كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
إذا استثنينا من يعتبرون الديمقراطية كفرًا، لأنها تدعو للالتزام برأي الأغلبية من البشر، وليس رأي الله الذي يحتكرونه هم، فإن الجميع يثمنون ويقدرون مفهوم "الديمقراطية"، بغض النظر عن مدى تطبيقهم العملي لمحتوى هذا المفهوم في حياتهم، سواء الشخصية أو العامة.. وليس أدل على هذا التقدير للديمقراطية أن الدول والنظم الديكتاتورية حرصت في الماضي الشيوعي والاشتراكي وبقاياه الحاضرة إلى يومنا هذا، على إلحاق كلمة ديمقراطية باسمها، فوجدنا في الماضي ألمانيا الديمقراطية التي كانت هي الأبعد عمّا يمكن أن تشير إليه الكلمة، وإلى الآن نجد كوريا الشمالية تحمل تسمية ديمقراطية وهكذا.. شهادة وتمسح أعداء الديمقراطية الفعليين بها إذن، هو خير دليل على قيمة الديمقراطية وأهميتها للإنسانية.
نحن بالطبع في هذه السطور غير معنيين بمن يستخدمون الديمقراطية ليس عن اقتناع بها، وإنما كأداة للقفز على ظهر السلطة، لينقلبوا عليها بمجرد وصوله إلى سدة الحكم، أو ما يعرف بديمقراطية المرة الواحدة، تماماً كما فعلت حماس في غزة البائسة، وكما تحاول الجماعة المحظورة الآن في مصر بدموع التماسيح التي تذرفها الآن على الديمقراطية، متوسلة شرعية تستمدها من سائر التيارات السياسية الساعية للديمقراطية، ويصدقها البعض –بحسن أو بسوء نيّة- غير مدركين أنهم في حالة وصول هؤلاء إلى السُلطة، سيكون مصير من ساعدوهم في الوصول هو الذبح أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف.. أليس هذا هو ما حدث بالفعل في إيران الخوميني؟!!
المهم أنه على قدر التقدير لكلمة الديمقراطية وشيوعها، على قدر القصور ربما إلى حد الجهل في فهم معناها.. فلا يكاد الناس يعرفون عن الديمقراطية سوى أنها عملية حسابية، تحصي عدد المؤيدين لرأي ما، وتقارنه بعدد المعارضين له، لتعتمد في النهاية الرأي الذي تبناه العدد الأكبر ممن دخلوا في هذا الإحصاء.. على هذا النهج الديمقراطي الطريف يمارس رئيس مجلس الشعب المصري دوره بمنتهى الدقة والأمانة، عند عرض أي فكرة أو اقتراح بمجلس الشعب الموقر (رغمًا عن أنف الجميع)، فلا يستمع أحد لأحد في المناقشات التي تدور حول الموضوع المطروح، وبعد الفترة من حوار الطرشان التي يتسع لها صدر صاحبنا الجالس على المنصة، يقوم بطرح غلق باب المناقشة أو الموافقة أو الرفض حسب القرار المعد سلفًا، ويقوم بإحصاء أعداد لنواب هم أصلاً مسوقون في كل يفعلون في حياتهم، سواء كانوا مسوقين بأوامر سياسية عليا، أو بما في رؤوسهم من أفكار متجمدة. . هذا هو ما نعرفه عن الديمقراطية، لا أكثر ولا أقل.
هذا النوع من الديمقراطية سبق أن تم استخدامه في إعدام سقراط أعظم الفلاسفة، بقيام محترفو التلاعب بمشاعر الغوغاء بتوجيههم، للموافقة على الحكم على الرجل بتجرع كأس من سم الشوكران، في عملية إحصائية دقيقة وأمينة، لتبدو هكذا ديمقراطية تمامًا.. كانت هذه بالفعل هي البداية الأولى لديمقراطية أثينا، التي أخذها عنها العالم الغربي بعد ذلك، ليقوم بتأسيس الديمقراطية الحقيقية، التي تعيش بموجبها الآن الشعوب الحرة والمتقدمة حضاريًا، في كافة جوانب الكرة الأرضية.
تقوم الديمقراطية في الأساس على مبدأ أنه لا توجد حقيقة مطلقة الصحة، وبالتالي لا أحد منّا لديه الرأي الواحد والوحيد، الذي ينبغي على الحكيم أتباعه، ولا يرفضه إلا الجهلاء أو الحمقى.. وأنه علينا لكي نصل إلى أكثر الآراء اقترابًا من الصواب، أن يتناقش المعنيون بالموضوع، لبحث الأمر مليًا فيما بينهم، متتبعين النتائج المتوقعة عمليًا نتيجة تطبيق كل خيار من الخيارات المطروحة، لينتقلوا بعدها لحساب المكاسب والخسائر المترتبة على كل خيار.. هنا لابد أن ينشأ الخلاف والاختلاف بين المعنيين بالأمر، فمثلاً ما يعتبره أحدهم خسارة، قد يعتبره آخرون مكسبًا، أو على الأقل قد يهونون من وزن الخسارة، والعكس صحيح لما يعد مكسبًا، لتكون النتيجة اختلاف التقييمات، رغم الوعي من قبل الجميع وبقدر المستطاع، بعناصر الموضوع ونتائجه التطبيقية، بالطبع في حالة ما إذا تم حوله نقاش جاد وعلمي، وليس مجرد ضوضاء على مذهب "مقارعة الحجة بالحجة"، ذلك الذي فيه يدخل كل أطراف النقاش ولديهم قرارًا أو خيارًا جاهزًا، وليسوا مستعدين بأي حال للتزحزح عنه ولو سنتيمترات قليلة، ليكون النقاش غير جدير بمفهوم "نقاش"، وإنما هو تطاحن أو مناطحة، بين ثيران مصرة على ضرب رؤوسها في قرون أو صخور مقابلها العقلية.
