سامح سليمان
بقلم : سامح سليمان
إن الكثير مما نؤمن بصحته، مهما كانت أهميته وأقدميته، ليس إلا صناعة بشرية، فالمجتمع هو الخالق لمعظم المعتقدات والأيدلوجيات، كالأخلاق مثلاً فهى نتاج بشرى لمجموعه من المفاهيم، وهو نتاج تراكمى نسبى متغير بتغيربتغير الظروف التى أدت لتشكيله وصياغته،كما أنه (المجتمع) أكتسب بمرور الزمن أعتقاد بأمتلاكه لجودة وصلاحية دائمة, نتيجة شيوع فكرة أنتسابه وأنتاجه من قوه علوية، لدى بعض المجتمعات العاشقه للتحجر والجمود.
فالأخلاق هى منتج مجتمعى ابتكرته وأرتضته العقلية الجمعية،لأسباب سياسية وأقتصادية وثقافية وإجتماعيه؛ ليكون مقياس للحياة الصائبة. أو هى المبادئ والقواعد التى يجب على الفرد إتباعها ليحيا حياة صحيحة، بحسب إرادة ورؤية القائمين على إدارة المجتمع، وصياغة بنيته المعرفيه، وتشكيل وتوجيه الرأى العام، أى هى ما تم التسليم بجودته وبمنطقيته كمنظومة قِيَميَة، والإتفاق على صواب ممارسته من سلوكيات.
إننا فى حاجة ملحة لألغاء ما قد أنتهت صلاحيتة من مرجعيات، وأعادة مراجعة وتكوين وصياغة للمنظومة الفكرية والقيمية والأخلاقية السائدة، والمعتمدة، والمسلم بها فى مجتمعاتنا، بحسب ما هو معترف به من نظريات علمية ونظم قِيميَة وإجتماعية محددة لشكل العلاقات فى المجتمعات العقلانية المتحضرة.
ويجب ألا ننسى أن جميع الأديان الإبراهيمية التى يدين بها أكثرية سكان منطقتنا العربية، كانت توصَف - فى بدايتها - بالكفر والضلال واللامنطقية، وكان المجتمع آنذاك يتهم مؤسسيها ومعتنقيها بالخيانة والمروق والعصيان وإتباع الشيطان، وإزدراء قيم وتقاليد وأعراف الأباء والأجداد وهدم الثوابت، ولكن بعد إنتصارها وإمتلاكها للقوه والسلطة، أصبح كل ما سبق أو لحق بها من أفكارومعتقدات هو الذى يعد كفراً وضلالاً وهدماً للثوابت، ويجب محاربة أتباعها وأستئصالهم،وتجريم الدعوة إليها وعرضها لأزالة أى سوء فهم أو مغالطة، أو الدفاع عنها تجاه ما يوجّه لها من إتهامات،هذا بالرغم من دعوة الأديان، بدرجةً أو بأخرى، إلى التحرر من أغلال القديم والموروث، وقبول إختلاف المعتقد والعقيدة.
إن تكبيل وقمع وسحق كل من امتلك شجاعة الأنحراف عن الخط المرسوم، والتفكير النقدى الغير مشروط، والرفض والتمرد والتحرر من قيود الأحكام والإعتقادات المسبقة، وتجاوز وإختراق حاجز الخوف من الشطط والزلل، وإجتناب الصواب والتعدى على جموع الأحياء والأموات، وأفصح وأعلن بأسلوب حضارى عن نقده واعتراضه، ودعى إلى إعتناق وتطبيق وتفعيل ما يراه عقلاني وتقدمي وإنساني، حتى إن اختلف أو تناقض مع ما يؤمن بصوابه الأكثريه، يؤدى إلى أعاقة الوصول لدرجة التطور اللازم حدوثها لدى البشر، ليصبحوا كائنات إنسانيه راقيه ومتحضره، وربما التطور لكائنات فوق إنسانية إذا ما تم خلق الأسباب المؤديه لذلك.
وبكل أسف أقول إن مرض عشق القطعنة والسير حيثما تشير العصاـ أو تتواجد الجزره ـ قد تفشى واستفحل، وضرب بجذوره فى أعماق مجتمعاتنا العربية بسبب الخوف من غضب وبطش قوة وكائنات خفية إفتراضية، وغلبة وهيمنة العقلية الأسطوريه، وسيادة القيم القبلية العنصرية الإستعلائية الأقصائية الأبوية العبودية، فنحن لا نعرف الأختيار عن فهم والإقتناع بعد التشكك والدراسة والبحث والإستقصاء، بل أصبحنا مجموعة من النسخ المؤدلجة المتطابقة المكررة، بلا هوية وقاعدة فكرية مميزة،
ويعانى عقلائنا بسبب عدم إكتفائهم بذاتهم، كنتيجه لضعف التلامس والتواصل العميق معها، وعدم الشعور بكفايتها، من الميل الشديد للتماهى والمحاكاة والتوحد بالجماعة، وفقدان قدرة المواجهة للطغيان المجتمعى المتمثل فى التيار السائد، الواقف بالمرصاد لمن يناقش مسلماته ويضع منهجه ومرجعيته، فى التصنيف للخطأ والصواب، والأخلاقى واللاأخلاقى تحت مجهر الفحص العقلانى، والذى توارثه عن أسلافه المعصومين أصحاب السير والتعاليم الإعجازية، ليمارس تجاهه كافة أنواع القهر والضغوط ليصبه فى قالبه، ويطمس هويته، وينفصل عن ذاته ويلتحم بالمجموع، ويتفتت ويذوب بداخله ويفقد إختلافه وتفرده، وينضم لكتائب المرتزقة والمصفقين، وقارعى دفوف التلوث والتعفن والروث الفكرى، فإن رضخ أصبح المخلص والبار، وإن صمد أصبح الخائن والكافر.
فالذات الجماعية ـ خاصةً المستفيدين من تخريب وتسطيح العقول وتغييب الوعى والإدراك ـ لا تسعى إلا لإخصاء الفرد وتدجينه وإلتهامه، والترويج والأبقاء على ما يخدم مصالحها من مسلمات ومرجعيات. ولأنها أضعف من المواجهه الفكرية الشريفه للفرد الناضج الثائر المبدع المستقل، وغير صالحة لممارسة ذلك الدور تستعمل قدرتها على النبذ والإضطهاد المكثّف، بإستخدام أكثر البشر خسًة ووضاعة ؛لتجييش وتهييج وإستعداء الحمقى والسوقة والرعاع والغوغائيين وإتهامه بتهمة شنيعة فى عرف الأكثرية كخيانة الوطن، أو الإلحاد، لكى تزيد من معاناته وتنتقص من طاقته الفكريه والنفسية وتهدم وتزيل أى أثر لجهوده نحو التغيير، فالتغيير أمر مرعِب ومهدد لكيان من اعتاد التلقين والتنميط، واستعذب البرمجة والرتابة والسكون، لما يتطلبه من قوه داخلية وضمير حى ويقظ، واستعداد لدفع الثمن وبذل الجهد وتحمل معاناة التلامس مع قسوة الحقيقة.
http://www.copts-united.com/article.php?A=17467&I=434