إبراهيم عرفات
بقلم : ابراهيم عرفات
لستُ مِمَّن يتشيَّعون لفئة مسيحية ضد فئة أخرى لأني أرى في هذا تقييداً لحريتي. ولم أقصد أن أتعرف بالأب متى المسكين كمعلِّم لي من باب الخروج عمَّا يألفه عوام الناس. فلقد ذهبتُ ذات مرة لزيارة المرحوم حلمي صديقي، وبعد أن أكلنا وجبة شهية وأودعني سلامة الله، ترك معي مجموعة من الكتب الصغيرة وشريطاً كان هو بداية تعرُّفي على هذا الصوت المُميَّز، والذي لم أعرفه من قبل. أخذتُ الشريط واستمعتُ إليه. وكثيراً ما تَرِد إليَّ الشرائط من هنا ومن هناك مِمَّن يرغبون في دعمي في إيماني المسيحي، وقد كانت نقلتي هذه نقلة كبيرة من خارج المسيحية إلى المسيحية برحابها المتسعة ومسيحها الرأس.
- وأنت عندما تسمع عظة للأب متى المسكين (وهو لا يحب أن يرى نفسه واعظاً، بل إنساناً له عِشرة بالمسيح، ويأخذك خطوة خطوة إلى أن يصل بك للمسيح وجهاً لوجه)؛ تجد أن تعليمه مختلف. إنه لا يُقدِّم لك نصائح وإرشادات، لأنه ما أكثر الواجبات والفرائض التي يُلقِّنها المعلِّمون لمُريديهم، بل هو يأخذك ويقف بك بهدوء أمام وجه المسيح وحبه المتدفِّق، وكأنه يُميط حجاباً من نوعٍ ما جانباً فتنكشف لك هذه الأمور المحجوبة، فترى ما لا عينَ رأت ولا أُذن سمعت ولا خَطَر على قلب بشر (1كو 2: 9)، بل ترى ما قاله الرب لمرثا: «إن آمنتِ ترين مجد الله» (يو 11: 40).
- عندما تسمع الأب متى المسكين، تشعر (وقد انتقلتُ أنا نقلة جذرية من دين الآباء والأجداد الذي فُطِرتُ أنا عليه) بحب شديد يغمرك ويأخذ بمجامع قلبك تجاه هذا المسيح الذي يُحدِّثك عنه الأب متى وتقول: أريد هذا المسيح، أريده الآن. وتذهب خارجاً كطفل يجري هنا وهناك، أو كمثل هذا الابن الضال الذي يهرول للقاء أبيه فتخرَّ أمام المسيح ساجداً صارخاً: ربي وإلهي. كل هذا والأب متى المسكين يقف جانباً في براءة الطفل ويُشاهد حب الله يتدفق وكأنه المحيط، يتدفق دفقاً في قلب المؤمن: «لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا» (رو 5: 5).
- كنتُ أتهيَّب الأرثوذكسية وأخشى أن تكون رِدَّة من دين تركته إلى دين جديد أستبدله بها. ولكن بقراءة كتابات الأب متى المسكين وسماع عظاته، عرفتُ أن الأرثوذكسية ليست ديناً، ولكن هي دعوة لمعرفة الإله المتجسِّد حتى ما نصير نحن أبناءَ وبنات الله. وهذا هو امتياز ”التأليه“ كشركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4،3).
- أمام الأب متى المسكين الكاهن الأرثوذكسي لن نخشى أن يتهمنا أحد بتهمة الجمود، لأن الطقس هنا يصبح مكشوفاً بكل رموزه العميقة المكتنزة بالمعاني، ونعرف أن إيماننا ليس مسائل حسابية، ولكنه مليء بالإشارات والدلائل ذات المعاني العميقة. وفي كل ممارسة طقسية نجد سرَّ المسيح مُخبَّأً. وعلينا أن نسعى مبتهجين لكشفه أو هو بالأحرى يكشف لنا عن نفسه بنفسه في السرِّ.
- والمسيحية هنا هي مسيحية سرائرية حيث الجملة الواحدة في بساطتها التي يفهمها أي طفل، هي أيضاً مُركَّبة وذات أكثر من بُعد واحد. عندها نعرف أن إيماننا المسيحي ليس مجرد ”عقائد“ و”أركان إيمان“، بل هو ”إيمان سرائري“، كله أسرار يهمس فيها صوت المسيح بقوله: «الذي يحبُّني يحبه أبي وأنا أُحبه وأُظهِر له ذاتي» (يو 14: 21). هنا المعرفة قائمة على وجود الحب أولاً، وبدون الحب لن نعرف أسرار الإيمان. فالإيمان المسيحي هنا ليس فرائضَ إيمان بل هو ”سر الرب“ الذي هو لخائفيه.
