أرنست أرجانوس جبران
بقلم: أرنست أرجانوس جبران
قد تركتُ الكتابة مدة من الزمن وقد تكون ليست بالقصيرة.. ولكن أحداث نجع حمادي قد أججت نار الألم وأيقظت حالة السكون الكامن الخامد بداخل النفوس المغتالة.. وها هو رجل الله الذي أحبه من كل فؤادي أبونا القمص مكاري يونان يجهش بالبكاء قائلاً "اصرخ لإلهك لينجينا من الضيقة!!.. اصرخ لإلهك لينجينا من الضيقة!! .. مالناش غيرك!! مالناش غيرك..!!"، هذه الدموع الغالية التي ذرفها أبونا مكاري كأنما اختلطت بدموعنا ودموع كل قبطي في جميع أنحاء العالم، محدثة فيضانًا لإطفاء النيران المتأججة داخل النفوس الحزينة..
فهذه الدموع من الاستحالة بمكان ألا يراها الله.. وهذا الصراخ المسموع والآهات المكبوتة.. لا يمكن بحال من الأحوال ألا يجدوا طريقهم إلى قلب الله المتحنن..
وهنا وجب عليَّ أن أقول يا حكام مصر، احذروا غضب الله، فإن السماء إن غضبت، فستمطر نارًا وكبريتًا على كل معتدٍ أثيم .. بل أيضًا على كل مُحرضٍ ومتواطئ ..
قد اغتيل ستة من الأقباط ومسلم كان واقفًا كرجل أمن وأيضًا جُرح آخرون من المسيحيين، ومعهم اغتيلت فرحة العيد أثناء وجودهم بكنيسة العذراء بنجع حمادي وهم يحتفلون بعيد القيامة لهذه السنة 2010، حيث جاء مَنْ جاء بمدفع رشاش من داخل عربة "فيات" خضراء لأداء فريضة الجهاد ضد ما يسمونهم بالكفرة عُبّاد الصليب، وتتوارد الأخبار عبر قنوات الإعلام المختلفة، وقد قبضوا على الجاني، إلا أن الشيء الأكثر إيلامًا، هو ربط المسئولين بأن الدافع إلى القتل كان كردِ فعلٍ لذلك الشاب المسيحي، الذي قام باغتصاب فتاة مسلمة، والغريب في الموضوع أن ذلك الشاب كان ولا يزال وراء القضبان ليقضي عقوبته القضائية نتيجة ما اقترفه، إذن هل بالإمكان قلب الموازين لتكون النتيجة قتل الأبرياء من المسيحيين في يوم عيدهم..!!.
ثم ما هذا الهراء والتصريح بأن الجانى لم يكن بحالته الطبيعية وأنه مصاب بخلل عقلي؟! هذا ما قاله أحد المسئولين و الذي لا أذكر اسمه في مقابلة له على القناة المصرية، وها هي نفس "الاسطوانة المشروخة" والنغمة الي سئمنا سمعها والتي حفظنا كلماتها عن ظهر قلب نتيجة التكرار المُمِل "إن الجاني مختل عقليًا"، ونقولها صراحة .. يا حكومة قد مللنا الانتظار لإيجاد الحلول الجذرية لمآسي أهالينا في مصر.. أرجوكم .. ونرجوكم ثم نرجوكم، كفاكم ضحكًا على الذقون لأن الموضوع جدًا خطير.. ثم ما ذنب المحتجزين المسيحيين والذين دائمًا تعتبرونهم كورقة من أوراق الضغط على المسيحيين وعلى الكنيسة لتقديم التنازلات المفروضة قهرًا وبهتانًا.. هذه أيضًا من الألاعيب المكشوفة، وأرجو إضافتها لكلمات النغمة القديمة.. يا عالم، أنتم مازلتم تتعاملون بزمن "الفتوات" القديم .. وكأنكم عائشون في حارة من حارات "أيام زمان، يا عالم، الزمن الآن قد تغير وأصبحت أجهزة التقنيات الحديثة أمثال الهواتف المحمولة ترصد تحركاتكم.. وبعد دقيقة واحدة تجدون أنفسكم على الهواء مباشرة.. "وإللي ما يشتري يتفرج"..
والشيء المضحك والمبكي في مثل هذه الظروف، ما أضافه نفس المسئول ردًا على سؤال آخر من المذيع، أين رجال الأمن؟؟، فكان رده: "إن مسلمى ومسيحيي نجع حمادي يعيشون في سلام تام ولا يحتاجون إلى مجموعة من رجال الأمن أمام الكنيسة، والدليل على ذلك أن المطرانية التي حدثت بها هذه الحادثة يلاصق مبناها جامع"، كان هذا هو الجواب والتعليل العليل من المسئول المحترم.. "يا سلام .. يا سلام على المحبة!!.
ألا تعلم يا سيادة المسئول أن كل كنيسة في جمهورية مصر العربية يُبنى بجانبها جامع، بل قد تكون الكنيسة محاطة بأكثر من جامع واحد؟، فهل وجود الجوامع بجوار الكنائس، يُعتبر دليلاً على المحبة الضاربة أطنابها؟!، ألا تعلم سيدي أن وظيفة الجوامع بجانب الكنائس يكون من باب "التنغيص" على المصلين المسيحيين؟، ثم أنه كيف يكون هذا وآئمة الجوامع والمساجد لا تخلو خطبهم أيام الجُمَع من الدعاء على اليهود والنصارى بأبشع الكلمات؟، فأين هي المحبة التي تتحدث عنها سيدي؟، ألا تعلم سيدي أن مكبرات صوت الجوامع المعلقة على مآذنها تكون متجها صوب الكنيسة المجاورة؟، كفاكم إدعاءً، على مَنْ تضحكون؟!!!..
لا أدري ماذا أقول؟، أقول إيخابود.. وتعني هذه الكلمة "قد زال المجد"، قد زال المجد من مصر، هذه الكلمة التي قالتها امرأة فينحاس التي كانت تخاف الله وتغار عليه، فغيرتها على تابوت الله الذي أخذه الفلسطينيون، قد أودت بحياتها نتيجة الحزن على فقده، ويقول الكتاب من صموئيل الأول والأصحاح الرابع: "امرأة فينحاس كانت حُبلى تكاد تلد، فلما سمعتْ خبر أخذ تابوت الله وموت حميها ورجلها، ركعتْ وولدتْ، لأن مخاضها انقلب عليها. وعند احتضارها قالت لها الواقفات عندها: لا تخافي لأنك قد ولدت ابنًا. فلم تجب ولم يبالِِ قلبها. فدعت الصبي "إيخابود" قائلة: قد زال المجد من إسرائيل لأن تابوت الله قد أُخِذَ"، والمجد لله دائمًا..
وها أنا أقولها "إيخابود"، قد زال المجد من مصر .. طالما أن هناك قلوبًا حاقدة .. وكراهية تفوق حد القتل.. قد زال مجد مصر لأن مسئوليها أصبحوا لا يبالون بمواطنة الأقباط ويعتبرونهم مواطنون من الدرجة الثانية.. وليتهم من الدرجة الثانية فحسب، وإنما يريدون طردهم من وطنهم الأصلي مصر.. يريدون أن يكرّهوهم في مصر.. وكأنهم يقولون لهم اتركوا مصر.. اتركوها لمسلمي مصر، لأن الإسلام هو دين البلاد.. ولا يمكن أن يكون في مصر العربية دينان.. كما قالها من سبقهم "لا يكون في الجزيرة العربية دينان"..
وأنا أسألهم، بأي حق تريدون تشريد أقباط مصر.. فإن مصر بدون أقباطها تعني إيخابود.. بمعنى آخر مصر بدون الأقباط المسيحيين ستصبح صحراء جرداء.. فعندما حلت البركات على مصر حلت على شعب الله.. لأن الله قالها منذ القدم "مبارك شعبي مصر"، ومن هم شعب الله سوى أقباطها؟!!.. ولكن الفرق بيننا وبينكم أننا نحبكم، نريدكم بيننا نعيش سويًا في حب ووئام .. فهذه هي تعاليمنا وهذه هي مسيحيتنا..
وهنا أردد وأقول إيخابود.. لأنني أتذكر مصر في السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن المنصرم، حيث كانت تتمتع ببواقى الزمن الجميل.. وكم كانت جميلة.. كنت أحبُ شوارعها.. أحبُ شعبها النشط.. حتى في آواخر الليل.. الشوارع كانت تكتظ بحركة دائبة.. المحال التجارية والبقالات والمخابز.. كنتُ أحب أن أتمشى في شوارعها ليلاً.. كنت أسير مشيًا على الأقدام من شارع عبد الخالق ثروت إلى عماد الدين ومزلقان شبرا.. ثم شارع شبرا.. لزيارة الأهل والأصدقاء في تلك المنطقة.. ولكن ماذا حدث الآن؟!.. الآن حدّث ولا حرج..
.. الآن إيخابود.. قد زال مجدك يا مصر..
أين أيام الزمن الجميل.. الأمن والأمان.. الذكريات الجميلة.. المسارح والمسرحيات الهادفة.. الكُتاب العمالقة أمثال طه حسين العقاد، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ.. إلخ، الفنانون محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ.. إلخ.. والممثلون نجيب الريحاني، حسين رياض، محمود المليجي، أمينة رزق، عمر الشريف، عماد حمدي، يحى شاهين.. إلخ..
نعم، أين نحن من ذاك الزمن الجميل.. أين نحن والأفلام الهادفة التي تُعَلم الحب.. وتجعل المشاهد يخرج من دور العرض وهو ممتليء بشحنات من العواطف وحب العطاء.. وعندما يسند رأسه على الوسادة يحلم بأن يكون بطلاً في الواقع المعاش.. لأنه تعلم من تلك الأفلام بعض الدروس..عرف قيمة الحب والعطاء.. قيمة مساعدة المحتاجين.. والعمل بأمانة وإخلاص للوصول إلى الهدف المطلوب.. ولكن أين نحن من كل هذا الآن!!، لماذا انقلبت الأوضاع، قد تدنت المستويات.. حقيقة فاقد الشيء لا يعطيه، لقد أصبحت أنظمة التعليم في المدارس تبث روح الكراهية بين الأطفال منذ نعومة أظفارهم.. ثم لمتابعة البداية، تبدأ المرحلة الثانية حيث يتم غسل الأدمغة بالخطاب الديني، الذي يستمع إليه الشباب في الجوامع والمساجد، ثم ماذا بعد ذلك، أصبحت القلوب قلوبًا حاقدة على كل من هو غير مسلم، وانعكست كل هذه التعاليم في كل مكان .. في الشارع، في المدرسة، في المنزل.. أصبح النهج المتأسلم في كل مرفق من مرافق الدولة.. حتى المنتجات الأجنبية، يريدون مقاطعتها لأنها مصنوعة في بلاد الخواجات الكفار.. يا خسارة.. إيخابود..
ولكننا هل نقول إيخابود ونقف مكتوفى الأيدي؟؟!!، كلا.. وألف كلا.. لابد وأن نقف وقفة رجل واحد ضد كل من يريد أن يأخذ مجد مصر.. نتحدى الظلم والظالمين.. ليس بالمتفجرات أو بالمدافع الرشاشة كما يفعل الآخرون.. لا.. بل بالمنطق والحجة.. وملاحقة كل من يخرق القانون بالكتابة ومقارعة العنف بالمحبة.. والسفسطة بالمنطق.. واغتصاب الحقوق بالوقوف أمامهم في المحاكم.. في المحافل الدولية.. في أجهزة الاعلام المختلفة .. وحتى ولو استطاعوا إخماد بعض الأصوات.. إلا أن الأصوات عندما تتحد وتتكاثر لن يستطيعوا صم آذانهم وآذان الغير.. أيضًا لن يستطيعوا إخماد جميع المصابيح المتقدة التي تقشع دهاليز الظلام.. وحتى ولو كانت تلك الأشعة صادرة من شموع ضئيلة قد يستهان بها في البداية، إلا أن شمعة واحدة مضيئة تخيف ظلامًا دامسًا هذا حجمه حيث يفر هاربًا من تلك الشمعة الصغيرة.. وأنتم كذلك أيها الظلاميون الظالمون..
وهنا وجب عليَّ أن أقتطف جزءًا من كلمة أحد العابرين وهو المناضل محمد حجازى وقوفًا معه في نضاله ضد الدولة طلبًا لإثبات هويته المسيحية و أكرر وأردد معه وهو يقول:
"ومن هنا نبدأ ولا أقول ننتهي، فبنعمة الرب سوف نظل نناضل ونحارب من أجل حقنا، لن نحارب بأسلحة مادية، لأننا نؤمن بما قاله كتابنا المقدس أن : (أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون. الرسالة إلى أفسس 6: 12 & 2 كورنثوس 10: 4)، لن نرفع سيفا لأننا نؤمن بقول مسيحنا إن: (كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون.. إنجيل متى 26: 52)، لكننا سنحارب بالكلمة والتى قال عنها كتابنا المقدس إنها: (حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذو حدين. الرسالة إلى العبرانيين 4: 12)، لن نحمل سوى الصليب الذي هو: (عند الهالكين جهالة أما عندنا نحن المخلصين فهو قوة الله.. 1 كورنثوس 1: 18).
أيها السادة: الحق الحق أقول لكم: إنه في ظل تعنت النظام في إعطائنا أبسط حقوقنا الطبيعية وهو حق حرية التفكير والاعتقاد، فالضرورة موضوعة علينا في المطالبة بحقنا على المستوى الدولي... إننا لم نطالب بمعادلة مستحيلة، نحن نريد حريتنا، ونريد الوطن، بل نريد حرية الوطن ووطن الحرية... فالوطن يا سادة بلا حرية غربة، والغربة بالحرية وطن، سنظل متمسكين بحريتنا وبوطننا ولن نهرب ونترك المعركة... الحق أقول لكم: إننا لن نترك الوطن".. وهذا جزء مما قاله الأستاذ محمد حجازي..
ونقول لك عشت يا أستاذ محمد حجازى.. وكما يقولونها "لا فُضَ فوكَ".. الرب قادر أن ينصرك ويعضدك ويعضد كل عابر من الحظيرة الأخرى..
فيا شعب مصر.. وأعني شعب مصر الذي بالداخل والغيور على وطنه.. الذي لا يحب الشتات و الظلم والتفرقة.. والذي لا يحب زوال مجد مصر.. قفوًا يدًا واحدة لإرجاع الريادة المصرية والتي كانت مضربًا للمثل في الفكر والعلم والوطنية والتقدمية..
وأقول لأقباط المهجر، أنني فخور بكم.. ففى الآونة الأخيرة بدأتم تحسُسَ الاتجاه الصحيح والذي كنا ننادى به في الماضى حتى بُحت أصواتنا محاولين إظهار معالمه.. ولكن دعونا الآن من الماضي فنحن أبناء اليوم.. وإنني أنتهز هذه الفرصة لأشكر العاملين بجميع القنوات الفضائية المسيحية لأقول لهم شكرًا.. وأخص بالشكر قناة الكرمة الرائدة والتي لا ولم ولن تفرق بين الطوائف المسيحية المختلفة منادية بالحق والمحبة.. وأيضًا قناة الحقيقة وقناة الطريق.. شكرًا لكم جميعًا لأنكم بدأتم في توعية شعوب بلاد المهجر والتي كانت أغلبيتهم نائمة في بحور من العسل ردحًا من الزمن.. وأيضًا أود أن أشكر الصحف الجرئية وأخص هنا صحيفة "صوت المهاجر" ومجلة "الأقباط - الهيئة القبطية الأمريكية بكاليفورنيا"، واللتان لم يتوانيا البتة في التصدي للهجمات العنيفة إنصافًا للحق بجميع اتجاهاته عن طريق أقلام حرة تكتب لدعم القضية القبطية بشتى الطرق على الرغم من ضعف إمكانياتهما.. فليتنا نحن المسيحيين نقوم بتعضيد كل من القنوات المسيحية والصحف والمجلات التي تنادي لنصرة القضية القبطية بصفة خاصة ثم قضايا المسيحيين في جميع أنحاء العالم بوجه عام.. لأن الذي يشاهد قد لا يقرأ و الذي يقرأ قد لا يشاهد.. أما الذي يشاهد ويقرأ نقول له نعمًا لك.. وفي جميع الحالات ليتنا جميعًا نعطي بقلب محب..
وأخيرًا.. أود أن أقف إجلالاً واحترامًا.. محييًا رجال الكنائس في جميع أنحاء العالم الذين وقفوا مع شعبهم للتظاهر أمام الجهات المعنية للتعبير عن الواقع الأليم في مصر.. استنكارًا لما حدث لأقباط نجع حمادي.. وأكرر هنا.. إن قوة الشعب من قوة القيادة الكنسية.. فإن كانت القيادة قوية واعية لأصبح الشعب واعيًا شجاعًا يقف مع الحق مدافعًا عنه مهما كلفه ذلك من عناء دون أي خوف أو تردد.. وهذا ليس من عندياتنا بل هذا ما أمرنا به الكتاب المقدس بأن نطالب بحقنا المشروع.. وعلى أقل تقدير نقف لنسألهم.. يا قوم: لماذا تعاملوننا بهذه الكيفية؟!!.. أما إذا كانت القيادة ضعيفة، كان الشعب ضعيفًا مهزوزًا.. وكما ضاع تابوت الله في العهد القديم، سيضيع منا الكثير في أيامنا هذه.. وإن لم نتعظ، فإن المستقبل سيكون أخطر.. أقولها بكل صدق وأمانة، إن لم نواصل المسيرة إلى النهاية، سنتأسف ونقول يا للأسف.. كما قالتها امرأة فينحاس إيخابود.. إيخابود.. ثم ماتت..
ولكن.. يمكننا إعادة المجد مرة أخرى بالإيمان والعمل الدائم غير المتراخي والمطالبة بالحقوق دون تقاعس أو خوف.. فإن كنا يدًا واحدة في الخير فالرب قادر أن يكمل الباقي..
والرب مع جميعكم.. آمين ..
http://www.copts-united.com/article.php?A=13694&I=345