المسألة إذًا في الديمقراطية ليست مجرد "الأخذ برأي الأغلبية" بصورة مطلقة، حتى لو كان رأي الأغلبية كارثيًا، أو مخالفًا لكل تعقل وعقلانية.. فقبل عملية إحصاء الموافقين والمعترضين، لابد أولاً أن يكون قد حدث جدل تفاعلي بناء بين الحضور، وجرت عملية البحث المخلص عن القرار الصواب، بعيدًا عن المطلقات والشعارات.. بعدها يكون من حق كل مشارك في الاقتراع، أن يكون له تقييمه الخاص والحر لتلك النتائج، ليكون من المشروع بعد ذلك أن ننتقل إلى إحصاء الأصوات الممنوحة لكل اقتراح.
نأتي إلى بداية فكرة الديمقراطية، والتي قلنا أنها تقوم على عدم وجود رأي مطلق الصحة، لنبحث عنه لدى شخص ما، نسير خلفه مطمئنين آمنين.. فما هو موقف المؤمنين بالأديان من هذه الفرضية، حيث يقوم الدين على تقديم الحقيقة المطلقة للمؤمنين به، فهل يعني هذا التعارض الظاهري بين كل من أساس الديمقراطية وأساس التدين، أن الديمقراطية لابد وأن تُعد كفرًا لدى كل متدين؟
تختلف الإجابة على هذا التساؤل باختلاف طبيعة تدين الشخص، الذي هو فهمه الخاص للدين الذي يعتنقه.. فمن يرى في الدين علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولا تُلزم فروضه ووصاياه (كما يفهمها هذا الإنسان) شخصًا آخر سواه، ليؤسس مثل هذا الإنسان المتدين علاقاته الدنيوية مع سائر البشر، على أسس مصلحية وعلمية، مستندة إلى المعايير الأخلاقية العامة والمتفق عليها من الجميع. . مثل هذا المتدين تكون الديمقراطية بالنسبة له منهجًا مثاليًا لتحقيق ذاته، بجانب تحقيق كل أفراد المجتمع لذواتهم، سعيًا لتحقيق إنجازات عملية لصالح المجموع.
أما المتدين الذي يرى في الدين مصدراً لأوامر إلهية تشمل كل مناحي الحياة، ويتحتم (طبقًا لإيمانه) أن تُفرض على جميع الناس، سواء المؤمنين بذلك الدين أم غير المؤمنين به، تحقيقًا للطاعة والعبودية لله أو ما يعرف "بالحاكمية"، مثل هذا الإنسان ومثل ذلك التدين أو الفهم للدين، يتعارض بلا شك مع الديمقراطية لأنه يراها مؤدية للكفر، الذي يتمثل في عدم الامتثال للقوانين والشرائع الإلهية، والسير وراء آراء ومفاهيم البشر.
نفس ما قلناه عن هذا النوع الأخير من المتدينين، يقال عن معتنقي أيديولوجيا يرون فيها الحقيقة المطلقة والنهائية، والتي تحدد كل ما يتعلق بالإنسان، بداية من الفنون والآداب، مرورًا بالنظم الاقتصادية والاجتماعية والأسرية، نهاية بالنظام السياسي.. هنا أيضًا يكون من الضلال البعد عمّا تنص عليه الأيديولوجية المقدسة، وهذا ما رأيناه في نظم الكتلة الشرقية، التي لم تدم أكثر من ثلاثة أرباع قرن، لتنهار بعدها.
في جميع الحالات السابقة تختفي الديمقراطية، ولا يكون ثمة استخدام لآلياتها في بحث "الموضوع"، حتى وإن استخدمت جزئيًا في اختيار الشخوص، مثلما يحدث من اقتراع في لجنة مركزية لحزب شمولي، أو عصابة غير شرعية ومحظورة قانونًا، للمفاضلة بين الأشخاص الذين يصعدون إلى قمة الهيئة المسيطرة، دون أن يكون هناك فوارق حقيقية بين رؤاهم الموضوعية.
الديمقراطية الحقيقية إذًا ليست مجرد آلية اختيار أو انتخاب صماء، تستخدم الصناديق أو رفع الأيدي، لترجيح شخص على شخص أو رأي على رأي، لكنها منهج فكر وحياة، يعتمد على الجدل والحوار بحثًا عن الموقف والرأي الأقرب للصواب، والأكثر جلباً للمكاسب، والأقل مدعاة للضرر أو الخسائر، بمنأى عن الدوجما والأيديولوجية، أو الانتصار للعصبية والطائفية باختلاف صنوفها.. فالإنسان الديمقراطي ليس هو مَن يلجأ لآليات الديمقراطية فقط في مجلس الشعب أو الانتخابات، بل هو يعيش كل مناحي الحياة بذلك المنهج، بدءًا من حياته الأسرية، صعودًا إلى المستويات الأعلى من الحياة العامة.. عندما يكون لدينا أناس ديمقراطيين بهذا المعنى، سيكون لدينا حياة ديمقراطية، تمامًا كما نحتاج إلى أحرار ليكون لدينا حرية.
http://www.copts-united.com/article.php?A=16408&I=409