التاريخ يبوح بأسراره

بقلم: لميس جابر

مازال التاريخ المصري القديم يكشف عن أسراره وتفاصيله‮.. ‬وكلما زاد علم المصريات وتوسع وكلما أخرج التنقيب كنوزاً‮ ‬من المعلومات تكشفت أسرار وخبايا وتصححت معلومات قديمة وأضيف الجديد‮..
‬ومع العلم الحديث والأشعة المقطعية وتحليل الـ»دي إن إيه‮« ‬تمكن العلماء من تحديد هوية المومياوات وتحديد قرابة الملوك لبعضهم البعض واكتشاف مومياوات مجهولة بلا تابوت أو أسماء منقوشة مدونة عليها ويبدو أن تاريخ إخناتون لم يعد كما عرفناه‮.. ‬
فقد قرأنا أن ثورة الكهنة أطاحت به باعتباره خارجاً‮ ‬علي دين آمون‮.. ‬وفسر اختفاؤه بأنه ربما قتل وربما عزل حتي مات ولم تحنط جثته حتي لا يبقي له اسم ولا سيرة وكذلك زوجته الجميلة نفرتيتي‮.. ‬وعندما اكتشفت مدينة‮ »‬آخن آتون‮« ‬في تل العمارنة في البر الشرقي لمدينة ملوي بالمنيا وجدت مهدمة ومحطمة وقيل إن هذا تم بفعل ثوار الكهنة الذين قرروا طمس آثار إخناتون من التاريخ‮.. ‬وتم محو كل ما بدله إخناتون من كتابات علي حوائط وأعمدة معبد الكرنك عن الإله‮ »‬آتون‮« ‬وعادت سيرة الإله آمون كما كانت‮.. ‬

وعاد ابن اخناتون إلي اسمه القديم وأصبح‮ »‬توت عنخ آمون‮« ‬بعد أن كان‮ »‬توت عنخ آتون‮«.. ‬وفي عصر رمسيس الثاني تمت إعادة كتابة تاريخ ملوك مصر في معبد‮ »‬سيتي‮« ‬ولم تكن تحوي اسم إخناتون وتقرر بذلك شطب اسمه نهائياً‮ ‬من تاريخ مصر‮.. ‬ولكن يبدو أن التاريخ أقوي من كل التقلبات السياسية أو الدينية لأنه رغم تدمير مدينة إخناتون بتل العمارنة‮..
‬بقيت المقابر عالية عميقة داخل الجبل وتم اكتشافها في القرن التاسع عشر وباحت بكل الأسرار بديانة إخناتون وصوره وصورزوجته وبناته واكتشف التمثال الشهير لنفرتيتي والذي أخذه الألمان ولم يزل إلي الآن في متحف برلين‮.. ‬وعرف شكل المدينة ومعابدها والقصور والحياة اليومية وقرأت أناشيد إخناتون الذي آمن بالإله الواحد الذي لا أب له والذي خلق نفسه بنفسه وخلق السماء والأرض وسائر البشر والمخلوقات،‮ ‬والذي رمز له بقرص الشمس الذي تمتد منه خطوط طويلة تنتهي برمز الحياة‮.. ‬

وبعد ترجمة أقواله ومناجاته لربه‮.. ‬اعتبره المؤرخون أول الموحدين في تاريخ البشر وهو الآن من أشهر ملوك مصر‮.. ‬وفي آخر زيارة للأقصر تحدث معنا مدير آثار‮ ‬غرب النيل أو البر الغربي د‮. ‬مصطفي وزيري وهو عاشق لتاريخ مصر القديم‮ ‬غارق في تفاصيله حتي أذنيه‮.. ‬يسير وسط وادي الملوك وكأنه يعرف كل ذرة تراب وكل حجر صغير ملقي علي جوانب الطرق‮..
‬قال وأفاض ومنه‮: ‬عرفت أن مقبرة إخناتون موجودة بالفعل في وادي الملوك ودهشت،‮ ‬هو إذن مدفون في مقابر طيبة ومعني هذا أنه لم يقتل ولم ينف أو يعزل وكذلك يتوقع أن تكون مقبرة نفرتيتي موجودة أيضاً‮.. ‬ويبدو أن الثورة علي حكمه لم تكن دينية فقط لأنه ابتعد عن عاصمة مصر طيبة وقنع بمدينته الصغيرة في حضن الجبل في نقطة تعتبر في منتصف الطريق بين منف‮ »‬الجيزة‮« ‬وطيبة وظل بها مع بعض الأتباع والعائلة الصغيرة‮..
‬وفي الغالب أن ما حدث هو انقلاب عسكري قاده القائد‮ »‬حور محب‮«‬،‮ ‬وخلع إخناتون عن عرش مصر ووضع ابنه الصغير ذا السنوات التسع مكانه ثم قرر الاستيلاء تماماً‮ ‬علي الحكم بعد سنوات قليلة حكم فيها الكاهن‮ »‬آي‮«.. ‬وربما تكون هناك مبررات لدي‮ »‬حور محب‮« ‬للاستيلاء علي الحكم فقد بدأت الإمبراطورية العظيمة التي شيدها تحتمس الثالث في الانهيار وفي خطابات تل العمارنة وجدت معلومات عن انقلابات كثيرة وتمرد في الأقاليم الشمالية التي كانت خاضعة لحكم ملك مصر وكان حكامها يأتون إليه كل عام خاضعين يدفعون الجزية ويقسمون قسم الولاء للملك العظيم‮..
 
