فرحون مرحون مبتهجون

علي سالم

علي سالم
هكذا وصف ليو أفريكانوس، الرحالة الإيطالى، سكان القاهرة عندما زارها سنة 1526، أى منذ أكثر من خمسمائة عام، وقال عن باب اللوق: تبعد هذه الضاحية عن أسوار القاهرة بمسافة ميل واحد، وتضم ثلاثة آلاف أسرة تقريباً، ويسكنها التجار ومواطنون من أصحاب كل المهن، تماماً مثل الضواحى السابقة

ويوجد بها قصر منيف ومدرسة عليا بناهما الأمير أزبك الذى كان أحد مستشارى السلطان، وسمى القصر باسمه الأزبكية، ستجد هناك كل ما تتخيله من مصادر البهجة، أساتذة المبارزة يلعبون بكل أنواع الأسلحة، وآخرون ينشدون أغانى عن المعارك التى دارت بين المصريين والغزاة، كما ستجد هؤلاء الذين يعلمون الجمال والحمير والكلاب الرقص، وممثلى مسرح

وكل أنواع السحرة والحواة، بعضهم يحتفظ بطيور صغيرة فى قفص، هذه الطيور تطير وتحط على رأس أحد الأشخاص الواقفين، إذا كان يريد أن يعرف بخته، يعطى للطائر نصف مليم فيأخذه بمنقاره ويطير به عائداً ويضعه فى صندوق، ثم يلتقط ورقة صغيرة ويعود بها للزبون، الورقة مكتوب فيها حظه، هذا الوصف يذكرك بساحة الفنا فى مدينة مراكش المغربية، هى ساحة لكل النشاط البشرى الذى يتعلق بالغرابة والبهجة، إنه نفس المولد، حواة وسحرة وأطباء شعبيون ومدربو ثعابين كوبرا مخيفة، ووعاظ..

مازلت أذكر سيدة فى منتصف العمر وبها مسحة من جمال، تمسك ميكروفونا وتلقى بموعظة كانت تتكلم فيها عن قضية تجذب كل البشر، عن المعاشرة الجنسية بين الزوج والزوجة، كانت تحذرهم من الاقتراب من الزوجة فى غير ليلة الجمعة، ثم أوردت أقوالاً من السلف الصالح تثبت أن شخصاً ما ذهب إلى جهنم لأنه اقترب من زوجته ليلة السبت، كان الجمهور المسكين يستمع إليها وقد لف الجميع إحساس قوى بالذنب.. من الواضح أنهم جميعاً لم يكونوا ملتزمين بهذه القاعدة.. أما فى الليل فهذه الساحة تتحول إلى عشرات المطاعم، عشرات عربات اليد الصغيرة، مئات الدكك والموائد الخشبية، ويقدمون كل أنواع الأطعمة الرخيصة والغالية، بحيث تناسب قدرة كل زبون..

أعود إلى أفريكانوس الذى قال إنه شاهد ممثلين مسرحيين stage players، فى ذلك الوقت البعيد، غير أنه لم يهتم بموضوع العرض المسرحى الذى شاهده، ولم يذكر أى ملمح من ملامحه، وفى وصفه لسكان القاهرة قال إنهم مرحون، فرحون، مبتهجون (merry, jocund, cheerful) غير أن أداءهم محدود، هم يمارسون التجارة وفنون الصناعة غير أنهم لا يسافرون خارج بلادهم..

هناك طلبة كثيرون يدرسون الشريعة، عدد قليل جداً منهم يدرس العلوم والفنون الحرة، ومع ذلك فمدارسهم دائماً ممتلئة، غير أن عدداً قليلاً منها يتسم بالجودة، المطاعم تفتح أبوابها لساعة متأخرة من الليل، ولكن الورش تغلق أبوابها قبل العاشرة مساء، بعد ذلك ينصرف أصحابها للترويح عن أنفسهم بالانتقال من ضاحية إلى أخرى، والصانع الذى يبتكر شيئاً جديداً يلبسونه ثياباً مذهبة ويحملونه وتمشى خلفه فرقة موسيقية وكأنه موكب نصر، ويمشون به على الدكاكين من دكان إلى دكان، يعرض عليهم ابتكاره فيشاهدونه ويعطونه نقوداً تقديراً لإبداعه.

يا رب.. رجعنا ألف سنة لورا.

نقلاً عن كتاب «قزقزة فى لب الموضوع»
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع