عماد خليل
كتاب كوهين وصدام حسين في الصعيد لمحمود الدسوقي يرصد مذبحة نجع حمادى
كتب: عماد خليل – خاص الأقباط متحدون
أوردت الوكالة الألمانية يوم الاثنين الماضي تقريرًا عن كتاب "كوهين وصدام حسين في الصعيد" (رحلة في خطابات التجار اليهود بالصعيد) للصحفي محمود الدسوقي، واقتطعت بعض أجزاء تخص كوكب الشرق أم كلثوم في ذكراها السنوية، والاتهامات التي تتهمها إياها عائلة الهلالية بالصعيد، التي ينتمي إليها العاشق النجمي عبدالستار الهلالي، الذي طلبها في بيت الطاعة عام 1936م، وموته الغامض في سجن قنا العمومي عن عمر 85 عامًا، وحمله على الأكتاف لمدة 6 ساعات متصلة من السجن حتى مدافن العائلة في قريته، أما الصحف والمواقع العربية، فقد أبرزت الاهتمام بتقرير الوكالة مع تسليط الضوء على خطابات جابر عبدالله الصباح لحبيبته المصرية التي كان يطلق عليها في خطاباته لقب (لي لي) دون الإشارة إلى الغموض الذي اكتنف بعض الخطابات التي تركها الباحث دون تعليق منه أو استرسال كاف للشرح العلمي، مثل خطابات الجنود المصريين في حرب فلسطين عام 48، وخطابات المرأة والسحر والشعوذة رغم جديتها.
هذا ويُعتبر ذلك الكتاب، والذي صدر من خلال دار نشر "جزيرة الورد" بالقاهرة، التجربة الاولى لابن محافظة قنا، وصحفي "البديل" سابقًا، الأستاذ محمود الدسوقي، والذى حمَّله الكثير من خلال الكم الهائل من الوثائق والخطابات التي جمعها ذلك الصحفي المتميز خلال 3 سنوات متصلة، جعلته يصمم على حمل عنوان تحقيق صحفي في غلاف الكتاب بمقدمة يقول فيها: "إنه ليس كاتب تاريخ أو موثق لتوثيقات قديمة"، ففكرته، وكما أخبرنا في اتصال هاتفي معه، هي القيام بتحقيق صحفي فقط، وجعل تلك الخطابات والوثائق والأحاديث والمرويات الشفهية للباحثين والمؤرخين، وهو جهد جعله يتنكر لاسم شخصيات، بارزة وسماسرة آثار، للحصول على خطابات تم تدميرها بشكل متعمد، وهي خطابات كانت تُظهر أن الصعيد لم يكن غائبًا عن الحياة السياسية والاقتصادية في مصر كلها، معقبًا على جزء من سيرته وطرائفه في جمع الخطابات، وما حدث له من مواقف شديدة الصعوبة.
أما إهداء الكتاب، فكان لمذبحة نجع حمادي، وإلى شعب قنا مسلميه ومسيحييه، وإلى البقعة التي أخرجت "مينا.. نارمر" الموحد الأول لمصر العظمى على مدار التاريخ المصري القديم، ويبدوا أن كثرة الفتن الطائفية في الصعيد هي التي جعلته يضمن الكتاب خطابات متبادلة بين المسلمين والمسيحيين، وباحثًا في الوقت ذاته عن جذور عائلات مسيحيية تتلبسها الأساطير، مثل بيت منقريوس بدندرة، وحكاياتهم مع الحملة الفرنسية، وخطاب الفلكي الذي أرسله لأستاذه المسلم، أما التصدير، فقد صدره ببعض مقاطع من القصيدة الرائعة الجدارية لمحمود درويش في فصوله الأولى.
هذا وقد عرج الباحث إلى وثائق الزواج التي تمت من خلال أول مأذون شرعي تعلم في استنابول، وبعض وثائق تحرير العبيد في الصعيد في خطابات التجار اليهود الذي صدره بعنوان (كوهين مر من هنا من خلال دمغة بوستة)، ولا يُخفي الباحث تعاطفه الشديد مع اليهود المصريين الذين رحلوا من وطنهم واندمجوا مع أجناس غريبة، ليكونوا بلدًا غريبًا عنهم اسمه إسرائيل، لا ينتمى إليهم إطلاقًا، ويسرد الباحث خطابات أصلية من عام 1920 إلى عام 1952م وجهها يهود مصريون لتجار الصعيد، فيقول بلغة تعاطف (اليهود حفنة من الذكريات هنا في القاهرة التي بنوا فيها ميادين وعمارات وبيوت عبادة وشهدت طرقها عرق اليهودي الباني وعرق اليهودي الخائن أيضًا، أما في الصعيد فتبقى خطاباتهم التي وجدتها في بيت شنقير التي تظهر التنظيم الاقتصادي لهم، فالخطاب كان يرد لصاحبه إن لم يصل خلال 3 أيام، رغم بعد المسافة، وبينما تظهر إنسانية عالية جدًا من يهود عاشوا في أرضهم مصر قبل زرع اسرائيل جسدها في قلب الوطن العربى وتجنيدهم كجواسيس اليهود الذي كان تعدداهم يصل إلى الآف، فقد تحولوا الآن إلى 40 شخصًا تحكم طائفتهم إمرأة وحيدة، ومن ثم تبقى خطاباتهم فقط شاهدة على وجودهم الحي في الصعيد، فالحبر الذي كتبه اليهودى على ورقة متجهة إلى الصعيد كان كفيلاً بإبقائه في الذكرى... من حفن الذكريات خرجت خطاباتهم لتحكي عن شخصيات كانت تعج بأرواح ومشاعر وأحلام وأيضًا هواجس").
ثم يطرح الباحث سؤالاً جوهريًا: "لماذا لم يستقر اليهود في الصعيد رغم أن الخديوي إسماعيل جعلهم يمدون له خطط السكك الحديدية وكانت لهم ممتلكات ومستعمرات بداخله؟"، ويجيب الباحث على ذلك بأن انسلاخ اليهودي عن الصعيد كان انسلاخًا جغرافيًا وجوهريًا، فهو رغم أنه امتلك أفرادًا ذوي نفوذ قوي مثل بعض الشخصيات التي كانت تتعامل مع التجارالذين في الصعيد، إلا أنه لم يرد الاستقرار في الصعيد، ربما لأنه يخشى من "الجيتو" والبعد، وربما لأن الصعيد بصبغته العربية وعرقياته الأثنية المتعددة، لم تسمح له بالاستقرار، ومن ثم كانت خطاباتهم في الصعيد فقط هي الدليل على مرورهم، فكوهين مر من هنا فقط من خلال "دمغة بوستة"، ولم يستطع المرور هنا من خلال استقرار قوي، وتكوين تجارة قوية.
إن تلك الخطابات تدلنا بشكل قوي على اللقب الذي أعطاه "الصعايدة" لليهودي، فهو "خواجة"، وهو ذلك اللقب الذي يعني الغني وصاحب المال، والذي تحول مع مرور الوقت في عصور الانحطاط إلى معنى الأجنبي في الخطابات اليهودية فلا نكتشف أى شيء عن ديانتهم، إلا بوقف العمل في يوم السبت.
ثم يسرد الباحث خطابات اليهود التي أوردها بنصها ومعقبًا عليها وهي خطابات تظهر شكل مصر في أوقات الحرب العالمية الثانية، وتوقف المرور من الغارات وحالة الكساد الاقتصادي، كما أن الباحث لا يكشف في الكتاب عن عالم "الصعايدة" فقط، إنما يكشف خطابات الجالية الأجنبية التي أسكنها الخديوي اسماعيل الصعيد، والذين صاروا – أي الأجانب- مع مرور الوقت "صعايدة" ومصريين رغم ارتباط أصولهم ببلدانهم الأصلية كاليونانين والإيطاليين والتلحميين نسبة إلى بلاد الشام، ويرصد الكتاب بالفوتغرافيا طريق "كاترينا" بقرية الطويرات، تلك اليونانية المتجبرة التي أرادت إرغام ابن أخيها على الاقتران ببنت أختها الصماء، وحادثة القتل التي جعلت القنصلية اليونانية بالمنيا ترسل خطاب استدعاء، وهو الخطاب الذي جعل الكاتب أول صحفي مصري يرصد بالكاميرا وبالكتابة هذا العالم الغامض عنا، فالشرق والغرب بالإمكان أن يلتقيا، وهذا ما جعله بعد جمع الخطابات، يعرج إلى الاتصال الأوربي بمصر بشأن الأجانب الذين كونوا مدارس كمدرسة الخزف بجراجوس، ومدرسة النحت بقوص، ثم يقوم الباحث بحوار مع راهب فرنسي، كان يخدم في الجيش الفرنسي ببلاد المغرب بمنطقة أزكور المغربية، وهو حوار يكشف عن جوانب مهمة جدًا عن انصهار الغرب في الشرق، وتكوين رؤية مهمة للحوار، ذلك الحوار الذي يؤدي إلى نوع من المصالحة الضرورية وليست العداء.
هذا ويعترف الباحث في أجزاء من كتابه بوجود صور لخطابات مفقودة، كصورة مهرج الصورة القزم مع عبد الحكيم عامر وجمال عبدالناصر، وتمنى القزم أن يهب الصورة لمتحف جمال، وهي الصورة التي أدت إلى حوار كبير بين الباحث والقزم في أخريات حياته، كذلك صورة العاشق النجمي لأم كلثوم وتلغرافه المفقود لكوكب الشرق، وكيف قادت الصورة إلى أحاديث مع عائلة العاشق النجمي في قريته، وما تبقى من ذكراه لتكون المفاجأة أن العائلة بأجمعها تؤمن أن أم كلثوم قتلت العاشق، وأن الميديا والإعلام تسببا في تلويث شخصية كانوا ينظرون إليها بعين الإجلال والتكبير..
إن الصعيد المتفاعل مع العالم يمكن أن نراه من خلال وثيقة ثوار الثورة العرابية، وذلك الثائر العرابي الصعيدى المحطم الذي يكتشف من خلال وثيقة تقسيم ممتلكاته بعد وفاته اقترانه بجارية بيضاء تم تربيتها في قصر الخديوى توفيق، وهي الوثيقة التي أجابت على تساؤلات مهمة عن ثوار أحمد عرابي في الصعيد، والذين صودرت ممتلكاتهم، ونجا منهم من استطاع أن يتلون ويثبت حسن النية بعد المجىء من المنفى، مثلما حدث مع الثائر العرابي رشوان بك الذي رصده الباحث من خلال مصادر الشعر ومن خلال سيرة أحفاده ومن خلال الوثيقة التي عرضها.
وختامًا.. فإن هذا الكتاب هو أول تجربة لمحمود الدسوقي، وهو كتاب يستحق بحق الإشادة وإن كانت هناك بعض المحاذير من قِبل البعض.
http://www.copts-united.com/article.php?A=14886&I=372