حزب الأغلبية وتحديات الديمقراطية

د. عبد الخالق حسين

بقلم: د.عبد الخالق حسين
في البدء، أود التوضيح، أن ما يسمى بحزب الأغلبية، هو أغلبية بالإدعاء، لتمسكه بالسلطة عن طريق القوة، وليس بأغلبية أصوات الناخبين عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة. ففي الدول الديمقراطية العريقة هناك أحزاب كبيرة تمثل الأغلبية الحقيقية، وتستلم السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وهي ديمقراطية شكلاً ومضموناً، بينما الأحزاب التي لا تحظى بأغلبية أصوات الناخبين، تبقى في المعارضة، تمارس نشاطها في مراقبة ومحاسبة الحكومة بمنتهى الحرية، إلى أن يحالفها الحظ في الانتخابات اللاحقة، فتتحول من المعارضة إلى الحكم، أي تصبح هي حزب الأغلبية وبالانتخاب الحر أيضاً. وهكذا، ففي الأنظمة الديمقراطية، يشكل الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة جناحي السلطة، ولكل منهما وظيفته المشروعة لخدمة الشعب، يتم بينها تناوب السلطة بالطرق السلمية. ولكن في البلاد العربية، فما يسمى بحزب الأغلبية، يعني شيئاً آخر، ولنا اعتراض عليه، لأنه على التضاد مع الديمقراطية، سنبينه لاحقاً.

لا شك أن "ظاهرة حزب الأغلبية" متفشية في عدد من البلاد العرابية، مثل مصر وسوريا والعراق  والجزائر  وتونس، والسودان، وقد شكلت عائقاً كبيراً أمام عملية التحول الديمقراطي فيها على مدار الخمسين سنة الماضية. ولكن هذه الظاهرة لم تأت من فراغ، بل هي وليدة الظروف الموضوعية والثقافة العربية- الإسلامية التي تمتد جذورها إلى البداوة في صحراء الجزيرة العربية. والبداوة، كما وصفها المؤرخ البريطاني المعروف، أرنولد توينبي، بأنها "حضارة متجمدة " أي في سكون وركود، عصية على التطور والتغيير. ولكن رغم هذه المعيقات، فإن الشعوب العربية ليست بمعزل عما يجري في العالم المتحضر، فهي في عملية الأخذ والعطاء، تؤثر وتتأثر بالحضارة الإنسانية التي ساهمت في بنائها بقسط وافر. ولكن الثقافة العربية الراهنة هي مزيج من البداوة والحضارة الحديثة وبنسب مختلفة، ونحن مازلنا في مرحلة ترجيح كفة البداوة على الحضارة.

ومن أهم سمات الثقافة البدوية، العلاقة الأبوية المتمثلة بسلطة الأب المطلقة في الأسرة، وحقه المطلق في التحكم بأفراد أسرته وحتى في قتلهم إذا شاء، مروراً بسلطة شيخ القبيلة في قبيلته، وصولاً إلى رئيس الدولة في سلطته المطلقة في حكم الشعب. وكما تنتقل هذه السلطة وراثياً من شيخ القبيلة إلى أبنائه، كذلك الأمر في انتقال سلطة رئيس الدولة، بغض النظر عن كونه رئيساً أو ملكاً، فالدولة العربية هي امتداد للمشيخة القبلية. 

ونتيجة لتعرض معظم البلدان العربية للاحتلال الاستعماري من قبل الدول الغربية المتحضرة، منذ حملة نابليون لمصر عام 1798، وما تبعها من الاستعمار الغربي لبلدان شمال أفريقيا، والهلال الخصيب والخليج فيما بعد، حصل احتكاك بين الشعوب العربية المتخلفة والشعوب الغربية المتقدمة في الحضارة الحديثة. ومن ثمار هذا الاحتكاك، نقل الحضارة الغربية إلى الشعوب العربية. يقول آدم سميث: "نتائج غير مقصودة لأعمال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمعات البشرية".

لذلك فإني أعتقد جازماً أن الاستعمار الغربي للبلدان العربية في مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، كان ضرورياً، وخطوة مهمة في حركة التاريخ وفي الاتجاه الصحيح، ولصالح الشعوب المستعمَرة، وخاصة في مجال نقل الحداثة وإيقاظ هذه الشعوب من سباتها العميق الذي دام أكثر من أربعة قرون، وذلك وفق مقولة (رب ضارة نافعة). وهذا ما أكده المفكر المصري الكبير، الراحل سلامه موسى، بقوله أن الاستعمار يجلب معه ترياقه، أي نقل الحضارة والحداثة إلى الشعوب المتخلفة، فتنهض هذه الشعوب من غفوتها، وتبدأ نضالها ضد الاستعمار نفسه من أجل التحرر والاستقلال. فالنهضة العربية الحديثة هي من "النتائج غير المقصودة" من الاستعمار الغربي.

ومن طبيعة الشعوب المستَعمَرة أنها ترفض حكم الأجنبي، لذلك حصل نضال عسير لمقاومة الاستعمار. وهذا النضال تطلَّبَ تشكيل تنظيمات سياسية مع أجنحة عسكرية، تحمل فكر المقاومة وتروِّج لها، كما تتبنى الكفاح المسلح من أجل التحرير. واستغرقت حركات التحرر من الاستعمار سنوات طويلة من النضال الدامي العسير، مصحوبة بثقافة تمجيد النضال والمناضلين والتحريض ضد الأجنبي بما فيه حضارته وديمقراطيته، إلى أن تحقق النصر المؤزر. ولما تحقق الاستقلال، تحولت هذه الجبهات التحررية إلى أحزاب حاكمة اتخذت من تاريخها النضالي ذريعة لاحتكار السلطة، وإلغاء المنافسة الحرة، ومناهضة التعددية، واضطهاد وإقصاء أحزاب المعارضة، وبالتالي عرقلة الديمقراطية، والاستحواذ على مؤسسات المجتمع المدني. وهذا ما حصل في الجزائر بعد التحرير من الاحتلال الفرنسي، حيث استحوذت جبهة التحرير الجزائرية على السلطة، وقننت أنها الحزب الوحيد الذي يحق له حكم البلاد. ونفس الشيء حصل في تونس.

ونتيجة للنهضة الحديثة، والتحضر الجزئي النسبي في البلاد العربية بعد الاستقلال، حصل تفكك في بنية النظام القبلي ليحل محله التنظيم السياسي الحزبي والعسكري، وبالتالي بناء الدولة الوطنية. ولكن اختفاء القبيلة لا يعني اختفاء قيمها ومفاهيمها الاجتماعية والسياسية، خاصة فيما يتعلق بالسلطة الأبوية، بل انتقلت هذه القيم والمفاهيم في العلاقة من شيخ القبيلة إلى رئيس الحزب وقائد الجيش ورئيس الدولة، لأن تغيير الثقافات والعادات والتقاليد يستغرق وقتاً أطول مما يستغرقه تغيير البنية المادية الاجتماعية لأي شعب.

أما في سوريا والعراق، فقد ظهرت أحزاب قومية ثورية، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، إضافة إلى ولادة تنظيمات عسكرية في الجيش أطلقت على نفسها اسم (تنظيمات الضباط الأحرار) في هذين البلدين وفي مصر أيضاً، علماً بعدم وجود أي دور لهذه التنظيمات (الحزبية والعسكرية) في النضال ضد الاستعمار وتأسيس دولها الوطنية المستقلة، بل اعتمدت هذه التنظيمات على التقليل من شأن الدول الوطنية المستقلة في البلاد العربية، ووصفتها بأنها دول "قطرية" ومن صنع الاستعمار، واتهمت حكوماتها، بأنها صنيعة الدول الاستعمارية وعميلة لها. ورفعت هذه الأهذه الأحزاب شعارات براقة وتبنت أهدافاً قومية تجذب لها عواطف الجماهير العربية آنذاك، مثل، (الوحدة والحرية والاشتراكية)، وعملت على أبلسة الحكومات الوطنية ذات العلاقة مع الغرب بعد مرحلة الاستعمار، وتشويه صورتها وسمعتها، لتبرير ضربها ومن ثم إزاحتها عن السلطة. وهذا ما حصل في مصر والعراق وسوريا، والسودان، حيث دبرت هذه التنظيمات انقلابات عسكرية، واستحوذت على السلطة وكونت لنفسها أحزاباً أدعت أنها أحزاب الأغلبية، وبأنها وحدها الجديرة بحكم البلاد والعباد. ولكن الملاحظ أن الأحزاب القومية الوحدوية طبقت عملياً العكس من شعاراتها المعلنة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وهكذا صارت هذه الأحزاب عقبة كأداء أمام الديمقراطية، متمسكة بالسلطة بأي ثمن، خاصة وقد اتخذت من القضية الفلسطينية ذريعة لاحتكارها للسلطة، ورفعت شعارات تضليلية مثل: (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) و(كل شيء من أجل المعركة) وغيرهما من الشعارات، لتبرير استمرارها في السلطة واضطهادها للأحزاب الديمقراطية المنافسة لها وللمثقفين الأحرار.

وفي النهاية، فقد خلقت هذه الأحزاب "التاريخية" المستبدة وضعاً خطيراً من شأنه عرقلة الديمقراطية، والتقدم الاجتماعي والتنمية البشرية والاقتصادية، من الصعوبة الخروج منه. فمن جهة، ترفض الحكومات المستبدة تدريب وتربية شعوبها على الديمقراطية وقيمها وتقاليدها واحترام نتائجها، ومن الجهة الأخرى، فإن الشعوب التي لم تمارس الديمقراطية من الصعب عليها أن تنجب قادة ديمقراطيين. ولذلك فالعرب يدورون في حلقة مفرغة، ويواجهون محنة قاتلة.

ونظراً لما يعتقده قادة هذه الأحزاب بأن أحزابهم "تاريخية" وهم قادة تاريخيين، لذلك يرون أنفسهم، ومن بعدهم أبناءهم، أولى بحكم البلاد من غيرهم، رغم تغيير الظروف وحصول مستجدات تتطلب ذهنيات جديدة، ودماء شابة، وبرامج سياسية جديدة تستجيب لمتطلبات العصر وتلبي احتياجات الشعب. لذلك يصرون على إيقاف عجلة التاريخ من الدوران في محاولة يائسة منهم لوقف التغيير، ولكن إلى متى؟؟!
 
ولكل ما تقدم، يرىِ المتشائمون بأن لا أمل في نجاح الديمقراطية في البلاد العربية، وأن شعوب هذه البلدان مازالت غير مؤهلة للنظام الديمقراطي. وهذا في رأيي خطأ جسيم، لأن التاريخ يؤكد لنا أن جميع الشعوب التي تبنت الديمقراطية لم تكن ظروفها في أول الأمر ملائمة للديمقراطية، فولادة الديمقراطية دائماً كانت عسيرة وعبر نضال طويل وفي ظروف قاهرة. حقيقة أخرى جديرة بالذكر، وهي أن الديمقراطية في أي شعب لا تولد متكاملة، بل تبدأ بحقوق بسيطة، ثم تنمو مع تنامي وعي الجماهير ونضالها للمزيد في الحقوق. فالديمقراطية، عملية تراكمية تواجه مقاومة وتراجعات، ثم تنمو تدريجياً، إلى أن يصلب عودها، ويتعود عليها الشعب وتصبح جزءً مؤثراً في ثقافته ويقبل بها ويحترم نتائجها، إذ هكذا بدأت في البلدان الغربية الديمقراطية العريقة.
وكما تفيد الحكمة الصينية: رحلة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى.

* كتب هذا المقال استجابة لدعوة كريمة من هيئة تحرير مجلة (الديمقراطية) الغراء، التي تصدرها مؤسسة الأهرام القاهرية، للمساهمة في ملف العدد حول (دور حزب "الأغلبية" في إعاقة الديمقراطية في العالم العربي.) وقد نشر المقال في المجلة في عددها 36 لشهر أكتوبر 2009.