«الإمبراطور الكريم»
بقلم الأنبا إرميا
بقلم : الأنبا إرميا
تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم الإمبراطور «يوستينيان» والإمبراطورة «ثيئودورا» التى كان لها دور كبير فى رفع المعاناة عن أقباط مِصر. ثم تحدثنا عن الإمبراطور «يوستين الثاني» الذى ترك تدبير أمور الحكم لزوجته «صوفيا» وأدى هٰذا إلى تدهور شؤون البلاد، وقد تبنى «طيباريوس قسطنطين» ابنًا له وأقامه قيصرًا فى ٥٧٤ م، وفى نهاية أيامه فقد عقله حتى موته، وخلفه «طيباريوس قسطنطين» إمبراطورًا للبلاد.
«طيباريوس قسطنطين» (٥٧٤-٥٨٢م)
وُلد فى مقاطعة «تراقيا» وهى تضم: جنوب شرق رومانيا، ووسَط بلغاريا وشرقها، واليونان، وتراقيا التركية. وعُيِّن فى منصب «سكرتير عام»، ثم فى ٥٥٢م قُدِّم إلى إمبراطور المستقبل «يوستين» ليصبحا صديقين. وقد تقلد عددًا من المناصب فيما بعد. وفى أثناء حرب الإمبراطور ضد «قبائل الآڤار»، عُيِّن «طيباريوس» رئيسًا للجنود، الذى يُعد أعلى منصب عسكريّ، للتصرف إزاء «الآڤار» وطَلَباتهم إلا أن المساعى السلمية لم تضع حلاً ينال قبول الطرفين؛ فنشِبت الحرب بينهما فى ٥٧٠م وانتهت بهزيمة جيش «الآڤار» على يد «طيباريوس» فى تراقيا، ثم عاد إلى القسطنطينية. ولم يستمر الانتصار طويلاً؛ ففى ٥٧١م هُزم ونجا من الموت بأعجوبة بعد أن هربت الجيوش الرومانية من أرض المعركة ما أدى إلى عقد معاهدة مع «الآفار».
وفى ٥٧٤م، أصيب الإمبراطور «يوستين» بلَوثة عقلية؛ فقامت الإمبراطورة «صوفيا» بإشراك «طيباريوس» معها فى إدارة شؤون البلاد، خصوصًا أن البلاد كانت فى حرب ضد الفرس من الشرق، وتتعرض لأزمة داخلية فى انتشار مرض الطاعون. وفى ذاك العام، قام «يوستين» بإعلان «طيباريوس» قيصرًا وتبناه، وقد أضاف «طيباريوس» اسم «قسطنطين» إليه.
وقد زامن حدث تعيين «طيباريوس» قيصرًا خفوت حدة انتشار مرض الطاعون على البلاد؛ ما أعطى القيصر الجديد الحرية فى التحرك والعمل أكثر من «يوستين». ويذكر أحد المؤرخين أن القيصر قد عثر على كَنزين، ثم قام بتوزيعهما على الفقراء مما سبَّب الذعر للإمبراطورة «صوفيا». كذٰلك خفَّض الضرائب التى فرضها «يوستينيان الأول»، واستمر فى سياسة حظر بيع المناصب الحكومية التى كانت منتشرة فى ذٰلك الوقت. كما فاوض قبائل «الآڤار» على هدنة مقابل أن تدفع الإمبراطورية الرومانية مبالغ مالية نظير حماية حدود الدانوب. وفى ٥٧٥م، قام بعمل هدنة مع الفرس لمدة ثلاث سنوات؛ فأرسل تعزيزات إلى إيطاليا لوقف غزو «اللمبارد»، وتحالف هو وملك فرنسا لمحاربتهم، إلا أن جيشه هزم هناك ما أدى إلى فقدان مزيد من الأراضى الإيطالية. وفى ذاك الوقت، تعرضت مقاطعات أرمينيا الرومانية لغزو الفرس فى ٥٧٦م؛ فأرسل الجيوش تجاه الشرق، ولٰكنها مُنيت بهزيمة هناك. وردًا على تلك الهزيمة، قام القيصر بتعزيز جيشه بإضافة مزيد من القوات، وتجنب أيّ صراعات أخرى تُبعده عن الصراع مع الفرس. ثم أرسل القائد «موريس» لمواجهة الفرس، وقد استطاع فى عام ٥٧٨م غزو أرمينيا الفارسية وبلاد ما بين النهرين مجبِرًا الفرس على التوقف عن تقدمهم والدفاع عن أراضيهم. وفى أثناء تلك الفترة، مات الإمبراطور «يوستين» ليصبح هو إمبراطورًا على البلاد.
وقد حاولت الإمبراطورة «صوفيا» زيادة نفوذها فى الحكم بالزواج من الإمبراطور الجديد، إلا أنه رفض عرضها وكل محاولاتها ما أدى إلى انقلابها عليه وإضمار الشرور والفتن ضده. وقد حاولت هى إثارة الجنود العسكرية على خلعه إلا أنها فشلت. ومع هٰذا فقد عاملها الإمبراطور بالرفق واللين مسامحًا إياها عما فعلت؛ فقد كان «طيباريوس قسطنطين» حازمًا ولٰكنه كريم الخلق، متمسكًا بالتعاليم المسيحية تمسكًا شديدًا.
ويذكر المؤرخون أن مدة حكم هٰذا الإمبراطور كانت موفقة، والرعية تبغى استمرارها وامتداد حكمه لإعادة البلاد إلى سابق عهدها، إلا أنه مات موصيًا بالحكم من بعده لزوج ابنته «موريس» قائد جيوشه الذى رفعه إلى رتبة «قيصر» فى ٥٨٢م. وكانت كلماته الأخيرة له: «لتكُن لك السيادة والسلطة التى لى، ووصلَت إليك مع هٰذه الفتاة. وكُن سعيدًا فى استخدامها، دائم اليقظة فى محبة (الإنصاف) و(العدل)».
وقد ذكر المؤرخون عن «طيباريوس قسطنطين» أنه اشتُهر بالكرم، وأنه لم يضطهد الأُرثوذكسيِّين على النقيض من سلفه. كذٰلك فإنه لم يبخل بتقديم الأموال فى مشروعات البناء؛ وأكثرها شهرة التوسع الذى تم فى قصر القسطنطينية الكبير. واختلف المؤرخون فيما بينهم فى الحكم على مدة حكمه وسلطته: فهناك من حكم عليه بأنه إمبراطور جيِّد فى حكمه وعدله وتجاه المهمات الموْكلة إليه، وهناك من يراه قائدًا عظيمًا فى الحروب ولٰكنه لم يكُن إمبراطورًا جيدًا.
أمّا عن مِصر، فقد كان الإمبراطور «طيباريوس قسطنطين» يحبها حبًّا شديدًا، ولما علِم أن المِصريِّين يؤمنون بالعقيدة الأُرثوذكسية التى عليها البابا «ديسقوروس»، بذل كل جُهده فى تثبيتهم، وعمِل على تعضيد الكنيسة الأرثوذكسية فى مِصر.
الإمبراطور «موريس» (٥٨٢-٦٠٢م)
وُلد «موريس» فى كبادوكية. ثم حضر إلى القسطنطينية ليعمل سكرتيرًا لقائد الجيوش الذى أصبح الإمبرطور فيما بعد «طيباريوس قسطنطين». وفى ٥٧٧م، ومع أن خبرته العسكرية لم تكتمل بعد، عُيِّن قائدًا مسؤولاً عن الجيش البيزنطيّ فى الشرق الذى كان يستعد لمحاربة الفرس، وقد حقق بالفعل انتصارًا عليهم فى ٥٨١م. ثم تزوج بابنة الإمبراطور فى العام التالى، ليصبح حاكمًا للبلاد بعد موت «طيباريوس قسطنطين» فى ٥٨٢م.