‬ويبدو أن حور محب كرجل عسكري شعر بخطورة التفكك المنذر القادم وخشي انفلات قبضة مصر علي أملاكها الخارجية فقرر أن يلحق ما تبقي بنفسه ويحكم يده عليه ومن الجائز أن يكون هناك بعض من الاضطراب والفوضي قد أصاب الحكم داخل مصر بفعل الحكم الضعيف وسطوة الكهنة‮.. ‬ويبدو أيضاً‮ ‬أن إخناتون لم يهتم بالإمبراطورية المصرية المترامية الأطراف ولم يؤمن بأن الحفاظ علي قوة مصر وحدودها تتحقق باحتلال البلاد التي يأتي منها الغزاة في الشمال‮.‬،‮. ‬
واستولت عقيدته الدينية الجديدة علي كل اهتمامه فاعتبر أن الكلمة والإيمان والحكمة أهم وأقوي من القوة والحرب والرمح‮.. ‬أقول ربما كانت لدي‮ »‬حور محب‮« ‬مبررات لقيادة حكم مصر وإعادة تنظيم البلاد وإحكام القبضة القوية عليها مرة أخري وإنقاذ أطراف الإمبراطورية المتداعية ولكن محو تاريخ إخناتون بالكامل من تاريخ مصر لم يكن له أي مبرر‮..
 
‬هو فقط الخوف من أن تكون عقيدته مازالت حية في قلوب بعض الأتباع وتظل باقية وربما تعود فتقوي مرة أخري‮.. ‬وهكذا ظل تاريخ إخناتون واسمه مجهولاً‮ ‬منذ عهد حور محب وحتي القرن التاسع عشر أي أكثر من ثلاثة آلاف عام وبعض مئات من السنين ولكنه لم يبق خافياً‮ ‬إلي الأبد‮.‬ ومقولة إن التاريخ يعيد نفسه ربما تكون حرفياً‮ ‬ليست سليمة ويكون الأوقع أن نقول إن البشر هم الذين يعيدون الأحداث المتشابهة والبشر منهم الجاهل الذي لم يكترث لتجارب الآخرين في صفحات التاريخ فيرتكب أخطاء مشابهة فتتسبب في حدوث الهزائم والانكسارات ومنهم المستنير الذي يعي التاريخ ويستفيد من التجربة والخطأ ويعرف مصادر القوة والانتصار‮..

‬ويذكرني تاريخ إخناتون العائد إلي الحياة بعد آلاف السنين بفكر الضباط الأحرار الذين قرروا محو تاريخ من قبلهم وتشويه سيرة الزعماء والأبطال وطمس كل ما يمكن أن يطلق عليه إنجاز سواء اقتصادي أو سياسي لتلك الفترة‮.. ‬وقرأت عن أحدهم الذي قال‮: ‬ماذا يعني عيد الجهاد هذا؟ وأي جهاد في ذهاب ثلاثة رجال إلي المعتمد البريطاني ممثل الدولة المحتلة للتحدث معه؟ أي مناسبة وأي عيد؟‮..
‬كلام فارغ‮ ‬وتم إلغاء عيد الجهاد وكان آخر احتفال به عام‮ ‬1953‭.‬‮. ‬وعلي هذا المنوال وهذا الفكر تم محو رموز الخمسين عاماً‮ ‬السابقة علي انقلاب يوليو من مناهج التاريخ وتم الحجز علي الصحف من مجرد الحديث عنهم ولكن للأسف لم يخف التاريخ كثيراً‮ ‬هذه المرة فهو لم يكتب علي الأحجار والأعمدة بل كتب في صدور الناس وظل حبيساً‮ ‬لكن إلي حين‮...‬  
نقلا عن الوفد

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع