أرض النفاق

بقلم: نجاد البرعى

لم أصدق ما قرأته فى صفحة «الأهرام» الأولى فى عدد الثلاثاء الماضى... «الأهرام» الوقور تنشر عنوانا بارزا يقول: «تأييد واسع لفكرة بريد الأهرام للاحتفال بيوم الرئيس»، مع متابعة مطولة فى صفحة بريد الأهرام حجبت جميع رسائل القراء، فاقتصر البريد على مناقشة الفكرة وحدها.

أصل الموضوع أن إحدى قارئات الجريدة أرسلت إليها رسالة مقتضبة يوم الأحد الماضى تقترح الفكرة مستندة إلى ما قالت أنه قد جرى عليه العمل فى الولايات المتحدة الأمريكية. يُنزل الأمريكيون قائد حرب الاستقلال والرئيس الأول لبلادهم جورج واشنطن، منزلة خاصة فى نفوسهم. وحين تعرضت وحدة الولايات المتحدة إلى الخطر بانسحاب إحدى عشرة ولاية من الاتحاد وتكوينها دولة مستقلة ثم عودتها إليه بقوة السلاح عبر حرب أهلية طاحنة فى عهد الرئيس الأمريكى السادس عشر إبراهم لنكولن، بدأوا وبشكل غير رسمى فى الاحتفال بيوم ميلاد جورج واشنطن إعلاناً بتمسكهم بوحدة بلادهم.

وفى عام ١٩٦٨ أى بعد أكثر من مائة وثمانين عاماً على وفاة واشنطن قرر مجلس النواب الأمريكى اعتبار يوم ميلاده يوم عطلة رسمية، ثم قرر الرئيس الأمريكى نيكسون الذى أجبر على الاستقالة عام ١٩٧٤ بعد فضيحة «ووترجيت» اعتبار يوم ميلاد جورج واشنطن عيداً لكل الرؤساء الأمريكيين.

يمكن أن نخرج من تلك القصة بأمرين أساسيين؛ الأول أن هناك سببا تاريخيا للاحتفال بهذا اليوم فى الولايات المتحدة، وهو سبب لا يتعلق بشخص الرئيس جورج واشنطن ولكنه يتعلق بكونه احتفاء بوحدة الولايات المتحدة وتحريرها من الاحتلال الإنجليزى،الثانى أن الاحتفال بهذا اليوم جاء عقب حرب أهلية طاحنة لإعادة توحيد الدولة بعد أن تعرضت إلى التمزق بانفصال العديد من الولايات عنها، وبعد أكثر من ثمانين عاما على وفاة الرئيس واشنطن نفسه. أما فى مصر فالوضع يختلف؛ فتلك الدعوة فى ذلك التوقيت وبالطريقة التى نشرت بها تفوح منها رائحة خبيثة ستؤدى قطعاً إلى عكس المقصود منها.

فمن ناحية تحتفل مصر فعلياً بمناسبات تاريخية مماثلة، فهى تحتفل بقيام ثورة ٢٣ يوليو، وبجلاء الإنجليز عن مصر، وذكرى حرب أكتوبر، وبذكرى استعادة «طابا»، وفى كل تلك الاحتفالات يأتى ذكر الرؤساء الذين تمت على أيديهم تلك الأعمال الخالدة، بما لا حاجة معه إلى أن نحتفل بهم فى يوم مخصوص.

ومن ناحية ثانية فإنه وفقاً لتقرير صادر عن الجهاز المركزى للمحاسبات فى نوفمبر الماضى، فإن الموظف المصرى لا يعمل أكثر من خمسة وثمانين يوماً فى العام فيما لو احتسبنا إجازة «الجمعة» و«السبت» ورصيده الاعتيادى من الإجازات، وتقدر الخسائر الناجمة عن هذه الإجازات بحوالى ١٠٤ مليارات جنيه سنوياً، بما لا يجب معه السماح بالمزيد من العطلات، لو كنا جادين فى الدعوة إلى زيادة الإنتاج.

ومن ناحية ثالثة فإن هدف العيد المطلوب لا يصلح فى دولة يقول دستورها إنها ديمقراطية يختار الشعب فيها رئيسه بالانتخاب بين متنافسين، فهدف العيد المقترح – الذى احتفت به الأهرام - وكما عبرت عنه صاحبته بنص كلماتها هو «أن يعبر الشعب كل الشعب عن مشاعره تجاه الرئيس حسنى مبارك حفظه الله ونجعل من هذا اليوم عيداً كل عام نجدد فيه ثقتنا برئيسنا،‏ ونعلن تمسكنا به زعيماً وقائدا‏ً»، وهو أمر أقرب لما كان يحدث فى الدول الشمولية حيث الزعيم الأوحد والقائد الضرورة.

ذكرنى احتفاء الأهرام بتلك الفكرة، بما نشر فى صحيفة «الجمهورية» الأسبوع الماضى من أن الدكتور زكريا عزمى «تلقى أكثر من مليون مكالمة تليفونية خلال وجوده فى ألمانيا مع الرئيس مبارك للاطمئنان على صحته» و«أن بعض المكالمات كانت من مواطنين بسطاء سعوا للحصول على رقم هاتفه المحمول للاطمئنان على الرئيس»، وعلى الرغم من أن السيد زكريا عزمى نفى علاقته بالخبر المنشور، وأوضح أنه غير منطقى، إلا أن الخبر وتداعياته وتعليقات الجمهور عليه ربما أساءت إلى الرئيس من حيث أرادت أن تتملق مشاعره، وهو ما أتصور أن من ابتدع قصة الأهرام وطورها كان يهدف إليه.

فى عام ١٩٤٩ كتب يوسف السباعى رائعته «أرض النفاق» التى تحولت إلى شريط سينمائى عام ١٩٦٨، وعلى الرغم من أن الراحل فؤاد المهندس أبدع فى دور المنافق المتسلق بعد أن ابتلع حبوب النفاق، إلا أنه بالقطع لم يصل إلى مستوى بعض ما نراه ونقرؤه فى هذه الأيام.

نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع