أزهى عصور النباح

د. نجيب جبرائيل

بقلم: د. نجيب جبرائيل
لعل المتتبع للحراك السياسي والحقوقي الذي يسود مصر في العقدين الأخيرين يلحظ أمورًا في غاية الأهمية، وهي أن الدولة قد نجحت نجاحًا باهرًا في تحويل هذا الحراك السياسي والحقوقي إلى ما يشبه مشهد مسرحي تتبارى فيه نخبة من المثقفين والليراليين وما ينضم إليهم من طوائف الشعب، سواء كانت تلك النخبة تتحدث عن حقوق دينية أو حريات سياسية، بل نجحت الحكومة فيما يمكن أن نسميه باصطناع نخبة التنفيس عن الغضب، وقد راعت الدولة مثل هذه النخب بأن سمحت لهم بالمسيرات والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية، مع الأخذ في الاعتبار أن أولئك يدركون تمامًا سياسة الحكومة المتمثل فى مبدأ "سياسة اللاحركة أو الحركة المحدودة في أفضل الأمور" والتي لا تصل إلى الغايات من المسيرات والاحتجاجات وإنما فقط في جعل هذه الحركة المحدودة مصبًا يصب فيه هذا التنفيس من الغضب.
بل نجحت الحكومة في أبعد من ذلك بكثير، فعلى سبيل المثال نجحت الدولة من خلال سياسة تهميش الأقباط والضغط عليهم وعدم الاستجابة لأدنى حقوقهم الإنسانية، مثل عدم وجود قانون يعطيهم الحق في بناء دور عبادتهم وعدم أحقية الكثيرين من العودة إلى ديانتهم، استطاعت الدولة من خلال ذلك الضغط غير المباشر -وأحيانًا المباشر- أن تدفع بالأقباط إلى اللجوء إلى الكنيسة ومن ثم إلغاء جموع أكثر من خمسة عشر مليون قبطي واختزالهم في شخص رئيس الكنيسة "قداسة البابا"، ومن ثم نجحت الدولة في تكريس فكرة العنصرية والطائفية، بل قيل أنه في كثير من الدورات البرلمانية السابقة عندما كانت تصدر تعيينات لبعض الأقباط في مجلسي الشعب والشورى يُطلب من الكنيسة أسماء مُرشحة لذلك، ومن ثم غاب عن الدولة بل تعمدت أن يعمل الأقباط ليس على أجندة وطنية بل على أجندة طائفية، ثم تتهمهم بعد ذلك بأن الكنيسة تمارس سياسة تحريضية عندما تطالب بحقوق الأقباط، من ثم يُزج بكل من الأقباط والكنيسة في قفص الطائفية.
ولقد كتب الأسبوع الماضي أحد رؤساء إحدى الصحف القومية الكبرى مهاجمًا البابا شنودة بأنه كيف عجز أن يمنع بعض قساوسة أقباط المهجر من المشاركة في مسيرات قام بها الأقباط في كندا وأمريكا وأوروبا واستراليا، إبان فجيعة مذبحة نجع حمادي الأخيرة، وتناول رئيس تحرير هذه الصحيفة بالغمز واللمز منتقدًا موقف البابا، كما أنه لم يقلم أظافر أحد قساوسة المهجر الذي قيل أنه يسيء للإسلام في الخارج، برغم وجود أكثر من سبعة قنوات فضائية متأسلمة تعمل من داخل مصر تسب المسيحية والمسيحيين ليل نهار، وسبق وأن تقدمت بدعوى مستعجلة لإيقاف ما تسمى قناة mta التي تبث برامجها من لندن عبر النايل سات المصري والذي يُمول من ضرائب الأقباط والمسلمين وتسب عقيدة المسيحيين، وللأسف رُفضت هذه الدعوى، وهكذا أصبح الكلام والصراع على مطالب الأقباط ليسو كمواطنين بل بين الدولة وقيادة الكنيسة في شخص البابا، وأصبح كل من يتكلم عن حقوق الأقباط من المسيحيين خارج نطاق الكنيسة، متهمًا بأنه يحرض على فتنة طائفية ولا يتمني لمصر خيرًا وأنه يستقوي بالأجنبي.
وهذا ما اتُهمت به عندما رأينا أن قدوم لجنة الحريات الدينية الأمريكية التي زارت مصر أخيرًا عقب أحداث نجع حمادي لرصد الانتهاكات التي يتعرض لها الأقليات في مصر ومنهم الأقباط، وقلنا أن تلك اللجنة لا تعتبر تدخلاً في شئون مصر بل يجب النظر إليها في إطار سياق القانون الدولي باعتبار أن مصر جزء من هذه المنظومة الدولية التي تؤثر وتتأثر بها، مشيرين إلى شراكة مصر مع هذه الدول الكبرى ومدى تأثير ذلك على تلك الشراكة.
وقامت الدنيا فى مصر علينا ولم تقعد، واتُهمنا بالمانشتات العريضة في الصحف تتهمنا باثارة الفتن الطائفية والتحريض على الاستقواء بالأجنبي، لا لشيء لكن لأن قداسة البابا شنودة رفض استقبال لجنة الحريات الدينية الأمريكية، مما يؤكد أن الدولة كما قلت تحرص جيدًا على اختزال الأقباط في شخص البابا، متخذة من مفهوم المواطنة أنه يجب أن يتم عبر الكنيسة، ومن ثم تأتي أحداث نجع حمادي ومن قبلها أحداث فرشوط وسمالوط والمنيا والعياط والمنوفية ودير أبو فانا والإسكندرية والعديسات، فتكون الحلول ليست على أرضية المواطنة وإنما على أرضية عدم إغضاب البابا.
ولا يجب أن يفهم قارءنا العزيز أنني رافض أو أرفض أن يتكلم البابا عن مشاكل الأقباط، ولكن يجب أن نفسر أو نعطي المعنى الصحيح، فيصح أن يتكلم البابا عن مشاكل الأقباط باعتبار أن معظم هذه المشاكل تدخل في إطار ما يتعلق بممارسة العقيدة مثل بناء الكنائس وممارسة العقيدة، ولكن ما يفعله البابا وما يجب أن تتفهمه الحكومة جيدًا أن البابا يتكلم عن مشاكل الأقباط ولا يتكلم عن الأقباط، والدليل على ذلك نجد كثيرًا ممن هم على المسرح السياسي من الأحزاب الأخرى من هو يعارض البابا في تأييده لشخص مرشح رئاسة الجمهورية أو تفضيله للحزب الوطني، ولكن الحكومة لعبت دورًا تُحسد عليه في إضفاء المشروعية على أن لا يسمع للأقباط من مشاكل إلا من خلال شخص البابا وقد تسمع للمثقفين والحقوقيين.
وهذا ما حدث أثناء لقائي الأخير مع قيادات الحزب الوطني والأمانة العامة ولجنة السياسات منذ شهرين، ربما يكون ذلك تمهيدًا لاتخاذ قرارات أو إجراءات، لكن فى كل الأحوال لا بد أن يكون ذلك استجابة لاتصالات أو اجتماعات مع البابا.

لكن يبدو أن الدولة قد نَسَت أو تناست أنها وإن كانت قد نجحت في تكريس سياسة حصر النخبة المثقفة فيما يسمى بسياسة النباح وأعطت لهم الفرصة بأن يكون ذلك الوقت هو أزهى أوقاتها ليقولوا ما يشاءوا ويفصحوا بأي طريقة تراها تلك النخبة عن مطالبها سواء المقروءة أو المسموعة أو المرئية أو حتى في ظل مسيرات أو وقفات احتجاجية، ولكن يجب أن تدرك الدولة أن تلك النخبة أخذت على عاتقها بأن ينضم إليها كتل اجتماعية وصلت إلى قاعدة الشعب، مصممة على ألا تقبل حلولاً رمادية كما أنها لا تقبل سياسة اللاحركة أو الحركة المحدودة، وأن فكرة السيادة الوطنية لا يمكن أن تكون بمعزل عن فكرة الشرعية الدولية وأن هناك ما يسمى بالقلق العالمي أو الدولي، وأن الأقباط يرفضون أيضًا أن تكون الكنيسة وطنًا موازٍ للدولة وأن الدولة المدنية تحتاج إلى نضال مدني طويل المراس، وأنه لا توجد مواطنة إلا بالأغلبية والأقلية معًا، وأن شرعية الدولة تخرج من شعبها بأغلبيته وأقلياته وأن هناك كثيرين راحوا ضحايا على مذبح الحرية.
ولتعلم الحكومة أيضًا أنها وإن كانت قد نجحت في تكريس سياسة النباح، لكن دعني أذكرها بقول الشاعر العربي الذي قال:
صرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الرياح
فستذهب غدًا بالأوتاد

إن حقوق الشعوب لا يمكن أن تتحول إلى مِنَح وعطايا، بل هي حقوق منتزعة بموجب الدستور والقانون، وإنما من مصلحة الحكومة أن تحول هذا المنظور الطائفي إلى أجندات وطنية، وعليها أن تتذكر أن حقوق الإنسان هي صوت من لا صوت له وأن التاريخ قد أثبت أن ثورات الشعوب لم تأتِ إلا من خلال ممارسات الضغط الواقعة عليها من حكوماتها.
صحيح أن تحقيق المواطنة في الدول النامية لا يمكن أن تأتي بين ليلة وضحاها، ولكن في ذات الوقت لا تقبل التسويف أو المماطلة، لأن أشد أنواع الظلم هو البطيء فى تحقيق العدالة، فيجب العمل بشفافية لا بوجهي العملة، لأن وجود شرعية النظام مرتبط ارتباطًا لا يقبل التجزئة بالحلول الشرعية للمواطن.
فنحن نصر على أن نعيش دستورًا معاشًا وليس دستورًا تفصل بين مواده والواقع هوة سحيقة، فكما قال أحد فقهاء القانون الفرنسي أن دستور الدولة لا يمكن أن يكون دستورًا حقيقيًا إلا إذا كان دستورًا مُعاشا. وكما قال أحد فقهاء القانون المصري بأنه يجب أن تكون هناك نية تتسم بالشفافية عند وضع الدستور والقوانين، فعلى سبيل المثال كيف نقول في دستورنا الحالي ونتكلم عن حرية العقيدة وعن المواطنة وما يتعارض في ذات الدستور من وجود المادة الثانية التي تضع الإطار العام والنظام العام في مصر هو نظامًا عامًا إسلاميًا يخرجنا عن مفهوم الدولة المدنية.

وأخيرًا يجب أن تعي الدولة أننا أنهينا فترة فطامنا ورُفعت عنا الوصايا وبلغنا سن الرشد، وأن شعلة الحرية قد اشتعلت بل بلغت ذروتها، ولا يمكن لأحد كائن من كان أن يطفئ هذه الشعلة التي هي رمز الحرية والديمقراطية وبدونها نظل في نفق مظلم يؤدي بنا إلى مزيد من الاحتقان، وكما قلت في مقالات سابقة إلى أيام الغضب.

رئيس منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان
Nag_ilco@hotmail.com