خذ الحكمة من أفواه المجانين

محمود غازي سعد الدين

بقلم: محمود غازي سعد الدين
خذ الحكمة من أفواه المجانين.. هل لنا أن نصدق المثل القائل (خذ الحكمة من أفواه المجانين)؟ هل يُعقل أن هناك مجانين يقولون حكمًا لكي يصدقها العقلاء الذين لا تشوب عقولهم أية شائبة؟ ولماذا جاء هذا القول؟ لطالما فكرت مليًا في هذا القول ولم استوعبه، ولطالما وجدنا في حياتنا اليومية وخصوصًا عندما يتصرف أي واحد منا بتصرف طائش أو متهور فيقال له أأنت مجنون أو هل فقدت عقلك؟.. ولعل فاقد العقل قد أعفي من جميع أو معظم ما يترتب على العاقل من واجبات وحقوق ومهام وقوانين توكل له حتى في المسائل الدينية المكلف بها وبغض النظر عن المعتقد وأي رسالة سماوية وغير سماوية حتى جاء القول في ذلك (أن من لا عقل له لا دين له).. إذا هل يصح أن نطلق مفردة المجنون على الشخص الذي لا يستوعب ما يفعل ولا يتحكم في فعله وقوله ولا يتحكم بعقلانية في هذه التصرفات؟ ومن هو المجنون إذا.. ولماذا إذا نأخذ الحكمة من أفواههم؟

توصلت بعد أن فكرت مليًا في هذه الحكمة و تبين لي أنها لا تخلو من الصحة، ولعلي دائمًا أتذكر بعض الأشخاص المجانين الذين أصيبوا بعاهة وخلل ذهني على عهد البعث البائد عندما لم يكن هناك أحد يتجرأ على التفوه ببنت شفة حول أية مسألة سياسية تمس السلطة القمعية التي كانت تحكم إبان ذلك العهد، وكنا نرى ونسمع بعض المجانين كانوا يتفوهون جهارًا نهارًا ويلعنون المسئولين من أكبرهم إلى أصغرهم وهم يجوبون الشوارع والطرقات، في وقت كان الصمت مطبقا على (وعاظ السلاطين أولاً) الذين كانوا يدعون بل ويمجدون للزمرة الحاكمة من على المنابر مع تقديرنا لمن ضحوا بحياتهم وقبعوا في غياهب السجون في سبيل قول الحق ومنع الظلم..

 في أحد ألأيام وكنت جالسا في إحدى المقاهي العامة في شمال العراق، مر بنا أحد من نسميهم في مجتمعاتنا بالمجانين (نظرًا لهيئته وتصرفاته الغريبة) وكان يتحدث بصوت عال وهو (يلعن المسئولين في الإقليم (الكردي) قائلاً لعنة الله على من يظلمنا ولعنة الله على من يسرق أموالنا ولعنة الله على من غدر بنا) فقلت لزميلي فواللهِ لابد أن نأخذ الحكمة من فم هذا ومن نسميه مجنونا.. قال كيف؟ فقلت هل يجرأ من يقف على المنبر ويؤم المئات من الناس في صلوات الجمعة وغير الجمعة أن يشير بإشارات تحرك العقل الجامد الراكد للمتلقي ليبدأ بالحراك من حالة السكون والسبات إلى حالة الحركة والوعي والاسترشاد إلى السلوك القويم الصحيح؟ ومن ثم لكي نبدأ بفضح من يسرق وينهب المال العام وحوادث الاغتصاب والجرائم ووو... التي يقوم بها المسئولون؟ لقد سمعت بعد فترة ليست بالقصيرة أن احد أزلام الموالين لسياسة ألأحزاب الكردية في السلطة قام باستدراج هذا المجنون المعفي من كل شيء قانونا وشرعًا وعرفا إلى محله، وقام بتهديده بمسدسه قائلاً له سأقتلك إن لم تقف عند حدك وتكف عن هذا الحديث الذي تروجه أنت ومن يدفعك، فما كان من هذا المجنون إلا أن أذعن له خائفا مرتعدًا من تهديده..

