل عصر من العصور أهم الدواوين والوزارات ، ويلوح أنه ظل محتفظاً بوزارته ودواوينه أيضاً خلال سلطنة المنصور محمد ( 595-596/1198-1199 م) ، وشطر من سلطنة العادل سيف الدين أبى بكر (596-615/1199-1218م)ولكن كثرت عليه المؤامرات فى عهد هذا الأخير ، وأودت بمركزه وماله ، وآدت إلى هروبه فقيراً ذليلاً إلى ما وراء الحدود المصرية فى الشام حيث قضى بقية أيامه بمدينة حلب ومات بها فى جمادى الأولى عام606 ( نوفمبر1209م) وعمره إذ ذاك اثنتان وستون عاماً.
 
ثانياً: يلاحظ أن الوزارة لم تشغل الأسعد عن الأدب والتأليف ، ونظرة واحدة فى أسماء  الكتب التى صنفها والتى ذكر أكبر عدد منها ياقوت الرومى تكفى ٌلإيضاح هذه الحقيقة ، ولكن الغريب فى ذلك هو أنه لم يتحدث عن "كتاب قوانين الدواوين " من بين قدماء المؤرخين سوى المقريزى ، وربما كان ذلك راجعاً إلى أن المقريزى من بين هؤلاء المؤرخين هو الوحيد الذى اهتم بمثل ما ورد فى ذلك الكتاب من المحتويات، بينما أقتصر الآخرون على الناحية الأدبية البحتة من تآليفه ، ورواية المقريزى فى هذا الصدد عظيمة الشأن ، ويفهم منها أن أبن مماتى ألف الكتاب للملك العزيز ، ثم يزيد على ذلك أن الكتاب المتداول فى أيدينا إنما هو نسخة مختصرة من الكتاب الأصلى الذى كان يقع فى أربعة مجلدات ضخمة .

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع