ريمون يوسف
بقلم: ريمون يوسف
المتابع للأحدث الطائفية الأخيرة التي تعرض لها الأقباط بصفة خاصة والكنيسة كمؤسسة بصفة عامة، يتأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الدولة قامت باتخاذ منحنى مختلف في التعامل مع الكنيسة كمؤسسة من مؤسسات الدولة والأقباط كمواطنين.. "وأنا هنا أفصل بين الكنيسة كمؤسسة، والأقباط كشعب".. هذا المنحنى يعبر وبوضوح عن ترجيح كفة الجماعات الإسلامية والمتطرفين غير النظاميين على حساب الكنيسة، لأهداف غير معلومة، وهذا لأن الدولة التي استطاعت، وبجدارة على أن تقضي على التطرف المسلح في التسعينيات من القرن الماضي، والذى كان يستهدف الأقباط وأجهزة الأمن والسياحة، لم تستطيع التغلب على التطرف الفكري والسلوكي الذي أصبح أمرًا واقعيًا وموجودًا و مقبولاً من قيادات الدولة مقارنة بما كان يحدث في السابق، وهذا بفضل التعليم والإعلام اللذين يكرسان التعصب وعدم قبول الآخر، وبالتالي أصبحت الدولة لا تستطيع أن تقف أمام التطرف المنتشر بين أفراد العامة من الشعب، وليس فئة محددة كما كان سابقا، لكنها على الجانب الآخر تعرف كيف تضغط على الكنيسة والشعب القبطي، بعد كل حادث طائفي لصالح التطرف والمتطرفين غير النظاميين لاتقاء شرهم، وأنا أفسر هذا على أن الدولة ارتاحت نسبيًا لانطلاق التطرف والتكفير في اتجاه الأقباط، حتى لا يتجه في اتجاه الحكومة من خلال ضرب السياحة أو الهجوم على الأمن المصري أو مواجهة مخططات الدولة، ليوضح مدى العجز الذي وصلت إليه حكومتنا ودولتنا في ظل المناخ السائد في المجتمع المصري.
والدليل على ذلك أنه وفي خلال الخمس سنوات الأخيرة تعرض الأقباط إلى الكثير من الأحداث الطائفية من حرق ونهب وقتل، بداية من التعدي على الأقباط ومنازلهم ومتاجرهم، مرورًا بالهجوم على الكنائس والأديرة، انتهاءًا بمحاولة اغتيال أسقف نجح حمادي الأنبا كيرلس، والذي نتج عنه قتل سبع أقباط ومسلم، لترتفع وتيرة العنف تجاه الأقباط بشكل غير مسبوق.
والمثير للدهشة والغضب في نفس الوقت، أن جميع الحوادث دائمًا وأبدًا، تخرج الكنيسة كمؤسسة والشعب القبطي كمواطنين فيها بلا أحكام قضائية ضد الجناة مرتكبي الحادث، أو صرف تعويضات لأي من المتضريين بل ويتم تهجير الأقباط كما حدث بعد أحداث فرشوط من تهجير للأقباط في قرية الهجانة، ومن قبلها تهجير المدرس القبطي المتهم بالتنصير في البحيرة، وتهجير مواطن من المنيا بعد أن قام بعض المتطرفين بقتل زوجته، إلى جانب الكثير من حالات التهجير، والتي سنبحث فيها في مقال آخر، ليتأكد للجميع ضعف الأمن والحكومة في مواجهة التطرف المنتشر في المجتمع من خلال عدم مقدرتهم على حماية الأقباط ضحايا العنف الطائفي، واتجاه الأمن للحل الأسهل بالنسبة لهم وهو تهجير الأقباط أو إجبارهم على الصلح.
وبعد هذه المقدمة، أحب أن أتحدث هنا عن علاقة الدولة المصرية مع الكنيسة كمؤسسة داخل الدولة بها البطريرك والأساقفة والقسوس المسئولين عن شريحة كبيرة من المواطنين يقومون بالخدمة الروحية والاجتماعية للأقباط من أبناء الشعب المصري، أي أتحدث عن موظفين في الدولة "يتمتعون بالحصانة إذا جاز التعبير"، ولهم احترامهم لكونهم رجال دين ونحن في مجتمع من المفترض أنه يحترم رجال الدين.
أول الأحداث التي وضحت جنوح الدولة للمتطرفين على حساب الكنيسة كمؤسسة هي حادثة دير أبو فانا الشهيرة والتي تعرض فيها رهبان الدير إلى الاختطاف والتعذيب والضرب بالرصاص، الرهبان الذين يمثلون ركنًا أساسيًا في مؤسسة الكنيسة، وهم الذين يخرج منهم البطريرك والأساقفة الذين يمثلون الأقباط أمام الدولة، وقد انتهت المشكلة إلى شيء، حيث تم مكافاة الجناة بإعطائهم بعض الأفدنة من أراضي الدير كتذاكار لهم، ومكافأة على مهاجمتهم للرهبان، إلى جانب عدم اتخاذ أي حكم تجاه الجناة، بل تم حبس مقاول الدير وأخيه للضغط على الكنيسة والرهبان، لتغيير أقوالهم لتبرئة الجناة. وانصاعت الكنيسة للضغوط أملاً في الخروج بأي مكاسب أو تعويضات من جانب الدولة بعد فقدها الأمل في معاقبة الجناة على جريمتهم، إلا أنها خرجت بلا أي مكاسب، فمشاكل الدير من توصيل المرافق وبناء سور يحميه لم تتم كما هو متفق عليه، لتصبح هذه الحادثة بداية لجنوح الدولة تجاه المتطرفين غير النظاميين، واختبارًا آخر سقطت فيه الكنيسة ولم تستطيع أن تحمي أولادها أو تنجح في حفظ ماء الوجه، وتساءل بعدها الأقباط عما تم ولماذا لم يتم الحكم على الجناة وأي فائدة عائدة على الكنيسة بعد الصلح، خاصة أن مشاكل الدير لم تحل بشكل نهائي وفوري، كما كنا نعتقد، بل إن الحكومة بهذا الموقف أعطت للمتطرفين حرية الاعتداء على رجال الدين والأماكن المقدسة وتطمنئهم ولسان حالها يقول "اعتدوا كما تشاؤن على الرهبان والدير.. ولا تخشوا شيئًا.
وهذا ما حدث بالفعل بعد فترة من اعتداء بعض العرب على زوار الدير والعاملين فيه، وطبعا لم تتخذ الدولة أي خظوة تجاه تكرار الاعتداء على الدير.
ثم نأتي إلى حادثة أخرى وهي الحكم على القس متأؤس وهبة بالسجن5 سنوات بتهمة التزوير، وهي التهمة التي أكد عليها جميع القانونين بأنه بريء منها تمامًا، ومع ذلك لم تستطيع الكنيسة كمؤسسة الدفاع عن أحد أبنائها، رغم براءته الواضحة، بل خسرت معركة أخرى أمام الدولة التي أصبحت لا تعطي أي كرامة أو احترام للعاملين في المؤسسة الكنسية، بداية من عدم إدراج الملابس الكهنوتية كزى رسمي ، انتهاءًا بتواطئها في الحكم على القس متاؤس المظلوم في هذه القضية ولكنها كانت ضربة أخرى للكنيسة، لنتأكد أن قضائنا الشامخ اخترق من قبل المتطرفين ليحكم القاضي طبقا لأفكاره الدينية وقناعته الشخصية بعيدًا عن إحكام القانون، رغم وضوح القضية وضوح الشمس، لكنها كانت ضربة أخرى للكنيسة زادت من ضعفها أمام الدولة التي انحت بدورها أمام كل أشكال التطرف.
