إبراهيم عرفات
بقلم : إبراهيم عرفات
للناس أرواح: هذه روح تستقطبك وتشدك إليها شداً وفي أحيانٍ تشعر وكأنك مع توأم روحك، تلك روح تستفزك فتنفر منها كل النفور؛ ويا لطيف! هذه روح تجذبك إليها بما فيها من سلام ووداعة قلب، وهذه روح يغلب عليها الطابع البري الشرس المتسلط على الآخرين.
ترى ما سر انشدادك وراء هذه الروح دون سواها؟ وهل للمسيحية "روح" يحق لنا أن نقول إنها روح مسيحية؟ مقالتي هنا تقدم الجواب كما عاينته بصورة شخصية وتؤكد على أن للمسيحية روح بوسعها أن تشد القلوب إليها وتأسرها.
أذكر طفولتي وأنا أرى وأرقب عن بعد روح الوداعة في كثير من أقباط مصر وهدوء النفس وسكينة قلوبهم إذ يأتي المسيح بلا رعب أو شراهة في بسط النفوذ السياسي أو التسلط على الآخرين حيث "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفيء"(متى 20:12). جلّ تعاملات المسيح تأتي على مستوى افتدائيّ هدفها الإنسان نفسه/ نفسها. إن الروح الغالب على شخصية المسيح يجعل كل من يتعامل مع المسيحيين ينجذب للمسيح الساكن فيهم دون مقاومة؛ فالمسيح ينتصر في كيانهم بالصليب- لا بالرعب أو التخويف- حيث قال: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب" (مت29:11).
من هنا جاء انجذابي لشخصية المسيح وأنا لم أزل بعد في حالي القديم. هناك شيء ما في المسيحيين جعلني أفتش عن هذا المسيح الذي يمنحهم كل هدوء النفس وجمالها ورقيها على هذا النحو. عباداتهم لم تبدأ بشيء مثل صرخة الرعب كمن يتقدم إلى المعركة بل إنجيلهم نفسه يحمل المضمون في الإسم حيث كلمة إنجيل تعني "بشرى سارة". وأين الرعب من البشرى السارة! الإنجيل وإنْ كان كتاباً نحبه ونقرأه بشغف ونلتهم ما فيه لغذائنا إلا أنه في واقع الأمر شخص المسيح ذاته في كل ما قال وجميع ما فعل شاملاً حياته من البدء إلى النهاية. إنَّ كل حياة المسيح إنجيل. كل حياة المسيح بشارةٍ سارةٍ ولا أدنى مجال للتخويف أو الرعب فيها. فمن جاء إلى المسيح فإنه يأتي بمحض إرادته الكاملة، ومن يرفضه يرفضه بمحض إرادته الكاملة دون أن يستخدم معه المسيح سلاح الترغيب والترهيب أو التهديد والوعيد ومسلسلات الرعب هذه. بوسع الإنسان أن يقفل الباب في وجه المسيح الطارق على باب قلبنا لحظةٍ بلحظة. فإذا أغلقنا الباب فإنه لا يتهدد أو يتوعد أبداً بل يمضي لحال سبيله. حينما غضب بعض أحبار اليهود وحنقوا على المسيح "قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل . أما هو فجاز في وسطهم ومضى"(لوقا الفصل الرابع آيات 28-30). عندها تتحسر النفس على اندفاعها وهي تسلك بهذه الهمجية إزاء مسيح الله والذي وصف نفسه قائلا إنه وديع ومتواضع القلب (مت29:11) وتتحسر على أنها قد فعلت هكذا بالعود الأخضر ولا يسعها سوى أن تقول بحسرة نفس: "فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر" (سفر نشيد الأناشيد الفصل الخامس وآية 6).
من يتشبع بروح المسيح لهو في مصالحة كونية مع الخليقة بأسرها ويحرص على أن لا يكون له خصوم حيث المصالحة ليست خيار بل هي إلزام حيث قال المسيح في إنجيل متى الفصل الخامس:
فإِذا كُنْتَ تُقَرِّبُ قُربانَكَ إِلى المَذبَح وذكَرتَ هُناكَ أَنَّ لأَخيكَ علَيكَ شيئاً، فدَعْ قُربانَكَ هُناكَ عِندَ المَذبح، واذهَبْ أَوَّلاً فصالِحْ أَخاك، ثُمَّ عُدْ فقَرِّبْ قُربانَك سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق، لِئَلاَّ يُسلِمَكَ الخَصمُ إِلى القاضي والقاضي إِلى الشُّرطِيّ، فتُلْقى في السِّجْن. الحَقَّ أَقولُ لَكَ: لن تَخرُجَ مِنه حتَّى تُؤدِّيَ آخِرَ فَلْس.سَمِعتُم أَنَّه قيل: العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر. ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً. ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن. مَن سأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ استَقرَضَكَ فلا تُعرِضْ عنه. سَمِعتُم أَنَّه قِيل: ((أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم : أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل.
بهذه الروح تشبع بها أباء الكنيسة الأولى وقديسيها وصارت إنجيلاً حياً فيهم. نسمع عن قديسين عايشوا الأسود في شراهتها وشراستها وكانت هناك ألفةٌ فانتصروا على ضراوة الأسود بطباع المسيح التي تطبّعوا بها. نذكر نشيد القديس فرنسيس الأسيزي وهو يخاطب أخته الشمس وأخيه القمر وأمه الأرض إذ قد أضحى الكون بأسره له عائلة ينعم هو فيها بالانسجام. القصيدة كاملة موجودة على الرابط التالي:
http://www.catholic.org/clife/prayers/prayer.php?p=183
بل حتى الحية دعاها أخته. بالمسيح الساكن فينا يتذلل لنا أعداؤنا ونجبرهم بالمسيح الكليّ الوداعة وصاحب السلطان بآنٍ- وهو الساكن فينا- للخضوع لروحه دون أن ننبس بكلمة لأن روح المسيح أقوى ويسيطر على هذه جميعها ويذللها حيث له تجثو كل ركبة. بالروح المسيحية يعيش المسيحي في وئام داخلي مع الجميع من البشر بمن فيهم من حيات وعقارب، ويعلم أنه بالمسيح الساكن فيه يعظم انتصاره/ انتصارها، ولا حاجة للانتصار بالرد على المعاملة السيئة بالمثل بل بوداعة المسيح وصليبه. هذا الوئام وذاك الائتلاف الداخلي أسماه القديس مكسميوس المعترف بالليتورجيا الكونية وأيضا أكد عليه جميع أباء الرهبنة وأربابها مثل مار اسحق السرياني ومار أفرام السرياني والقديس أنطونيوس بدون شك.
الروح المسيحية لا ترد على فلان في غضبه بغضب مماثل بل هناك أمر وإلزام بالصمت في بعض الأحيان حيث أنه للوقت كلام وللصمت كلام. يقول القديس بولس ناصحاً ابنه في الإيمان تيموثاوس في الرسالة الثانية: "أَمَّا المُجادَلاتُ السَّخيفةُ الخَرْقاء، فتَجَنَّبْها لأَنَّها تُوَلِّدُ المُشاجَراتِ كَما تَعلَم؛ فإِنَّ عَبْدَ الرَّبِّ يَجِبُ علَيه أَن لا يَكونَ مُشاجِرًا، بل لَطيفًا بِجَميعِ النَّاس، أهْلاً لِلتَّعْليم، صَبورًا.
إن أهم ما يميز المسيح في روحه المسيحية هو أنه رجل الذوقيات ولا يفرض نفسه على أحد أو يجبر أحد على الإيمان به ولو بأدنى ذرةٍ من التخويف. أصدق تصوير له هو ما نقرأه في مثل الابن الضال حيث لا نجد الأب يقف على الباب يسده كي ما يمنع ابنه من المضي لحال سبيله وطيشه وهو يعلم تمام العلم مسبقاً أنه قد أخذ حصته من الميراث ليبددها ولن يحسن استعمال الحرية. برغم كل ذلك لا نجده أبداً ديكتاتور على طريقتنا الشرقية فيسلب ابنه من حريته بل يحترم حريته لأن هذا الأب الذي يشير في مثل المسيح إلى الله هو ببساطة في شخصيته كان وسيظل دوماً "جنتلمان" ولا يسلب أي إنسان حريته ليختار أو حقه ليقول لا. وعليه لا يفوتنا أن أكثر صفة تميز الروح المسيحية هي احترام أحقية الآخرين أن يكونوا كيفما يريدون أن يكونوا دون النظر إليهم نظرة فوقية ولكنها روح مفعمة بالقبول الصادق والتقدير الصادق لما هو عليه الشخص. إذا، لماذا نؤمن؟ أليس لننجو من عذاب الجحيم؟ كلا ثم كلا. نحن نؤمن لأننا لا نقدر أن نعيش بدون الرب حيث لسان حالنا هو لسان حال بطرس القائل للمسيح بعبارة جميلة مؤثرة في نفوسنا: "يا رب إلى من نذهب.كلام الحياة الأبدية عندك" (إنجيل يوحنا 6 وآية 68). نأتي للمسيح لنتسلم منه الحياة الأبدية لنحيا بها الآن في حاضرنا وغدنا إلى مالا نهاية. نأتي للمسيح لننعم بالحياة الإلهية؛ وخطيئة الإنسان ليست هي السبب في تجسد الله ولكن السبب هو الحب الإلهي ذاته. السبب إيجابي لا سلبي. يقول القديس مار اسحق السرياني في ميامره في فصول العرفان Gnostic Chapters iv.78 الآتي: صار متجسداً لا ليفدينا من الخطايا أو لأي سبب آخر ليس إلا أنه أراد للعالم أن يعرف الحب الذي لدى الله للخليقة بأسرها". واليوم جريمة المسيحيين هي جريمة المسيح ذاته والتي حوكم لأجلها منذ ألفي عام والمتمثلة في صليبه؛ الأمر الذي يستنكره الدكتور محمد كامل حسين في كتابه "قرية ظالمة" بعبارات عذبة تخاطب الضمير الإنساني: "أتقتلون رجلاً أن يقول إن الله هو الحب، تلك كلمة لا يقولها مجرم. الله هو الحب!"
هناك أناس تشعر معهم بالارتياح وحضورهم معك في ذاته يشعرك بالطمأنينة والارتياح حيث الروح المصاحب لهم يبعث على الاطمئنان لأن نعمة الله تسكنهم والمسيح بوداعته يهيمن عليهم فلا عجب أن "شفتاك يا عروس يقطران شهداً"(نشيد 4: 11). الروح المسيحية هي روح الحرية والانطلاق حيث في حضورها لا نخشى أن نظهر على طبيعتنا بل نتحرر من الأقنعة ونصبح في يقين القبول على ما نحن عليه دون شعور بالعار (تكوين 25:2). فالله ما جاء ليكبّلنا بطوطمية الحلال والحرام وكأننا في مهد الطفولة البشرية بل حبه يدفعنا لنفعل كل شيء بمسئولية الحب وفي نقاء هو مُلهمه. في الحرية المسيحية لا أخشى أن أقول لك من أنا فأخشى قبولي منك. بالروح المسيحية ينطلق المسيحي داخلياً حراً طليقاً لأنه ابن أولأنها ابنة لآبٍ خالق الكون نعرفه على أنه الله. مع البنوة يقين ويذهب التردد والتخوف فالله لم يعطنا روح الخوف أبداً إزاء هذه الروح المسيحية بل روح البنوة المشبعة بالقوة والجسارة والمحبة والفطنة (رسالة تيموثاوس الثانية 1 وآية 7). من تملكته الروح الإسلامية يأتي إلى الله ويمثل أمامه كـ "عبد" من العبيد ويخرج كما دخل من حضرته "عبد". في الروح المسيحية الوضع مختلف لأننا نحن وإنْ عبدناه مع العابدين إلا أننا نعبده بثقة البنين الجسورين وقطعاً بدالة البنوّة ونحن نقترب من عرش نعمته في الصلاة (عبرانيين 4 وآية 16). إذا ما دعوناه ندعوه بجرأة البنين وما لهم من دالةٍ عند أبيهم السماوي صارخين "يا أبا الآب" (غلاطية 4: 3-7). جاء المسيح وألغى العبودية في علاقة الإنسان بربه وألغى أي شيء يزكي روح الخنوع وكأننا مثلاً حشرات! لقد المسيح جاء ليقضي على الخنوع وماله من انعكاسات سلبية على النفس البشرية حيث الله لم يعطنا روح الخنوع كما يقول القديس بولس لتلميذه تيموثاوس.
المسيح يأتي ليقول لنا إن ما ينجس الإنسان ليس ما يأكله ولكن ما يخرج من جوفه من حسد وأحقاد وضغائن. جاء المسيح ليرد لنا براءتنا المفقودة ويعيدها إلينا فنرى كل شيء في براءة الأطفال فنعود لفردوسيتنا الأولى كما كان آدم وحواء عريانين وهما لا يخجلان. يقول الإنجيل لنا: "كُلُّ شَيْءٍ طَاهِرٌ لِلطَّاهِرِينَ، وَأَمَّا لِلنَّجِسِينَ وَغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ شَيْءٌ طَاهِراً، بَلْ قَدْ تَنَجَّسَ ذِهْنُهُمْ أَيْضاً وَضَمِيرُهُمْ. "(تيطس 1: 16). عندما تجد إنسان مشغول بالكلام عما إذا كان هذا نجس وهذا طاهر فاعلم دون ريب أنه إنسان صاحب ذهن نجس وضمير نجس. المسيح يقدم علاج لا مثيل له عندئذ فيقول: " إِن لم تَرجِعوا فتَصيروا مِثلَ الأَطفال، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّمَوات"(متى 18: 3). عندما ينظر الطفل لأمه عارية فنظرته بريئة؛ وهكذا ينبغي أن نكون نحن كذلك أمام كل أمور الحياة فننظر إليها نظرة بريئة نيّرة طاهرة لأن أذهاننا قد تطهرت بروح الله في الأساس. عندها تكون لنا "بساطة الحمامة" ورقاقة نفسها حيث قال المسيح: "كونوا بسطاء كالحمام"؛ وفي الترجمة اليسوعية: " فكونوا كالحَيَّاتِ حاذِقين وكالحَمامِ ساذِجين"(متى 10: 16). وكوننا حاذقين في الذهن لا يكفي بل المطلوب أيضا إلى جانب حذق الذهن أن تكون هناك في نفوسنا سذاجة الحمام؛ وعندها حقاً نتحلى بالروح المسيحية. الإنسان ليس عقلاً فقط حتى ما نكتفي بما يرتقي إليه في ذهنه من حذق وفطنة فنقف عند هذا ولكن لنا أيضا نفس ينشغل بأمرها المسيح ويريد لها أن تكون في سذاجة الحمام. خلاص النفس الإنسانية وتحريرها من عبوديتها لذاتها هو شغل المسيح الشاغل الذي قال: " فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً"(يوحنا 8: 36). نحتاج إلى أن نلبس المسيح ويتصوّر فينا يوماً تلو يوم. نعيش معه وله وبه ونأنس بصحبته ومعيّته معنا. إنه جاء لكي يعطينا ما لله لا أن يكبلنا بالفرائض والطقوس والأحكام. عندها يكون فينا قبسٌ من ألوهته ويأخذ ما لنا من ترابية فانية ونلبس المسيح وتسري نورايته فينا. نثبت فيه ونقيم فيه فيقيم هو فينا. هكذا يظهر جمال المسيح الآسر للقلب ويبصره من لا يعرفونه فيكون خير شاهد على جمال المسيحية وسموّ الروح المسيحية. أفضل شهادة للمسيح تكون بجعل الآخرين يبصرون جماله فينا لا بالحجج أو البراهين في أمر متعلق باستعلان الله عن ذاته لا بـ إله يخضع لبراهين البشر وحججهم العقلانية.
في الروح المسيحية إله الإنجيل يقول لنا إنه غير مسموح لنا تحت أي ظرف من الظروف إزكاء روح المرارة أو الغل ولا مبرر يجيز ذلك. فإذا ما غضبنا وباغتنا روح الغل يأمرنا الإنجيل باقتلاعه فوراً لئلا تتوطد جذوره في نفوسنا وعندها تحدث نجاسة في القلب ما بعدها من نجاسة بل هي أشر النجاسات والرجاسات التي تنجسنا والآخرين معنا. يقول الإنجيل: "مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجاً، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ."(عبرانيين12:15).
لكم يهتز قلبي طرباً لسماع الترتيلة المارونية "يا يسوع الوديع والمتواضع القلب، اجعل قلبك مثل قلبنا" ونذكر المسيح الذي لم يسمع أحد صوته ولا يصيح ولا يجيب الخطأة بالغضب.
إله الإنجيل ليس بـ صمد ولكنه إله ناطق بالكلمة، ونطقه هو المسيح الذي يعبر عنه خير تعبيرٍ ويجلوه خير جلاءٍ حيث هو أيقونة الله الغير منظور. الله في المسيحية يعلن عن نفسه في المقام الأول بـ "ذاته" هو أي بالنطق المباشر في الكلمة قبل أن يتم تسطير كل هذا في إنجيل مدوّن هو بشارة لنا بحياة المسيح. في هذا المسيح لنا كل ما نريد أن نعرفه عن الله "فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً"(كولوسي 2: 9). الرحمة الإلهية عند البعض تعني أن الله يرثي لحال الإنسان المزرية في كبرياء؛ ولا تعني أبداً أحشاء الرحمة المقصودة في الكتاب المقدس والتي يتصف بها إلهنا ذاته حيث يقول "من أجل ذلك حنّت أحشائي إليه. رحمةً أرحمه، يقول الرب"(إرميا 31: 18- 20).
هناك فارق كبير بين أحشاء الرحمة الإلهية في الكتاب المقدس وتذلل العبيد لـ الله. باديء ذي بدء؛ اللّهُ الذي أعبد لا اسم له لكي أَعرفَه به. لفظُ «اللّه» لا يعني لي شيئاً. إنّه اسم جنْس، يُطلَق على كلّ كائنٍ مطلق كامل أزليّ...
أمّا الإسم الحقيقي للّه، الذي يبيّن هويَّتَه وعملَه، فهو الاسم الذي يشير على علاقةٍ بينه وبيننا. فالوالد، مثلاً، إنسان. ونسمّيه «أباً»، أي باسم العلاقة بينه وبين أبنائه؛ ولا يحسن أن نسمّيه إنساناً؛ لأنّه لا يختصّ، وحدَه، بهذا الاسم. هكذا، فاللّه الذي نريده إلهاً لا يختصّ، وحدَه، بهذا الاسم. لذا علينا أن نسمّيه، كما سمّاه يسوع، «أباً». وطلب منّا أن ندعوه أباً، وأن نصلّي له «أبانا».
إنَّ الله في المسيحية لهو"أب"؛ وكل من ينتمي إليه انتماء صادق يتمتع بأبوته ويعرف أنه مهمٌ بذاته كإنسان وغالي على قلب الله ومحبوب جداً من هذا الإله الذي كثيراً ما وصفه المسيح بعبارته المحببة "أبتاه". ويقدر المسيحي أن يخاطبه في دلال ودالة البنوة قائلاً له من القلب كذلك "أبتاه" أو "بابا السماوي". انتماء كهذا يأتي بثماره في النفس المسيحية حيث تشعر أنها محبوبة حب شديد. ألم تكن أزمة الإنسان الكبرى وكثير من أسقامه نابعة من انعدام هذا الحب الأبويّ؟ انعدام الحب الأبوي يؤدي لشرخ مؤلم في النفس البشرية وله أثار جراح النفس على مدى السنين. حب الله الأبوي يلعب دور عجيب في تماثلنا لما حرمنا منه وشفائنا داخلياً حيث ننظر إلى قلب يسوع الأقدس المضرج بالأشواك والدماء وينزف دماً في حبه الثمين والذي فيه نعلم أنه "ليس حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه" (يو 15: 13).
بمعرفة شخصية أو طبيعة الإله في دين من الأديان نقدر بسهولة أن نتعرف على "روح" هذا الدين لأن الناس على صورة الإله الذي يعبدون. قل من تعبد أقول لك في الحال من أنت! وبمعرفة مَن هو الإله في المسيحية وقوام رسالته بأن الله ليس إلا حب (ولا شيء يمكن أن يُضاف إلى هذا الحب) نقدر كذلك أن نتعرف على "الروح المسيحية". في المسيحية، نرى الروح المسيحية تنبثق عن مسيح مصلوب لا قاهر أو يشتهي السلطان وما فيه من قذارات السياسة. وعليه جاءت الروح المسيحية أمام ضمائرنا روح بذل الإنسان لذاته في تواضع مطلق على مثال المسيح لا روح التسلط أو الشوفينية الدينية أو القومية أو الذكورية.
لذلك اخترت إله المسيحية لما فيها من كل هذا الجمال؛ إذ الإيمان اختيار شخصي لكل إنسانة يومًا بيوم.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=16325&I=407