فاتن الجابري
بقلم: فاتن الجابري
عدت مجددا أصارع مخاوفي، متجرعة مرارة القلق، وحيدة في مواجهة الاحتمالات، كان رأسي يغلي وأيامي التي مضت تفور داخله، الحمى تسربت إلى جبيني الذي اكتوت فيه راحة يدي، أشعر بالتدريج أني كتلة ملتهبة، أقاوم هذياني. طويت الرسالة وأعدتها داخل المغلف الأزرق بعد أن استعدت قراءتها عشرات المرات، تتلوى الحروف كالثعابين ثم تتشكل كلمات، تأتي على بقية الامل الشاحب الذي تعلقت بأذياله، شهوراً طوال، إذن رُفض الاستئناف الذي قدمته الى الدائرة الاتحادية للهجرة واللجوء ملتمسة النظر في إعادة لجوئي، لكن تلك الرسالة حسمت كل شيء رغم تفاؤل المحامي الذي تسلم أتعابه مقدماً، تبدو السماء ماطرة جليداً ينقر نافذتي مغازلا وحدتي، يستفز دهشتي ويحرض في روحي ذبالة فرح قديم التوهج، أرفع حافة ستارة غرفتي المطلة على الحديقة الخلفية التي اكتست باللون الأبيض، اختفى اللون الأخضر بتدرجاته الرائعة من أشجار اليوكالبتوس العملاقة والتوت وأشجار الكرز الأحمر، واستحال لون الحشائش إلى بياض .
كانت الثلوج قد عاودت تساقطها على المدينة مرات عدة هذا العام رغم قدوم فصل الربيع. مع حلول شهر آذار \"مارس\" تعلن الزهور والزنابق إضرابها القسري عن التفتح للخلل الكوني الذي سببه جنون الأوزون، الذي تشابكت فيه الفصول وتداخلت، وزحف أحدها فوق الآخر، شتاء ألمانيا طويل وممل جداً وموغل بقسوة البرد والصقيع، نتف الثلج القطنية تواصل انهمارها في ليلة بيضاء، تشهد نزيف أرقي، واضطرام حمى جسدي، فجأة أحسست برجفة تجتاحني، وبرد يخترق أطرافي، رفعت مستوى تدفئة الغرفة، تلفعت بشالي الصوفي، مررت على غرفة الاطفال ملقية بأغطية إضافية فوق أجسادهم، دفأت جوفي بقدح من شراب الكاميليا الساخن، لحظات ثم تصببت حبيبات العرق من جبيني، اندسست في فراشي، أمسكت كتاباً كنت أجلت قراءته، غرقت بين صفحاته منذ السطر الأول.
لم أقو على مغادرته رغم جفناي الذين أذبلهما النعاس، مشدوهة أتنقل بين كلماته وسطوره، أتتبع حركات وسكنات أبطاله، أنزوي بينهم في مكان قصي تلاحقني حشرجات أنفاسهم و يتلبسني رعبهم وهلعهم في ملجأ تحت إحدى البنايات وفوقهم الطائرات العملاقة تقصف بوحشية مباني المدينة وجسورها وحدائق ومدارس أطفالها، ثمة صراخ نسوة وصغارهن يثقب الآذان، قتلى، جرحى ومشردون، لم تكن مدينتي تلك التي تُقصف ، كانت مدينة أخرى ابتدعها خيال كاتب موهوب في بلد يشبه بلادي. تختلط جلبة الأصوات في هدأة السكون، أسمع وقع خطوات، أرهف السمع لأتثبت منها، تقترب الخطوات أكثر من بابي ، أنتظر صوت قرع الجرس، لكني أفزع وأنا أميز خطواتك، بل أجزم أنها لك، فياترى أية أشواق رمتك الليلة ببابي ، أتسمر في مكاني .. تدير المفتاح في ثقب الباب، أسمع صريره وأنت تغلقه بحذر لئلا يصحو الأطفال، يتغير وقع خطواتك بعد أن خلعت حذاءك قرب الباب، تتعالى أنفاسي وتهبط بوتيرة واحدة مع خطواتك التي تنتهي عند باب الغرفة، أدرك أنها لحظة وهم، بعد أن عادت حرارتي الى الارتفاع، أمسك الكتاب دون أن أفقه حرفا مما أقرأ، تدخل غرفة النوم، تخلع المعطف الرمادي، تدنو من السرير، تلقي بالكتاب أرضاً وتطوقني بحنان، تمسح حبات العرق عن جبيني مذعورا من شحوب بشرتي واحتقان وجهي، تطبع على شفتي قبلة وفمي يتطاير منه لهيب ساخن، تتصل بعربة الإسعاف ثم لا تترك لي فرصة لإلقاء الأسئلة ... ـ
سنتان لم نلتق، لم أتيت الليلة ؟ هل مللتها أم قرفت من رائحة فمها المخمور ومشاركة كلابها مخدعكما الزوجي، تعبت من حمل فضلات كلابها اذن؟! ...شعاع من نور الفجر يتسرب من نافذة الغرفة عبر الستارة الرقيقة البيضاء، ألتقط الكتاب من الأرض، ثم أقرأ من حيث انتهيت، قبل أن يباغتني طيفك في زياراته الليلية، أواصل استغراق تجوالي في مدينة استباحتها العربات المجنزرة ودمرت كل أشيائها الجميلة، خراب ودمار وأشلاء، تتقطع بأهلها السبل، غربان سود تنهش جثثاً ممزقة في لجة الحرائق والاشتعالات، يتناهى إلى مسمعي صوت جلبة لم أستطع تحديد وجهتها، واصلت القراءة غير مكترثة بتعالي الاصوات التي تأتي من الشقة المجاورة، لحظات تزداد حدتها، أتبين أصواتاً لقطع أثاث تُدفع، زجاج يتكسر، تتعالى صيحات بشرية، أغلقت الكتاب ممعنة الإصغاء، لأتبين حقيقة ما يجري في شقة جارتي البوسنية الطيبة، مر أسبوعان لم أصادفها عند السلالم حيث نتبادل التحايا وبعض الكلمات البسيطة، الأصوات ترتفع تتحول إلى صرخات، استغاثة، كنت أميز صوت جارنا بوضوح بلكنته البوسنية، لكني أتوه عنه عندما يختلط صراخه بأصوات رجال
آخرين، لا أستطيع تحديد عددهم، فكرت في الاتصال بالشرطة لأنهي حالة الرعب التي أعيشها، ترددت للحظات فقد يكون الأمر محض نزاعات عائلية..
دقائق ثم هدأ الضجيج وأغلق الباب بقوة محدثاً ارتجاجاً في زجاج النافذة، أنظر من زاوية صغيرة الى الخارج، سيارتا الشرطة والإسعاف تتهيئان للانطلاق سعيدتان بصيدهما، كانت جارتي داخل سيارة الشرطة بملابس النوم تحتضن طفليها المذعورين، وفي الاخرى يرقد زوجها تحت تأثير المخدر يرافقه فريق طبي، كانت الشرطة تنفذ ضده قراراً بالإبعاد القسري بعد إلغاء لجوئه و وضع الحرب أوزارها في بلاده، لم تشفع له نوباته الجنونية التي أُودع المستشفى بسببها مرات عدة، لا أدري إن كنت حزينة من أجل جاري المُخدر الذي سيصحو بعد ساعات حين تهبط به الطائرة في مطار بلده، أم لنهاية القصة التي أتممت قراءتها للتو بنهايتها المأساوية المضرجة بالدماء والموت اليومي في عرس الحرية الكبير. من مجموعة سرير البنفسج
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=15235&I=380