 ولعل ثقافة التهديد والوعيد هذه ولغة السلاح والعنف ضد كل من يقف في غير صفهم وانتهاك الحقوق والرعاية الصحية السيئة بحق هذه الشريحة وتعامل المجتمع بصورة لا إنسانية هي نفسها التي قد جعلت من هذا المجنون مجنونا يجوب الشوارع بهيئته الرثة ولحيته الكثة.. أبو ذر الغفاري لم يكن مجنونا وسائر الأنبياء والصالحين والأولياء من الناس لم يكونوا مجنونين يومًا ما، ولكن بدأت مسيرة كل منهم بأن اتهموا بالجنون والهوس والخرف (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)، فهل كان أبو ذر الغفاري أحد أقرب صحابة الرسول مجنونا عندما اتهمه الخليفة عثمان بالجنون والخرف؟ فيما كان هو يجوب الشوارع ويردد الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) في وقت كان فيه العديد من المسلمين وغير المسلمين يعيش شظف العيش ولا يجد قوت يومه، والحوادث المروية عن ذلك كثيرة وعديدة ولطالما سمعنا المرأة التي كانت تضع قدر الماء ليغلي على النار موهمة أولادها بأنها تحضر طعامًا حتى ينهكوا ويناموا، والخليفة الذي عملت الصدفة عملها وعلم بها وهم ليساعدها، في حين كان غافلا عن أمرائه وولاته وصحابته الكثيرين الذين كانت تركاتهم وسبائك الذهب الخاصة بهم كانت تكسر وتقطع بالفؤوس..

 هل كان أبو ذر الذي قال فيه الرسول أربعة تشتاق إليهم الجنة ومنهم أبو ذر الغفاري (المجنون) الذي نفي وأقصي عن المدينة إلى (ما تسمى الآن منطقة جبل عامل في لبنان) ولم يُسمح لأي من صحابته ( المجانين) كعلي وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي أن يودعوه حتى توديعًا والذين لم يذعنوا لذلك وهددوا بالنفي والإقصاء ليلحقوا المجنون الذي تشتاق إليه الجنة!!..

 لعل من المهم القول إن قول الحق والوقوف بوجه الظالم والطاغية والمجرم والإرهابي قد يفسره المراءون والمنافقون بأنه ضرب من الجنون والهوس، فكل من يفرط في خطابه الإنساني بعقله الحر المنفتح سوف يُسمَّى الآن مجنونا، فعلينا الآن أن نحيد عن صف من يُسمون أنفسهم بالعقلاء والحكماء ويروجون في نفس الوقت لثقافة القتل والإرهاب والعنف والتهديد والوعيد.. وأنت عزيزي القارئ لن تكون منهم ونحن سنقف مع المجانين من الرسل والصالحين كعلي بن أبي طالب ومارتن لوثر ونيتشه وأبي ذر وعمار و سلمان ولنكولن وتشرشل وإديسون الذين لم يبخلوا بخطابهم وفعلهم الإنساني، فنعتوا ولقب البعض منهم بالمجانين. إلا أنهم هم المجانين وساء ما يحكمون..

 لقد تفشت ظاهرة الجنون والهوس في مجتمعاتنا المتخلفة ولا أشير هنا إلى المجنون الذي قلت عنه سابقا إنه كان يجوب الشوارع يلعن المسئولين، فالجنون الحقيقي هو أن تسرق وتنهب المال العام وما ليس لك فيه حق وسلطان، والجنون الحقيقي أن ترهب الناس وتهتك أعراضهم وتسفك دماؤهم بغير حق، وأن تمنع حريات الناس التي كفلها الله وكل الشرائع السماوية وغير السماوية.. إذا فالجنون الحقيقي هو الذي تعيشه الثلة الضالة التي تقوم بتفجيرات وأعمال قتل طائفي وقومي وعرقي في مشارق الأرض ومغاربها، فهم الذين يسمون ويروجون وينعتون كل حركة إصلاحية وإنسانية ومشروع ديمقراطي بالسفاهة والجنون وقد تحولت المصطلحات القديمة هذه إلى مصطلحات جديدة من قبيل العمالة للغرب والخيانة والمؤامرة..

 الإنسانية بالطبع ليست ذاهبة للانحلال والتفسخ والانحدار بل هي قائمة بقاء الهواء الذي نستنشقه والحياة التي نحياها والتفاؤل قائم، ولعلنا لابد أن نحذو حذو نيتشه عندما قال "تحطيم الأصنام هي كلمتي المفضلة".. حتى قال له طبيبه الذي كان يعاوده "أنت لستَ مريضًا عصبيًا ومجنونًا بل أنا هو المتوتر أصلاً".. أما من ينظرون إلى الناس من فوق أبراجهم العاجية فهم غير جديرين بأن يخدمونا وهم لا ينتجون في دنياهم سوى فلسفة الحذلقة الفارغة وتكريس ثقافة رضوخ الجميع لهم قولاً وفعلاً فلا تعيروهم أي اهتمام فهم إلى زوال. ولنأخذ بعض الحكمة والموعظة من أفواه المجانين.
 
nelson_usa67@yahoo.com
www.iraqfreedom.blogspot.com