ونأتي في نهاية هذا العرض لنتحدث عن الحدث الأخير وهو محاولة اغتيال أسقف نجح حمادي الذي يمثل المؤسسة الكنسية والذي نتج عنه قتل سبعة أقباط ومسلم أثناء خروجهم من الكنيسة عشية عيد الميلاد، ليلقي بظلاله على استمرار تعاطف الدولة مع المتطرفين على حساب الكنيسة، حيث أرسل الأنبا كيرلس الكثير من الاستغاثات للأجهزة الأمنية لتكثيف الحراسة على الكنائس وهو الأمر الذي لم يتم والذي يؤكد بوضوح مدى تزايد المد الديني المتطرف داخل أجهزة الدولة، وليس داخل المجتمع فحسب، واستحلال دم الاقباط سواء المواطنيين منهم أو الاساقفة، والمثير للسخرية هنا أن أجهزة الأمن استطاعت وبجدارة القبض على نشطاء وحقوقيين جاءوا من القاهرة لتعزية الأقباط في نجح حمادي في حين أنها فشلت في القبض على الجناة أثناء سيرهم بالسيارة ومعهم أسلحة نارية في قلب نجح حمادي وفي ليلة عيد والتي دائمًا ما تكون الشوارع المحيطة بالكنائس مكتظة بالأمن.
ومن خلال متابعتنا لتعامل الدولة مع أحداث الكشح التي نتج عنها قتل 21 قبطيًا ولم يصدر أي حكم على الجناة المعلومين للجميع، نستخلص كيف سينتهي مصير هذه الحادثة دون عقاب بعد تهدئة الرأي العام وتمديد وقت التحقيقات حتى يتم نسيان الحادثة، خصوصًا بعد قيام الأمن بحملة اعتقالات واسعة في فرشوط لتضع الكنيسة تحت ضغط كما حدث في حادث أبو فانا من خلال اعتقال المقاول رفعت وأخيه حتى ينتهي الصلح ويخرج الجناة مخرجين لسانهم للأقباط ومحتفلين بالمكاسب التي حققوها.
وأنا أتوقع أن الحادثة الأخيرة إذا لم تنهِ بتقديم الجناة إلى محاكمة عادلة وعقابهم على قتل الأقباط سيضع هذا المسمار الأخير في نعش العلاقة بين الكنيسة كمؤسسة والدولة وستفقد الكنيسة هيبتها وسط شعبها، بجانب أنه سيضع الحكومة بكل أجهزتها في موضع الضعف والخنوع أمام جماعات متطرفة غير نظامية، وأن قتل الأقباط من الجرائم المشروعة لتتحول مصر إلى لبنان آخر، في حالة لجأ الأقباط إلى الثأر من قاتل أولادهم، هذا إذا لم يقم الأمن بتهجير أهالي الشهداء من منازلهم كما يحدث دائمًا هذا من جانب، ومن جانب آخر سيؤكد للأقباط أنهم كبش الفدا الذي ستقدمه الحكومة للمتطرفين لتمرير أي مخطط لها سواء التوريث أو غيره.
وأنا هنا أحب أن أختم حديثي بتساؤل: "لماذا هذا التعنت من رجال الأمن ورجال القضاء تجاه الأقباط؟ لماذا لا يعاملون الجميع بالتساوي؟ وهنا أجابنى أحدهم أن رجال الأمن ورجال القضاء جزء من المجتمع المتشبع تطرفا متمثلاً في ازدياد الأحداث وانتشارها في كل ربوع المحروسة "سابقًا" فمن الطبيعى أن يتشربوا من هذا المناخ وهذا يفسر تعامل الأجهزة القضائية والأمنية مع الكنيسة والأقباط التي تأتي باستمرار ضدهم لانتشار الفكر المتطرف داخل هذه المؤسسات الحيوية التي يعيش أفرادها في مجتمع متشبع بالطائفية، هذا إلى جانب خوف الدولة ومؤسساتها من رد فعل المتطرفين حال نصرتهم للكنيسة أو الأقباط في أي حادثة طائفية .. وللحديث بقية..
http://www.copts-united.com/article.php?A=12835&I=328