د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: د.ماجد عزت اسرائيل
لـم يكن ينقضي العــام الأول للأب متى المسكين في وادي الريان1960م، إلا وتعرضت صحته للانهيار سريعًا؛ ويــــرجع ذلك إلى الظروف الجغرافية لطبيـــــعية وادي الريان والتي يعتـمد رهبانـها على مصادر مياه ملوثة وغير صالحة للاستخدام الآدمي، بالإضافة إلى كونها مياه مالحة، وطريقة استخــــلاص الأمـلاح منهـا كانت تتــم بطريقة بدائيـــة، مما يجعـــــل المياه المستخلصة بها نسبة شـوائب عالقة بالأمــلاح، وأدى ذلك إلى تعــــــرض غالبية رهبــان الوادي لــلأزمات الصــــحية، وكان على رأسهــــــم رائدهم وأبوهم الروحي.
وبعد تعــدد الأزمات الصحية للأب متى المســـكين ورفاقــــه الرهبان، أخـذ يبحث عن منطقة ملائمة للرهبنة، واضــعًا شروطها بينه وبين نفسه، ومن هذه الشروط:
- البعد عن المدن العمرانية.
- البعد عن إدارة الإبروشيـــات، وأن جاز لنا التــعبير عن الإدارة المركزية للبطريرك.
- وجود المياه العزبة.
ويعبر الأب متى المسكين عن ذلك في مذكراته قائلاً: "احتـرت جدًا وأخذت أجوب البلاد طـــولاً وعرضًا فيما لا يقـــل عن 3000 كليو مترًا، أبحث في الصحاري والبلاد النائية".
ولكنه- متى المسكين- الأب والراهب والمعلم والرائد؛ أخذ يفكر في الشروط التي وضعها بطريقة علمية، فاستعان بالعالم الجيولوجي الدكتور"رشــدي ســعيد" ليحدد المنـــطقة التي يريد الانتقــال إليــها لاستكمال مســيرة الرهــبنة، وإن دل ذلك على شيء، فإنـما يدل على شدة حرصه على توظيف العلوم لخدمة الإنسان.
على أية حال، ذهب الأب متى المسكين للقاء العالم رشدي سعيد في منزله بالمعادى بالقـــاهرة؛ ويــروي في مذكراته عن هذا اللــقاء قائلاً: "ذهبت إليه بمفردي في منزله بالمعادي، فوجدت عنده إنســانًا مهندسًا آخر، في غاية الرقة وسمــــــو الأخـلاق اسمــــه "مصطفى العيوطي" حضر خصيصًا ليراني لما علم بالمــيعاد، وأخذنا نبـــحث وخريطة مصر كلها أمامي".
وبعد مشاورات مستمرة فيما بين رشـــدي والعيوطي والأب متى المسكين تم الاتفاق على منطقتين هما:
أولاً: منطقة وادي غمير ـ سميت بهذا الإسم نسبة إلى عـين ماء عذب تعرف باسم غميرـ وهي تمتد من مدينة الصف غربًا (الضفة الشرقية لنهر النيل) حتى ساحل البحر الأحمر شرقًا.
ثانيًا: منطقة غـرب مدينة الأسكندرية، وهي المنطقة التي تمتد ما بين بحيرة مريوط جنوبًا، والبحر المتوسط شمالاً، ومـدينة الأســـكندرية شرقًا، والحدود الليبية غربًا.
وانتهى الأمر إلى اختيار منطــقة وادي غمــــير؛ لتوافر الشروط التي وضعها الأب متى المسكين ورفاقه.
وبدأ الأب متى المســـكين في تقديـــم طلب إلى هيئـــة تعمـــــير الصحاري لـــشراء خمسة فدادين، ولـــكن تأتي الرياح بما لا تشتـــهي السفن، لأن طلبه تم رفضه بالرغم من أن رئيس الهيئة كان قبطيًا.
وبالرغم من ذلك، لم تقــف هذه العقبــات عائقًا أمـــام الأب متى المســكين ورفاقه، ولم تتوقف عزيمتــهم في مواصــلة مشوار رحلة البحث عن المتاعب في وادي غمير من أجل الاستقرار في الرهبنة.
وبــدأ الاســتقرار في مكان ما بالوادي، فبعــــد أن قامــوا بنصب خيمتهــم، بـــدأوا يواصلون ساعــات العمل ليـــل نهار حتى تحقــــق حلمهم بحـــفر بئر الماء العذب.
وبين عشيـــة وضحاها؛ ذاع صيت هـــؤلاء الرهبان لــــدرجة جعلت المنطقة وكأنها محطة لتمويل المارة بالماء العذب، وأصبحت المنطقة ذات جذب سكاني ومطمعًا للعربان.
ولزيادة أهمية المنــطـــقة منـذ بداية وجـــود الأب متى المســكين ورفاقه، في أقــل من عام، فإن ذلك جعل الدولة تضعـــها في بــؤرة اهتمـــامها، فزارها وفد من الجيش بطريقة الصــدفة، لــدرجة جعلت من قائـدهم يعرض عليهم المساعدة.
على أية حــال، لم يستـــمر الأب متى المسكين ورفاقه طــويلاً في وادي غمير؛ إذ لجــأ العربان الأشقيـــاء إلى حـــيلة لإجبـــارهم على تــــرك المنطقة؛ عن طريق وضـع مادة الــــــزرنيخ في بئـر الماء؛ ولـــكن مشيئة الله حفــظت هؤلاء الرهبــان، حيث استطاعت مباحث حــلوان اكتشاف الجريمــــة؛ وحظرت على الرهبـــان استخدامها.
ومن بعد هـذه التجربة المــرة فضل هـؤلاء الرهبان، العودة إلى وادي الريان في 14 نوفمبر 1961م بمائه المالح، عن وادي غمير بمياهه العذبة.
الدكتور: رشدي سعيد في ســـطور
ولد د. رشدي سعيد بالقاهرة في حي شبرا (1920م) لأسرة قبطية متوسطة تعود جذورها إلى مدينة أسيوط، انتقلت إلى القاهرة منذ سبعينات الـــقرن التاسع عـــشر، ويعد أحـــــد أبرز رجال العلم في مصر، تخرج في كلية العلوم، وحصـــل على الدكـــتواره من جامعة هارفارد، وهـو أستـــــاذ في الجيولوجيا، تولي إدارة مؤسسة التعدين والأبحاث الجيولوجية في الفترة من 1968 –1977 م، فكـــان له دور كبير في تنمـــــية هذه المــــؤسسة، إلى جانب دوره في الاكتشافات التعدينية التي مكنت مصر من التغـــلب على ما فقــــدته بعد احتلال سيناء.
أتيحت له فرصة العمل السياسي في فترة الستينات والسبعينات كعضو في مجــلس الشعب وفي الاتحاد البرلماني الدولي، لتشمـله في النهـاية قرارات اعتقال 1981م؛ ليغترب ويضطر لبيع مكتبته العلــمية ليستطيع الحياة في الولايات المتـــــحدة، اختار هـــذا العــــالم الفريـــد تخصــصًا نادرًا وهــــو جيولوجية مصر وأصـــــدر كتابًا بهـذا الإسم نال به إعجاب علمـــاء العالم وأصبح مرجعًا معترفا به على المستوى المحلي والعالمي.
يُعد أيضًا من أبرز خبراء الري وأحد العارفين بأسرار نهر النيل، وله كتب ومقالات عديدة حول التعدين والري والزراعة في مصر والمنـــطقة بوجه عام، وكان مشروعه الذي كرس له سنوات عـــمره، هـــو نهضة مــصر والارتقاء بالإنسان المصري، شغل منصب أستاذ بجامعة القاهرة في الفترة من 1950 م حتى 1968م، تـــولى إدارة مؤسســة التــــعدين والأبحــــاث الجيولوجية في الفـــترة من 1968 – 1977م، ساهـــــــم في الاكتشـــافات التعدينية التي مكنت مصر من التغلب على ما فقــــدته بعد احتلال سيناء، ثم قدم استقالته من إدارة المؤسسة.
كرمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في عام 1962م، حيث سلمه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وحصل على جـائزة الريادة لعام 2003 م من الجمعية الأمريكية لجيولوجيي البترول، وذلك تقـــــــديرًا لأعماله العلمية في مجال جيولوجيا مصر والشرق الأوسط، التي وصفتها بأنها فتحت آفاقا جديدة لتطبيق هذا العلم في مجال البحث عن البترول في المنطقة.
http://www.copts-united.com/article.php?A=14994&I=374