أنطونى ولسن
بقلم : أنطوني ولسن
جلسا يتناولان العشاء الذي اعداه معا بعد الرجوع من العمل. لقد تعودا ان يفعلا هذا منذ الزواج.
انهما يجدان لذة في المشاركة، ويستمران خلال اعداد الطعام بالمداعبة والقبل، قبلة هنا، ضحكة هناك، لمسة هنا لك.. وحكايات.. وحكايات.
ولا ينتهي كل منهما في سرد ما حدث اثناء النهار، في العمل وخارجه، في البيت، في الطريق.. ولا يزالان يتحاوران بكل ما ينوي كل واحد خلال النهار. وحين يعود يخبره بما اعتمل به من شكوى وأحاسيس وذكريات.
لم يرزقا أطفالاً منذ ثلاث سنوات، وليست لديهما الرغبة في الإنجاب، أقلّه بعد تسديد ثمن المنزل الذي يوفَّران ثمنه، سنتاً سنتاً من معاشهما كل يوم، لكنهما قد يفكران في الأمر، بعد أن تتفرَّغ الأم للتربية ويستطيعا ان يجدا عملا لإعالة البنين.
الزوج، وصل هذه المرّة مشتَّت الافكار على غير عادته، وشرع يعاون الزوجة في اعداد الطعام.
ضحكا.. تعانقا.. تساجلا في شتى المواضيع.. وكان حوار على اتم حرارة وانسجام.
لكن الزوج عندما جلس الى المائدة، انتباه شيء من الهم المفاجئ فأخذ يرشف الشوربه بصوت مرتفع ووجهه في الطّبق، كما اعتاد كلما يشغل باله هم وغم.
أحست به الزوجة ورأت على وجهه علائم الهم والغم، فهرعت تشجعه وتضاحكه وتسرف في مداعبته حتى انها ركلته بقدمها من تحت الطاولة، فابتسم ابتسامة عريضة بلهاء، وعاود الكرَّة في رشف الشوربة بصوت مسموع، ممّا جعل الزوجة تفقد شعورها وتطلب منه التوقف عن الرشف، أو البوح فورا بما يعتمل به من مشاعر وهواجس تقطع عليهما سعادة البيت.
كلّ رشفة، تعذيب يصفعها بلا هوادة وبقساوة لا تحتملها، وكل نظرة يرشقها بها، مخرز غضب ينحر به ضلوعها. ومع ذلك لم يرد، لم يرفع رأسه عن الطبق. وما استطاعت ان ترفعه بصوتها الحاد الذي كان ينتهره بقساوة والحاح. وما كانت تدري اذا كان شبع أم شبعت هي، كل ما تدريه هو انها اخيرا استطاعت ان تخلصّه من المأزق لتتجنب رؤيته وسماع صوته بالبعد عنه.
توقف.. وراح يُغيّب وجهه بين يديه، مركّزاً منكبيه فوق الطاولة محملقا في سقف الحجرة بلا حركة ولا كلام، يفكر ويفكر، لعلَّ حلا يأتيه من الغيب، يستسرق النظرات من حين لحين، والزوجة المتربعة فوق الأريكه تتململ محاولة الوصول إلى معرفة ما بزوجها. ماذا حدث له.. لقد كنا أسعد الناس.. ضحكنا كثيرا وتعاونا في اعداد الطعام.. لم يكن يبدو على وجهه اي ضنى.. ما الذي جعله ينقلب على نفسه فينغّص علي وعليه الحياة؟!.
تُرى ما الذي دخل في حياته وحياتي؟! هل صرت امرأة أخرى؟ هل تبدل جمالي؟ هل فتر الحبُّ العاصف الذي عشناه معا أثناء الخطوبة وبعد الزواج؟!
لا وألف لا.. انها تعرفه جيداً.. إنها حُبه الوحيد.. ولن تستطع أية امرأة مهما كان جمالها أو ثقافتها أن تأخذه منها.. الحبّ الذي جمعهما لن يفرقه شيء سوى الموت، وحتى الموت نفسه مستيحل أن يحول بينها وبينه.
هكذا كانت الهواجس والأفكار تعتمل بها.. فجأة قالت بصوت مسموع «لو أصابه مكروه ومات قبلي، لا سمح الله، لالتحق به ونموت معاً كما فعلت كيلوباترا ومارك انطونيو.
لم يكن قرارها لحظة شعرية أو شطحة واهمة، لكنها حقيقة.. انها تحبه حتى العبادة حباً يفوق كل العاشقين. لكن ماذا اذاً؟!
فجأة خطرت لها خاطرة، لا بدّ أن يكون السبب هو عدم وجود اطفال يملأون عليه البيت.
تعجبت في نفسها.. أهذا هو حقاً السبب؟!
هي نفسها احياناً كثيراً تحنّ الى وجود اطفال.. ولكن كيف؟ لقد اتفقنا على هذا معاً ريثما نسدد ثمن المنزل، بعدها استقيل واتفرّغ لتربية البنين.. ونحن في العشرينات والعمر مديد والوقت امامنا طويل.. طويل..
ومع ذلك، رأت ان تتحدث اليه..
لقد غضبت هي وغضب هو، وهذا طبيعي ولكنه لم يفعل ما يغضبها وما يسيء اليهاّ فلا بد ان يكون ما يعتلج به شيئاً مهماً رّبما كبيراً ومهماً، ولكنه يأبى ان تشاركه حمل هذا الضني..
فاذا كان الأمر موضوع الأطفال، فستقول له.. إنها على أتم استعداد للإنجاب، اجازة بدون مرتب في الفترة الأولى، تودع الطفل والدتها التي ربتها.. تتكل على رعايتها له كطفل نازل من احشائها، تفديه بكل غالٍ ونفيس.
وقبل ان تتحرك نحو رجلها السابح في عالمه، توقفت ثانية وفكرت أيكون ربّ العمل قد استغنى عن خدماته لأمر ما..؟ فإن كان ذا ، فكارثة رغم ان الشركة لا تستغني عنه.
لكننا في أستراليا، وفي أستراليا، كل شيء ممكن تجاه القانون.. لا مراعاة لخواطر، أو لأقدمية في العمل..انها مصلحة العمل وربالعمل.
أما هوفقد كان يحدث نفسه .. ما ذنب هذه المخلوقة البريئة لتتحمل عذاب الصمت؟!.
لماذا لا اقول لها كل ما في نفسي وأفرغ كلَّ مشاعري؟ أنها شريكة حياتي التي احب. قاتلتُ لاجلها الدهر لأصل الى قلبها.. انها حتما تساعدني على إيجاد حل..
لا شك أنها لاحظت كل خواطري، فحاولت مداعبتي واخراجي من الصمت بهذه الركلة المستحبَّة من تحت الطاولة بقدمها الحلوة.. تلك مداعبة الرفق والحنان..
انتهى من المناجاة، فقرر.. فنهض.. وتوجه نحوها يناقشها الأمر، بينما هي في ذات اللحظات، تفكر تفكيره وتعاني تخميناته وتسرح بالخيال.
نهضا معاً وتلاحظا، ثم ضحكا وجريا في الممر فتشابكت ايديهما.. فتماسكا بحب وحنان وأخذا يتناجيان.. هي تسأله عمّا به، وهو يغمغم محاولاً أن يقول لها، كل شيء.. تلعثما.. ضحكا ثانية، كل يفضى بكل ما عنده مسابقاً الآخر في البواح.. اخذت تطوقه بذراعيها ولهة وتقبله قبلة طويلة متمادية.. تم صحبته الى الأريكة تخاطبه.
-طفلي الكبير، ما يشغلك؟ قل لي حبيبي.. أنا لك..
-انت شاغلي، شغلت عن الناس، بك.. الا تعلمين؟!
وغامت على شفتيه الكلمات.. شجّعته بقبلة أخرى، ضغطت بيدها على يده، تعاود السؤال، فأخذ يقول أشياء، أشياء مبهمة، كان في غنى عنها، لو دخل صلب الموضوع. لكنه كان يخشى غضبها ورفضها فكرة قد تنسف حياتهما الزوجية الى الأبد.
لقد وصله خطاب من والده الى محل عمله، يطلب منه ارسال تذكرة سفر الى «أستراليا» وتحويل الزيارة الى هجرة دائمة في هذا البلد الجميل فيكون اجدى له لأن الحياة في وطنه لا تطاق، وولده هو الوحيد الذي يُقدر الظروف والمحنة التي يمر بها والده في مثل هذه السن وهو يريد قضاء البقية الباقية قربه، من العمر..
لم يكن وقع كل هذا الشيء هيناً عليه.. قرأ الخطاب مرة ومرتين، وفي كل مرة كان كالأطفال، ينتحب، والده يعاني الاهمال والوحدة، لكن ما العمل؟!
لم يرد ان تشاركه زوجته الحزن.
عادت وقالت له مشجعة..
-ما بك يا حبيبي، انا احمل كلّ هم معك.. قلّ.. تكلم..
-ما عليك يا حبيبتي.. انا في احسن حال.. لا همّ لي.
بعد الحاح منها.. أخبرها بخطاب أبيه ورغبته في المجيء والهجرة لأستراليا.
سادت بينهما فترة صمت مرة أخرى، سرحت هي، فأسرتها وفدت كلها إلى أستراليا، والكل متزوجون ويعيشون مستقلين.. والدها قضى نحبه على اثر نوبة قلبية حادة منذ سنتين، ووالدتها تعيش وحدها في بيتها الذي هو بيت العائلة.
وغاب هو عنها مفكرا في من سيكون برعاية الوالد؟! إلى اين يذهب لو شعر بالضجر؟ لا جار يتحدث معه، لا صديق يشكو اليه همَّ الحياة.. لا مكان يقصده لقضاء فترة ترويح عن النفس.
فإن كان عاجزاً ان يكيف نفسه وسط الأهل والجيران والاصدقاء فهل يستطيع ذلك في جو آخر، مثل أستراليا الغريبة عنه مشرباً ومسلكاً وروحاً ولغة؟
قد يصعب عليه في مثل هذه السن، الاندماج بالناس والمشاركة في الافراح والأتراح، وقد تقسو العزلة عليه.. فمن يفرَّج عنه؟
هل الأنانية تجعل الأبن يتنكر لأبيه.. في الحاجة والضيق وحين يكون مفتقراً الى رعاية في الشيخوخة؟ هل يسمح له بتحويل معاشه؟
هز رأسه صائحاً:
-لا.. لا سيعيش بكرامة ويشعر بقيمة نفسه فلن يكون عالة على أحد.
آفاقت زوجته على صوت صياحه وحديثه مع نفسه.. لكنها عادت إلى صمتها.. كما عاد هو إلى نفسه..
فجأة نهضت مصفقة مهلّلة:
-لقد وجدت الحل.. وجدت الحل..
-قولي بالله عليكِ ما هو .. ماهوالحل ..؟
-أن يتزوج والدك من أمي فكلاهما أرمل .. وكلاهما بحاجة لرعاية الآخر ..
-تمت ..
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=17121&I=426