- أيضاً أبهرني الأب متى المسكين في حبِّه الصادق والواثق للمسلمين، وشتَّان بين الحب عن ثقة وصدق النفس، والحب عن مبدأ ”مُجَبر أخاك لا بطل“؛ لا تملك أمامه أن ترى الناس بتقسيمات عقائدية هذا إلى الجنة وذاك إلى النار، بل ترى الخليقة كلها مشمولة في حب الله الأزلي الأبدي وجميعهم «ذريته» (أع 17: 29). هنا يُستعلن خلاص المسيح للجميع، بأن يُعلِن النور عن ذاته. والنور هنا يقوم بعمله دون حاجة إلى أبواق وصراخ الوعَّاظ وحسب، بل على المؤمن عندئذ أن يثبت في اتحاده بالمسيح والمسيح يجذب الناس إليه.
- تعلَّمتُ منه أن المسيحي الحقيقي يُطبِّق حرفياً وصايا المسيح، فهي ليست لزمن غابر تحتمل المجاز، بل هي وصايا حرفية. فعندما يُطلَب منا أن نصفح، فحتى وإن لم نشعر بالصفح، فهذا إلزام لنا وعلينا وإلاَّ بقينا في الظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان. عندها نفهم جيداً معنى انتصار الصليب، وأن نغلب ذواتنا، كما يؤكِّد في تعليمه، وإلاَّ فكلامنا عن قيامة المسيح وغَلَبته يصبح مجرد شعارات فارغة.
- عند الأب متى المسكين، النسك ليس جهاداً فردياً، بل هو جهاد النعمة، كما علَّم القديس مار إسحق السرياني. فكما أن الخلاص بالنعمة، فالجهاد يكون أيضاً بالنعمة. وعندها علينا أن نذكر ما قاله لي ذاك القبطي العجوز: ”يا بُنيَّ اجمد فيه، وهو هايجمِّدك فيه“. لا نتكل في جهادنا على مفهوميتنا أو محاولاتنا الفردية، بل الرب نفسه يعمل فينا، والرب نفسه يُصلِّي فينا بروحه، والرب نفسه يُجدِّد إنساننا الباطن العتيق.
- مع الأب متى المسكين أحببتُ الإنجيل وأردتُ أن آكله أكلاً، وأقرأه مراراً وتكراراً، فأجد أني أمام ”غَمْرٌ يُنادي غَمْراً“، وأمام كلامٍ أبعاده عميقة بلا حدود، وفيه صوت الرب لبطرس: «(يا بطرس) ابعد إلى العمق» (لو 5: 4).
- مع الأب متى المسكين لن نقرأ الآية ونقف عند المعنى الظاهر لنا، بل سنجد المسيح أيقونة الآب يكشف لنا وجه الله الجميل فيها، فنريد من خلال الآية أن ندخل قلب المسيح ونُقيم هناك. كم أنا شاكرٌ أَنْ تكرَّم صديقي ”روماني“ وأكرمني في إعطائه لي مجموعة ”أقراص مُدمجة“ (C.D) لجميع عظات الأب متى المسكين. ويا للعار فإن هذا الكنز عندي بينما لا أغترف منه من يومٍ إلى يوم، أو من أسبوع لأسبوع. ولا عجب أن يتبع ذلك قحط روحي وسلوك جسداني.
- نحن بحاجة إلى معلِّمين ومرشدين مثل الأب متى، حتى ما يأخذوا بيدنا إلى المسيح مباشرة، فنتعلَّم أن ننتصر على غضبنا، وأن لا نثأر لذواتنا، بل ليكن شعارنا دوماً كما قال الأب متى في تفسيره لرسالة أفسس مقتبساً آية إشعياء النبي: «حقِّي عند الرب» (إش 49: 4). وحَسْبُنا إله كهذا، وهو نفسه كفاية جميع حقوقنا وما نريد.
- هذا الرجل (الأب متى المسكين)، على مثال المسيح، لا يُفكِّر مجرد تفكير أن ينشق بل يخضع خضوع المسيح الكامل لمَن اضطهدوه وأحرقوا كتبه وازدروا بها، متحدِّثاً بكل احترام وحب ووقار لمَن يرأسوه، ولآبائه في الرهبنة.
فعرفنا أن المسيح حقاً هو خضوع التواضع، لا غطرسة الاعتداد بالذات وردِّ الصاع بمثله، مما يؤدِّي للشقاق والانقسام. والمسيح يضم كنيسته إلى وحدته السرِّية مع أبيه.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=16016&I=399