استمر الإمبراطور «موريس» فى حربه ضد الفرس، وفى ٥٨٦م انتصرت جيوشه عليهم فى معركة كبيرة بالقرب من «دارا». وفى ٥٩٠م، ساعد «خسرو» ملك فارس على استعادة حكم بلاده بعد قيام فتنة عظيمة ضده من أحد قواده ويُدعى «بهرام جوبين» بعقد اتفاق مع الأمير «خسرو الثاني». وقد اشتد القتال بينهما، وانحاز الجنود إلى صف قائدهم «بهرام» وهزم «خسرو» الذى فر هاربًا إلى البلاط البيزنطيّ طالبًا مساعدة الإمبراطور «موريس». ومع تحذيرات مجلس الشيوخ البيزنطيّ له، إلا أنه «موريس» ساعد «خسرو» بإرساله بقوات لاستعادة عرشه وهزم «بهرام». وقد أعاد ملك فارس إلى «موريس» المدن التى سلبها «بهرام» من الرومان؛ وبذٰلك اتسعت حدود الإمبراطورية إلى درجة لم يسبق لها مثيل بعد أن استردت أرمينيا ومنطقة ما بين النهرين الشرقية.
وفى أوائل مدة حكمه، حدثت ثورة فى الوجه البحْريّ فى مِصر قادها ثلاثة أخوة من الأقباط: أَبَسْخِيرون، ومينا، ويعقوب؛ من بلدة عقيلة ـ الآن «زاوية صقر» مركز «أبو حمص» فى البحيرة ـ عندما قام حاكم الغربية بإلقاء القبض على رجلين من وُجهاء الأقباط فأثار هٰذا التصرف الأقباط، فهجم المِصريُّون على الرومانيِّين فى منطقة قرب «سمنود» وطردوهم من ديارهم ما جعل الوالى يُرسِل بشكواه إلى الإمبراطور، الذى أمر والى الإسكندرية بقمع الثائرين الذين وضعوا أيديهم على أقاليم الوجه البحْرى محاولين الوصول إلى الإسكندرية ومنعوا وصول القمح إليها. وتسببت تلك الثورة فى حدوث مجاعة للشعب وقيامه بثورة ضد الوالى حتى كادوا يقتلونه لولا حماية بعض أعيان الأقباط له. وقد استمرت الثورة ضد الرومان حتى تم الاستيلاء على كثير من مراكبهم، فخشِيَ الإمبراطور من تفاقم الأوضاع، فعقد صلحًا مع الإخوة الثلاثة عن طريق «يوليوس» البطريرك الرومانيّ الذى كان يحبه المِصريُّون لدماثة خلقه.
وقد طلب الإخوة الثلاثة إعادة صديقهم والى الإسكندرية إلى منصبه، فاستجاب الإمبراطور لطلبهم. وعيَّن قائدًا جديدًا للجيش يُدعى «ثيئودوروس»، فاستحضر هٰذا القائد خمسة أسرى من الأقباط، وأوقفهم قبالة الثائرين على الضفة الأخرى من النهر، وأمرهم بإلقاء السلاح إلى الماء أو قتل الأسرى فاستجاب معظم الثائرين شفقة على الأسرى. ولٰكن الإخوة الثلاثة استمروا فى مقاتلة الرومان حتى قُبض عليهم وسُجنوا.
وقد حاول والى الإسكندرية إنقاذهم، إلا أنهم قُتلوا عندما عُيِّن مكانه والٍ جديد. ولم تكُن تلك هى الثورة الأولى للمِصريِّين ضد الرومان بل تعددت الثوْرات، التى انتهت جميعها بقتل وحشيّ ومذابح للمِصريِّين! وقد ازدادت عداوة المِصريِّين وكراهيتهم تجاه المحتل الرومانيّ و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز
الثقافى القبطى الأرثوذكسى
www.twitter.com/anba_ermia
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=163864&I=1973