د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: ماجد عزت إسرائيل
مر ما يقرب من عام على رحيـــل أمي الحبيبة الطيبة، وأنا أكاد لا أُصدق أنها فارقت الحيـاة، ليس لأنني لا أؤمن بالمـــوت، بل لأن روح أمي الطــاهرة نبراسًا ونموذجًا للحب والعطاء والجهد والكفاح، الذي مهـما كتبت لا أقدر أن أوفيها حقـــــها، لأنهـا كانت رمزًا فريـــدًا لـلأم المـصرية الطيبة المُحِبة لأولادها، الصابرة على بليها مـنذ أن فقــدت زوجهــــا في السبعينيات، وعاشت ما يقرب من أكثر من أربعون عامًا أرمـــلة ورمزًا للكفاح والعطاء.
أمي الحبيبة الطيبة، استـــطاعت تعليـــم أبنائها السبعة، ابنتان وخمس أولاد، ووقفت بجانبهم عند زواجهم، ولكنها لم تتدخل لا من قريب أو بعيــد في اختيار كل منهما شريك حياتهما، بل كانت تعطي خبرتهــا ونصائحها في جو من الديمقراطية. ولحبها لأبنائها عندما فقدت ابنها في تسعينيات القرن الماضي ويدعى "جمـــــال" ـ الذي أثرت على تسميته عند ولـــدته بهذا الاســــــم حبــــًا في الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر (1954-1971م) ولإيمانها بثورة 1952م ـ فإن أمي ناحـــت عليه حتى فقدت عينها اليسرى قبل انقضاء أربعين يومًا على رحيله.
أمنت الأم الحبيبة الطبية بضرورة تعليم أبنائها التربية المسيحية السليمة، وبما أن بلدتنا لم يكن بها كنيسة ـ بالرغم من أنها كانـت كرسي أسقـــــــفي من القرون الأولى الميلادية ولكنه اختفي واختفت الكنيسة معه ـ فلـم تيأس من عدم وجود كنيسة لتعليم الأولاد، فكانت تذهب بهما جميعًا كل أسبـوع سيرًا على الأقدم، تقطع مسافة ما يقرب من أربعون كيلومترا، ذهبًا وإيـــابًا، إلى دير سدمنت الجبل، وتعبر بهم بحر يوسف عـــبر مركب خشبي ضئيل الحجم، وفي أحيان كثيرة كانت المراكب تتعرض للغرق، لأنها كانت بدائية الصنع. ومن أجل ذلك ظــــل يرودها حلم إعادة الكرسي الأسقفي إلى بلدتنا، أو على الأقل بناء كنيسة، فعندما توفيت والدتها اختارت منزلها ليكون كنيــسة.
ذكرت الوالدة أن خالها ـ وكان من أعيان الناحية ـ قام ببناء هـــذا المكان منذ البداية على أساس كنيسة منذ أوائل القرن العشرين، ولكن وافته المنية وهــو في ريعان شابة فلم يرى حلمه، فسكنت المكان والدتها، إلى أن رحلت، فــي أواخر الثمانيات. ومن أجــــل ذلك تعاون معها مطران بني سويف المتنيح الأنبـــــا "أثناسيوس"، بما أن البـــلاد كانت تعاني الفتنــة الطائفة في أواخر الفترة الساداتية(1971-1981م)، فاتفقت مع نيافته أن يكــــــون العمل في سرية تامة، على أساس أنها تجهز المـــكان لزواج ابنها "جمــيل" وبـــدأت العمل. ولم يمضي أكثر من عامين حتى رأى المكان النور، حاملاً اســـــــم كنيسة "السيــدة العذراء ومار جرجس" وتم تدشينــــــها بيد صاحب النيافة الأنبا "متاؤس" رئــــيس دير السريان الحالي، لســــفر الأنبا "أثنـــــاسيوس" للـــــعلاج بروسيا في ذات الفترة، وظلت حريصة على فتحها وغلقـــــــها ونظــافتها حتى رحيلها عن دنيانا في فبراير 2009م.
وتعددت مواقف الأم الحبيبة الطيبة المـــصرية، لتــــعبر عن وطنــيتها وإخلاصها لبلادها، فنذكر على سبيل المـــثال، عندما قامـت حرب أكــــتوبر المجيد سنة 1973م، كانت تعيش مرحـلة من الـــــحزن لرحيل زوجها في نوفمبر سنة 1972م، وبالرغم من ذلك نصـــــحت ابنها الأكبــر"مــــنير" بسرعة الانضـــمام لقــــوتنا المسلحة، وأصبــــح ضمن ســــــلاح البحرية المصرية الذي عبر قنــــاة السويس، وحطم خط بارليف، وكأنها هنا "أياح حتب" والدة أحمـــــس قاهر الهكسوس، صاحب فكرة العجلات الـحربية، بل أنه عندما تأخر ابنها عقب حرب 1973م، وقيل عنه أنه فُقد، وأحيــانًا أُسر بإسرائيل، كانت هي وحدها دون أفراد الأسرة تؤمن بعودته وتحـقق حلمها، وكانت عودته مع زملائه عيد قوميًا ببلدتنا..
وبالرغم من انقسام بلدتنا إلى ما يعرف بـ "البداينه"ـ نسبة إلى محمود بك البديني الذي محافظًا للقاهرة في أثناء حــريقها زمن الملك فاروق الأول سنة 1952م"، والـ" العرب" ـ وهـــــــؤلاء هم القبائل البدوية التي هاجرت إلى بلدتنا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وأشهـــرها قبيلة عبد الرحمــــــــن من عربان المشارقة، والـ"النـصارة" نسبة إلى الأقباط، وهم أصــــحاب البلاد الأصليين وكانوا يشكلون أكثر من نصف تعــــدد سكان بلدتنا، فكان منصب العمـــدة بيد "البداينة" حتى توفى أخر عمــــدائها ويدعى "حسين" فأشــــتد الصراع على المنصب، فأجرى انتخابات عليه حسمـــــــها "البداينة" وكان للأقباط دورًا في ذلك، لأنهم في تسعينيات القرن الماضي قد وصـــل عددهم إلى ثلث البلدة، وللأمانة العلمية كانت أمي الحبيبة تتمــتع بحب الطرفين لها، وكان كلاهما يعلم جيدًا مكانتها بين الأقباط والمسلمين.
كما أن أمي الــــحبيبة الطيبة، كان زوجــــها كاتبــــًا وعضوًا بالاتحــاد الإشتراكي الذي شكل زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فكانت تسمع منه عن أهمية المشاركة في الانتخابات، فحتى رحيلها كان لديهـــــــا بطاقة انتخابية وتحرص على المشـاركة، فشاركت في جميــعها، منها مجـــــلسي الشعب والشورى، وانتخابات الرئاسة، وشاركت في التصويت على مــــواد الدستور وغيرها.
كانت الوالدة تتمتع بقدر من الثقافة، بالرغم من ضئالة تعليمها؛ فاذكر هنا على سبيل المثــــــــــال عندما حضــــرت لكاتب هذه السطور مناقشة الماجستير، قالت لي بالحــــــرف الواحد، أن هذا الرجل عظيم في التاريخ، كانت تقــــصد الدكتور الراحل (رءوف عباس حامد)، وتكرار هذا الموقف عن مناقشة رسالة الدكتوراه، عندما أشارت إلى الأستاذ الدكتورعاصـــم الدسوقي، متعه الله بالصحة والعافية، وقالت لي نفس الكلمات، بينما قـــالت على الأستاذين الجليــــلين الدكتور(عماد أبو غازي) والدكتــــــور(محمد عفيفي) إنهم طيبين، وواعيان بعلم التاريخ، ويتحدثان بهدوء، وكـــــأنها هنا عالمة تقوم بأسلوب تقويم للمواقف الذي أمامها، وتقيم العاملين بحقل التاريخ.
كما لم أنسى سهــــــرها معي في أواخر أيامها عند انتهائي من كتاب "الأرمن في القـــدس عبر التاريخ" متذكر كم كانت تتمنى زيــــــــارة القدس، وأتاحت لها الظروف ولكنها رفضت، تنفــــيذًا للقرار البابا شنـودة الثالث ـ أطال الله عمره ـ على أمل الرجاء في عودة القدس إلى حــــظيرة الأمـــــة العربية.
وفي قريتنا كانت نموذجًا للوحدة الوطنية (ليس هذا كلام أو شعار أو نفاق أو... غير ذلك) بل أن جيرانها المسلـــمون بكوا عليها عند توديعـــها إلى مثواها الأخير بكـــاءٍ مريرًا، لــدرجة أن دير سدمـــتنت الذي دفنت به تكــــدس بالآلاف، لأنها كانت نموذجًا للتأدية الواجبات الاجتــماعية مثـــــل الأفراح والعزاء، وزيارة المرضى، والعطاء والتبرع، وكل ذلك من أساس تعــاليم المسيحية.
بل أن أمي الحبية الطيبة، عندما تعرضت البلاد لموجة من الإرهاب الغاشم، والذي كان من نتائجه اضمــحلال في السياحة، شجعت على تنمية السياحة الداخلية لبس روح الطمأنينة في النفوس، فلـــــم تترك ديرًا واحدًا أو مزررًا إلا وزارته، فأذكر لها موقفـــًا طريفًا عندما ذهبت لزيارة مجمـــــع الأديان بشبة جزيرة سينــاء، فحاولوا إقنعهــــــا بعدم الدوران حول المبنى لإن هناك عساكر إسرائيليين، فقالت بالحرف الواحد "أنا لا يهــمني إسرائيل، ولا حتى شارون".
على أية حــــال، تحيــة لروح أمي الطيبة، وتحية لكل أم تــــؤدي واجبها بأمانة، وكل عام وأمهات جميع المسكونة بألف خير وسلامة.
http://www.copts-united.com/article.php?A=15861&I=395