الفنانة

أنطونى ولسن

بقلم : أنطونى ويلسن
- متشكرَّة.. سوري.. ثانك يو..
- العفو..
- الله، هو انت بتتكلم عربي..؟
- ليه.. شايفة شكلي خواجاتي..؟
- لأ .. لا مؤاخذه ..
- ولا يهمك.. أيه الحاجات دي كلها.. دا باين عليكي اشتريتي دافيد جونز بحاله.. هاتي خليني اساعدك.
- ما فيش داعي للتعب ده..
- يا ستي ولا يهمك.. لكن انت حاتروحي ازاي.
- لا ما تخافش.. انا راكنة العربية في بارك ستريت..جنب المحل.

 ساعدها في حمل المشتريات التي اشترتها من دافيد جونز في البلد. سارا في بارك ستريت حيث تركت سيارتها، وهما يتحدثان ويقهقهان وكأن كلاًّ منهما يعرف الآخر منذ فترة طويلة، وليس منذ بضع دقائق فقط.
  وما ان وضعت الأشياء التي تحملها في عربتها، واخذت منه ما كان يحمل، حتى ادارت محرك السيارة المرسيدس ولوحّت له بيدها مودعة، فلوّح لها بيده ايضا مودعا.

لم يعرف اسمها، ولم تعرف اسمه، وكأن كلا منهما يعرف الآخر تمام المعرفة، فلا داعي للسؤال عن الاسماء. هل من المعقول اذا قابلت صديقا لك او قريباً أو حبيباً في مكان عام وتحدثتما معاً، وترك احدكما الآخر، هل قبل ان تفترقا، تسألان عن اسم كل منكما وتقومان بالتعارف؟ لا أطن ابدا. وهذا ما حدث بينهما.

ادار ظهره الى حيث كان مزمعا ان يذهب، الى دافيد جونز ليشتري «ساندويتش» ويلف داخل المحل، وبخاصة في القسم الرجّالي لعله يجد شيئا معروضا، ذوقه جميل ويكون سعره معقولا.
اما هي، فسارت مسرعة قبل ان تتحول اشارة المرور الى الأحمر، متجهة الى اليمين في «كلارنس ستريت» ثم واصلت سيرها الى نورث سدني حيث تعيش.

لا أظن،ولا يظن احد بأن مثل هذه الصدفة، تكون مجرد صدفة شخصان، رجل وامرأة تقابلا عند مدخل احد ابواب محل كبير مثل دافيد جونز. هي حاملة مشتريات كثيرة تمنعها من فتح الباب في اللحظة التي يهم هو بالدخول، يفتح لها الباب، تشكره بلغته، تتأسف لأنها في استراليا والجميع يتحدث اللغة الانجليزية. يسيران جنبا الى جنب مساعدا لها في حمل مشترياتها، وبعد وضع الأشياء في سيارتها المرسيدس. تقول له «باي» ويرد عليها «باي». ويعود كل منهما الى ما كان مزمعا عمله قبل هذا اللقاء الغريب المفاجئ، دون ما تفكير، مجرد التفكير فيمن يكون كل منهما، وفي الصدفة التي جمعتهما.
  الحقيقة، في حياة كل منا صدف غريبة. ويلعب بنا القدر ألعابا لا نعرف كيف تفسر انزلاقنا في لعبها، وقد تكون من الخطورة بحيث تودي بحياتنا، أو تُدمر ما نعتز به ونعيش من اجله. قرأ تم قصصا تحوى بعضا من هذه اللقاءات العفوية، اللقاءات القدرية. قد يقول احكم.. سوف تجمعهما الصدفة مرة اخرى، ويتم التعارف ويصيران حبيبين، يتزوج كل منهما الآخر و «توته.. توته خلصت الحدوته».

  لا.. الواقع أغرب من الخيال.. ومهما كان خيالي وخيالكم من سعة الافق ومن قدرة على «السرحان»، فحكاية سالي أو «سلوى» و»رامي»، وما فيها من واقعية تجعلكم تؤمنون، وانا لا اشك بعدم ايمانكم مسبقا، بان «المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين».
اعود الى سالي كما يطلق عليها زوجها واهلها والى رامي ذلك الشاب الاسمر ذي الشارب الاسود والعيون البراقة الصافية، والابتسامة الرقيقة التي تجعل كل من يتحدث اليه، يشعر بتيار جارف من الصداقة والمودة بينهما.
  هي زوجة لطبيب اخصائي ناجح، من اسرة تعتبر الطب مهنة وراثية حتى في الزواج، ان لم تكن الزوجة، طبيبة، فعلى الاقل احد افراد اسرتها طبيب مثل الاب او الأخ، وإلا فلا زواج.

هكذا جمع شمل الدكتور عزت الاسيوطي وسلوى ابنة الدكتور رفعت شحاته وكيل وزارة الصحة. ولكون الزوج شابا ناجحا وله مكانته المرموقة في استراليا كأخصائي جراحة، فلا مانع عندها من الزواج منه على الرغم من كرهها مهنة الطب، التي رأت أمها تعانى  منها الأمرين مع زوجها، للوحدة، واحيانا للانعزالية التامة، كزوجة طبيب لكثرة مشاغله واهتمامه بمرضاه وشهرته.

  سلوى في الخامسة والعشرين من عمرها. انيقة جدا.. و "شيك" جدا.وابنة وكيل وزارة وطبيب ناجح وأم خريجة الفنون لوحا ت زيتية مبدعةولها ذوق فنى، لكنها لا تهتم كثيرا بهذا الفن لانشغالها في تربية ابنائها على الطريقة التي تراها الافضل لابنائها الخمسة. بنتان وثلاثة صبيان، الابن الاكبر حسام يعمل كطبيب ايضا، ذاع صيته في اوروبا كامهر جراح قلب في العالم، ترك مصر وتزوج من انجليزية وعاش هناك في انجلترا. كلما اراد رؤية والدته، يطلب منها الحضور اليه هناك لضيق وقته وانشغاله الدائم في عمله، اما ابنها الثاني رأفت، فقد انشغل بالفن عن كل شيء في الحياة، ورث عن امه حبه للفن، وقد منحه الله، موهبة خلاّقة في النحت والحفر، وبخاصة الخشب وله منها اشياء عديدة تحتل اماكن هامة في شوارع وميادين امريكا واوروبا مع الاسف، الدول العربية لا تعرف عنه شيئا. اخت سالي الوحيدة سامية، اختصرت الطريق وتخرجت من كلية العلوم وعملت مدرسة، وانتهى طموحها ونشاطها في ان تكون شيئا. تزوجت وهي سعيدة في زواجها وبأولادها ولا تفكر مطلقا في ترك مصر والعيش خارجها. يأتي بعد سالي اخوها الاصغر عماد، الذي يدرس الصحافة، ويحلم بان يكون يوما صحفيا مشهورا تتلّهف الناس الى كتاباته، ينتظر صدور الجريدة التي يكتب فيها، لقراءة ما يكتب هو دون سواه، ليصير يوما رئيس تحرير جريدة «الاهرام»، مثلما كان هيكل صاحب الاهرام ايضا، على الرغم من معرفته التامة بان هذا مستحيل.لكن يحلوله العيش فى..الخيال من وقت لآخر. وسالي نفسها، الابنة قبل الاخيرة ذات مزاج غريب. في دراستها نابغة. كان بامكانها دراسة الطب بعد ان انهت دراستها الثانوية، لكنها فضلت الحقوق لتكون محامية يشار اليها بالبنان، او وكيلة النائب العام لتصبح اول امرأة في العالم العربي تشغل هذا المنصب المقتصر حتى الآن على الرجال. فيها بساطة المرأة المصرية، تعيش حياتها بدون تعقيدات، تكره الرسميات.. انيقة «شيك» تهتم بنوعية لباسها وتناسقه العام. مع ذلك، عندما تذهب الى النادي مثلا ويكون اصدقاؤها في حمام السباحة، لا مانع عندها من الجلوس على حافة الحمام والتحدث معهم. او حتى الحلوس على حافة «الرصيف» اذا اقتضى الامر، لا يهم اتسخ ما ترتديه او ابتل بالماء.

  البساطة في حديثها وعدم التكلف، يجعلانها سهلة، التحدث مع الناس. اذا تحدثت اليك، لا تشعر انك تتحدث الى انسانة غريبة لم ترها في حياتك من قبل، بل على الفور يجذبك حديثها وشدّك اليها ولا تشعر بالوقت او الزمن الذي تقضيه معها.

لهذا لم يجرؤ شاب من زملائها بالجامعة، التحدث اليها بطريقة مبتذلة او مستهترة، لم يظن احدهم بانها تهتم به دون الآخر.متحدثة كأحسن ما تكون عليه طالبة الحقوق. قارئة واعية كأفضل ما يكون عليه الانسان المثقف. ليس لها هواية واحدة فهي تلعب التنس وبمهارة تمكنها من احتراف هذه اللعبة وكرة الطاولة «البينج بونج»، والسباحة والاسكواش. وصدقوني، في كرة القدم، كانت الجناح الايسر في الفريق النسائي للنادي.

  لم تفكر في الزواج، ولم تفكر في ان يكون لها صديق، او ما تسميه البنات الحبيب.. عندما تذهب الى سريرها تقرأ قليلا ثم تغمض عينيها وتنام نوما هادئا. لا كوابيس حب، ولا احلام غرامية. لا وقت للحب. الحب في رأيها هو لكل شيء، للورود.. للطيور.. للحيوانات.. لأمها.. لاخوتها ولوالدها طبعا. ثم يأتي الزوج.. الزوج هنا.. هو ذلك الرجل الذي يتقدم اليها، سواء عن طريق المنزل او عن طريق النادي، او من الجامعة، رجل، رجل عندما تضع يدها في يده مصافحة، تشعر بهذا المس الكهربائي الذي يؤكد لها انه جدير بان يكون ابا لاولادها ليست فقط تريد زوجا غنيا مثلا.. او وسيما.. او ذا مكانة مرموقة في المجتمع. لا.. انها تريد رجلا يكون ابا لاولادها.. رجلا يرعاهم ويخاف عليهم ويعمل المستحيل لتربيتهم وتنشئتهم النشئة العلمية والاجتماعية والخلقية والدينية الواجبة.. رجل يقدس العائلة ويضعها في المقام الاول.. اذا وجد هذا الرجل فهو زوجها.

   كيف تعرفين هذا الرجل دون مخالطة أو سابق معرفة؟. يكفي هذا الشعور عندما يأتي لخطبتي من اهلي، عندما يضع يده في يدي مصافحا واشعر بهذا المسّ في يده. العيون كاذبة وتخدع. وقد تعلم الرجال التلاعب بالعيون، بعدما كانت العيون مرآة القلب. في عصرنا، العين هي اللافتة التي يكتب عليها الرجال ما يريدون من كلمات الولع والهلع والحب والجنون. لم تعد تلك البحيرة الصافية بل صارت هذا المحيط الذي يبتلع في موجاته العاتية كل من يستطيع مقاومة امواجه. لا صدق في العيون الآن.. «والكلام لها».. عيون تجارية.

  اما اليد «وهذه فلسفتها ايضا».. فهي المدخل الى القلب.. ومن هذا المدخل، يستطيع الانسان معرفة نوعية هذا القلب ولن تكذب اليد.. لان صاحبها لم يعد نفسه لهذا الاختيار.. ايضا ليس مثل العين هنالك فاصل، ولا يمكن الالتصاق والتماس مثل اليد. اليد تجري فيها الدماء المتدفقة من القلب، ويستطيع المرء ان يميز بين يد انسان مخادع او انسان صادق بسهولة. انسان ناجح او فاشل. انسان اناني محب لذاته.. او مخلص متفان في حب الناس وبيته، وذلك عن طريق الاتصال باليد، فهي الوسيلة الاولى والباب الاول الذي يمكن ان يتم عن طريقها بغية الالتصاق، لانها الجزء الوحيد من الجسد الذي يبيح الناس رؤيته ملتصقا بالطرف الآخر دون غمز او كلام. ليست مثل القبلة، ولا بالطبع، مثل لغة العيون المخادعة التي صارت تجيد التمثيل، وتلعب جميع الادوار التي تريد ان تلعبها او ان تتظاهر بها امام الناس. فلسفة..؟! او ان كانت غريبة لكن سلوى او سالي مؤمنة بها. ومن هذا المنطق، تم زواجها من الدكتور عزت الاسيوطي.
  في ذلك اليوم، كانت نتيجة الليسانس قد أعلنت، علمت سلوى بنجاحها وحصولها على تقدير جيد جدا. لم يكن هذا الخبر ذا تأثير عليها، لانها كانت تلاعب احد «فراودة» التنس في النادي، وكلّ همها ان تفوز وتتغلب عليه، عندما صاحت زميلتها صافينازبالخبر شكرتها سلوى في سرعة وهي واضعة كل اهتمامها في «الماتش» الذي تلعبه.

  عادت الى المنزل بعد ان فازت على زميلها اكرم، الذي لم يستطع هزيمته الكثير من «عتاولة» النادي. وما ان دخلت، حتى فوجئت بوجود والدهابالمنزل على غير عادة، فغالبا هو في الوزارة. انها الثانية بعد الظهر.. هل علم بنتيجة الليسانس وجاء ليهنئها؟ امعقول هذا؟ ام انه استطاع ان يجد لها وظيفة وكيل للنائب العام ، فجاء بنفسه ليخبرها بهذا الخبر العظيم . انه فى غرفة الجلوس .. ومعنى هذا ، وجود ضيوف  ..  يا
ترى من هم ؟!.
يتبع .. وإلى لقاء ...

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع