بقلم: د. ليلي تكلا
بعد الإشارة إلي خصائص كل من الدولة المدنية والدينية, نستكمل البحث حول أين نحن منهما, فنجد أن القوانين تقرر المساواة وتكافؤ الفرص وحقوق المرأة وتشجع البحث العلمي.. الخ
وجاء الدستور ينص علي المواطنة وكلها إشارات إلي الدولة المدنية. ولو أن الدستور أخذ باقتراح النص علي أن الدولة مدنية لأصبح الأمر أكثر وضوحا. فالمواطنة والدولة المدنية ليستا مترادفتين, الأولي تعني أن الصفة الأساسية في تحديد الحقوق والواجبات هي أن يكون الشخص مواطنا مما يتضمن رفض التمييز الديني, كما أنها تشمل دور المواطن في حل مشاكل المجتمع. بينما النص علي الدولة المدنية يحسم الموقف ويعني بوضوح تام الفصل بين الدين والدولة: لكل مجاله ولكل احترامه.. يعيشان معا دون أن يسيطر أحدهما علي الآخر.
ومع الأهمية القصوي لما تنص عليه التشريعات والدساتير إلا أن العبرة في نهاية الأمر هي بالواقع والسلوك وأسس العلاقات والقرارات فماذا يقول ذلك الواقع؟
***
نعيش وسط الناس, نراهم يتحركون ويتصرفون, نسمع ماذا يقولون وندرك كيف يفكرون, نري ما يلبسون ونستمع إلي ملاحظاتهم وتعبيراتهم.. ونقتنع بأننا نعيش حالة من الدولة الدينية, ثم نتطلع إلي السياسات والقوانين والدستور والتعليمات الرسمية وتصريحات الحكومة.. ونعتقد أنها دولة مدنية.
المناخ السائد في المجتمع يقوم علي أن كل فعل وكل قرار له مرجعية دينية, وبغض النظر عما تقول القوانين المهم الفتاوي التي تحصي بالملايين وأغلبها من مصادر غير مؤهلة. كل حركة أصبح يلازمها قول ديني. دخول المصعد تسبقه الشهادة, طلب رقم تليفوني يبدأ بالبسملة, رنين التليفون يحمل آية أو أذانا, ويرد عليك بتسابيح جميلة. مصافحة قبطي يعقبها استغفار ورؤية قسيس قد تقتضي قراءة تعويذة. اصبحت لغة الخطاب اليومية ـ وليس الدينية فقط ـ تحمل ألفاظا معادية: مثلا كلمة كنيسة يعقبها ولا مؤاخذة..( وأرجو ألا تنتشر العدوي ويقول غير المسلم أيضا جامع ولا مؤاخذة.
يحرم بعض الشيوخ الاحتفال بعيد ميلاد المسيح عيسي عليه السلام( مع انه نبي حسب الإسلام) ويعتبرون الأقباط كفرة ويهاجمونهم برغم أن الرسول أوصي بهم وله معهم قرابة. ترفع الدعاوي القضائية علي المستنيرين فيزحف الظلام.
انتشر النقاب والرداء الإسلامي, وتفرض بعض المدارس الحجاب علي الفتيات الصغيرات منعا للإغراء الجنسي الذي أصبح شاغل المجتمع, وجعل وجه المرأة عورة لابد أن يختبئ وراء ستائر سوداء, وكأن الرجل وحش مفترس لا يقاوم رؤية وجه النساء. القضية ليست دينية إنها تتعلق بالأمن القومي خاصة بعد تزايد الجرائم التي ارتكبها رجال منتقبون.. ومن المعروف أن القواعد الدينية والوضعية تضع الصالح العام وأمن البشر فوق كل اعتبار.
والسؤال الذي يطرحه ذلك الواقع هو: هل كل هذه الألفاظ والمظاهر الدينية صاحبها انخفاض في الانحراف؟ هل انخفض معدل الجرائم والاعتداءات والسرقة والاغتصاب والعنف والفقر والبطالة أو الرشوة والتدليس والغش والفساد بأنواعه؟
هل الناس في الطرقات والمحال والشركات وفي مكاتب الوزارات يتعاملون مع المواطنين بما يرضي الله أم أنها قشور التدين دون مقاصده. تكتظ المساجد والكنائس بالمصلين لكن القلوب لا تمتلئ بالرحمة والتعايش والتكامل والتعاون, والعقول لا تدرك معني الوطنية والانتماء للوطن.
***
إن ذلك الواقع, وما يأتي به من سلوك, لا يعبر عن صحيح الأديان ولا عن سياسة الدولة. التناقضات صارخة, نفس الدولة التي تنتشر فيها دعوة لعدم مصافحة المسيحيين وعدم مصادقتهم لأن الإنسان علي دين خليله, والتي تحرم الأكل في بيوت الأقباط أو قبول هداياهم أو دخول الكنيسة حتي لواجب العزاء.. هي نفسها الدولة التي تدعو رئيس الكنيسة القبطية لجميع المناسبات الرسمية. يذهب رموز الدولة للكنيسة للمعايدة في تقليد مصري أصيل لحضور الصلاة بمناسبة عيد الميلاد الذي أصبح عطلة رسمية!! تناقض هائل جدير بالاهتمام وبالعلاج الجذري والتعرف علي أسباب ذلك الانقياد وراء من يدعون الدين ويدعون إلي التفرقة والانقسام, بينما الدولة تدعو إلي المواطنة وتمارسها.
وقد يتساءل البعض وماذا يضير أن يكون المجتمع متدينا نقول إن ما نراه ليس تدينا إننا نؤمن بالأديان, وبأن الإيمان أجمل هبات الخالق للانسان. ندعو لاحترامها كلها, والسلوك حسب ما جاءت به من قيم وترديد الآيات في مناسباتها وإضاءة الشموع علي أن يكون ذلك ليس لمجرد التمسك بالشكل دون المضمون. إننا نرفض مظاهر التدين ونؤمن بسلوك التدين. وهذا ما يراه ملايين المسلمين الذين يحترمون عقيدتهم ويهتمون باستقرار وطنهم.
***
عزيزي القارئ:
ألا تري معي كيف أنه من الصعب أن نجزم بما إذا كنا دولة دينية أم مدنية؟
أيا ما كان وضعنا فإنه من المهم ألا ننزلق لمخاطر الدولة الدينية مع التمسك بالإيمان والتدين الصحيح ـ والفرق بينهما شاسع ـ وأن نبدأ بالتعرف علي منابع دعاوي التفرقة للحد منها..
إننا دائما نرجعها إلي هجمات متشددة, داهمتنا وأطاحت بما كان يغمر مصر من محبة وتعايش وتعاون ووطنية. لكن هناك بالإضافة إلي تلك الأسباب مصدرا داخليا يعيش في وسطنا, يبث في المجتمع ثقافة التفرقة والفرقة والخلاف والتباعد, ذلك هو المناهج الدراسية التي تهدد بكارثة.. وتحتاج لحديث مستقل ودراسة علمية موضوعية وافية.. حفظ الله مصر.
نقلا عن الاهرام
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=12128&I=313