المتأسلمون والوطن

فيولا فهمي

عرض / فيولا فهمي
"الكِتاب يؤلف مرتين، مرة على يد كاتبه ومرة أخرى على يد قارئه" عبارة اعتقد أنها تلخص تلك الحالة التي ينخرط فيها القارئ عندما يمسك بتلابيب الأوراق في الكتاب ليبحث عن نفسه أحياناً أو عن ما يشغل باله ويثير نهمه للقراءة أحياناً أخرى، ولذلك فإذا جاز لنا أن نغير عنوان كتاب "المتأسلمون والوطن" للدكتور سيد القمني الكاتب والباحث في الشئون الإسلامية –والذي تم تهديده بالتصفية الجسدية من قبل- فيجب أن نطلق عليه عنوان "ضد التيار" فهو يخالف فكرة أمجاد العودة للخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة وإقامة حدود الله على الأرض باعتبارها أفضل الأنظمة السياسية الحاكمة، وهي الأفكار التي ينادي بها المتأسلمون.الكاتب والباحث سيد القمني المثير للجدل

يقول سيد القمني أنه عندما احتل الدين قمة سلم الأولويات الاجتماعية بدأت تظهر صراعات المصلحة والمنفعة بين الصحابة ولذلك تم اغتيال عثمان بن عفان وهاجمت السيدة عائشة على بن أبي طالب في الجمل قديماً، وكذلك لم تردع رابطة الإسلام عن غزو العراق للكويت ولا تفجير المتأسلمين للسيارات المفخخة في بلاد المسلمين لقتل المسلمين، وبالرغم من وضوح التاريخ إلى حد الصدمة أحياناً فأن الصدمات لا تفيق أهلنا الراغبون في استعادة الخلافة المقبورة وهم في سبيل ذلك يريدون إقامة المجتمع المسلم قبل إقامة الدولة الإسلامية كما هو في ترتيب أهداف الإخوان المسلمين في مختلف وثائقهم!

ومن ثم نجد البشرية تسير نحو المستقبل فتنتج الكهرباء وأجهزة الراحة والمتعة والتشريعات الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمم وحقوق الإنسان، ونحن في المقابل نطالب بالعودة إلى عصر النار وعصر الإمبراطوريات في جنوح ذهاني يشير إلى خلل عميق أصاب العقل المسلم.
والمثير للدهشة أنهم يؤكدون طول الوقت إن الإسلام لم يتم فرضه بالعنوّة أو العنف أو السيف وبالتالي فإن ذلك يعني أن الدولة التي قامت بالعنوة على يد أبو بكر الصديق –وفق التسليم بمقدمة إنشاء إسلام بقوته الإقناعية وليس بالسيف– فإن هذه الدولة لا يصح أن تكون دولة الإسلام لأنها قامت على السيف!!

كما أن حجة المطالبين لعودة الخلافة الإسلامية ينصب في كونها الجامع للمسلمين وسر قوتهم التي احتلوا بها أجزاء من أوربا وأنه بانهيارها وتفككها انهارت الدول المستقلة الوطنية الضعيفة، والحل إذاً هو استعادة القوة باستعادة النظام المنشئ لها والمتفق مع ديننا وتاريخنا وفقهنا ومنطقنا في تقسيم العالم إلى ديار سلم وديار حرب وهو ما يشابه الدعوة الصهيونية التي سبقت قيام إسرائيل.

متسائلاً عن واقعية أن يكون أول بنود اهتمامات بلادنا الأشد مرضاً وجهلاً وتخلفاً وضعفاً في العالمين هو إقامة دولة إمبراطورية للخلافة على غرار الأموية والعباسية، كما أن النبي لم يقم للعرب ما يشبه الدولة في جزيرتهم إلا بعد ما يفوق الثمانين معركة عسكرية دموية وتفككت دولته وهو على سرير المرض مما جعل أبو بكر يعيد جمعها وتوحيدها بالحرب أيضاً، وبالتالي لم تقم إمبراطورية في التاريخ بالجدل والحوار لأنها إخضاع شعب لعبودية شعب آخر سيد حاكم وإكراه حاكم محلي للتخلي عن الكرسي لحاكم آخر قادم من خارج الحدود وهو ما لا يحدث إلا قسراً، كما أن الدين لا يقف على رأس سلم الروابط الاجتماعية التي تجمع الشامي والمغربي والماليزي ليشكلوا القوة المطلوبة لقيام ديار الإسلام، بل أن هناك روابط أخرى تجمع المجتمعات وتميزها عن بعضها مثل رابط العنصر أحياناً –كما في الروابط القبلية– أو مثل رابط التجاور الجغرافي أو المصالح المشتركة والدين أيضاً رابط اجتماعي قوي لا يمكن إنكاره ولكن المجتمع عبر ما يمر به من مشاكل أو انفراجات أو علاقات أو حروب فأنه يقوم بتغيير أولوياته باختيار ما يكون مطلوباً من روابط فتأتي المصلحة على أولى الدرجات أو الدين أحياناً أو اللغة أحياناً أخرى، وهكذا فأن ترتيب الروابط حسب حاجة المجتمع في زمن ما وظرف طارئ بالذات، ولكن لأن الدين هو المعطىَ السماوي الذي لا يقع تحت سيطرة الإنسان، وبالتالي لا يستطيع أحد التدخل فيه ويتلقوه كما هو بأوامره ونواهيه دون اعتراض، ومن ثم لا يبقى في المجتمع من يمكنه التعامل مع هذا المقدس سوى رجال الدين وعصابات المنتفعين باسم الدين وكثيراً ما أدى هؤلاء باستخدامهم الدين إلى تخلف مشين كما كان الحال في العصور الوسطى وكما هو حال بلادنا اليوم.

ولكن عندما يكون أعلى الروابط هو الجغرافيا "الوطن" وحدوده ووحدة هذا التراب وعشقه والإيمان به فوق كل معبود ومقدس عندما يكون الوطن هو محراب قدسنا الذي نمارس فيه حب الوطن والجماعة لن يكون هناك مجرد هاجس أو شاغل بتفكيك الأمة المصرية، وذلك لأن الدين لم يكن هو الذي وحّد تلك الدول القديمة العريقة في الحضارة تحت حكم الخلافة الإسلامية وإنما هو الطموح السياسي والمادي في الاحتلال والسلب والنهب وممارسة كل أنواع الظلم وهو الأمر الذي يستحيل معه الاستمرار لأن الإمبراطوريات هي توحيد قسري لأوطان تاريخية لها نظامها المجتمعي والاقتصادي وشكلها الجغرافي وحدودها ولذلك ما تفككت إمبراطورية في التاريخ إلا لتعود الأوطان لشكلها الأول وما قامت إمبراطورية إلا وتفككت لأنها قامت على القهر والشوكة والغلبة ولم يشغلها ربط المجتمع ببعضه بقدر ما شغلها استبعاد الروح والضمير في طاعة مطلقة بتحجبها وراء الدين، ولذلك عندما ينفرط رابط الإمبراطورية التي قامت على القهر تعود الحدود إلى أصلها بمجتمعها وخصائصه وشخصيته.
وبذلك يتضح أن إنزال الدين من على قمة سلم الروابط الاجتماعية هو تكريم له وتنزيه له ورفع يد العباد عنه وجعله بمنأى عن الاستخدام الانتهازي في صراع يضر بالمسلمين وبدينهم.