بقلم: سمير عطالله
عام 1955 اجتاحت موجة هائلة مدمِّرة كولومبية فقتلت على الفور ثمانية من البحارة وقذفت آخَر على قارب نجاة. أمضى الرجل عشرة أيام تائها في المحيط، لا ماء ولا طعام، وحاول أن يلتهم حذاءه لكن النعل كان قاسيا. كلفت صحيفة «إيلسباكتاتور» صحافيا في السابعة والعشرين تغطية الحدث ومحاورة البحار. كان اسم الصحافي غابرييل غارسيا ماركيز. العاصفة لم تكن هي الخبر.
لقد اكتشف الصحافي الشاب أن سلاح البحرية الكولومبي كان يستخدم سفنه لتهريب البضائع من ثلاجات وأدوات أخرى. ولو لم تكن السفينة المنكوبة مثقلة لما غرقت. كم حلقة يمكن أن تكتب حول الموضوع؟ اثنتان؟ ثلاث؟ لأنه ماركيز البارع، فقد وضع 12 حلقة. وتضاعف توزيع الصحيفة. لكن الثمن كان الخوف، فأرسلت ماركيز مراسلا إلى باريس وبعد أشهر أغلقت الحكومة أبوابها. هكذا تغيرت حياة حامل نوبل. وبعد سنوات، في 1970 صدرت حلقات البحار الناجي في كتاب بعنوان «قصة بحار فوق حطام سفينة»، تدرك من قراءتها أن الريبورتاج المطول لم يكن ذروة العمل الصحافي بل أول العمل الروائي.
في البداية تردد ماركيز في قبول المهمة، متذرعا بأن البحار روى قصته عشرين مرة لجميع صحف كولومبيا. لكنه قرر أن التحدي هو في أن يكتب شيئا مختلفا. أن يجمع الحقائق والتفاصيل ويكتبها في سرد روائي. لا. لن يترك البطل الآتي إليه طوعا أن يفلت من بين يديه. كان ماركيز يدرس القانون في بوغوتا ولا يفكر في الصحافة أو الكتابة. وذات يوم ذهبت ابنة خاله ألفيرا مندوزا لإجراء مقابلة مع ممثلة أرجنتينية شهيرة تدعى بيرتا سنغرمان. جلست الممثلة المليئة بالغرور إلى جانب زوجها ترفض الرد على الأسئلة. عبثا حاولت الصحافية المسكينة. وفي النهاية أنقذ الزوج الموقف وراح هو يرد على الأسئلة. واتخذت المقابلة منحى آخر أكثر إثارة. يقول ماركيز إنه عندما قرأ ذلك خطر له أن الإمكانات الإنسانية في الصحافة أفق وسيع بلا حدود.
ترك القانون، كما يروي في سيرته الذاتية الصادرة 2003 «عشت لأحكي الحكاية»، وراح يتنقل بين صحف كولومبيا. وعندما وصل إلى «إيلسباكتاتور» كان قد بنى لنفسه سمعة كناقد فني. لكن رئيس تحريرها، خوسيه سالغار، قال له: «دعك من السينما والرسم. أنت صاحب أسلوب وحس يليق بالتحقيقات الكبرى». حمل ذلك الأسلوب ومضى يكتب في قضايا الناس: الفساد في ميناء ما. مبنى ينهار على سكانه. أحياء الصفيح. تجاهل الحكومة لحقوق المحاربين القدامى. ثم، دون انتظار، طلعت له قضية البحار الذي حاول أن يأكل نعله من شدة الجوع. ماذا لو لم تغلق الحكومة صحيفة «إيلسباكتاتور»؟ ماذا لو لم يهدَّد ماركيز ويسافر إلى باريس، حيث سيصبح مشردا يستعطي في المترو، كما ذكرنا في زاوية سابقة؟ ألف ماذا لا معنى لها، وقدر طيب.
نقلا عن الشرق الأوسط
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=15399&I=384