بقلم: د. درية شرف الدين
فى زيارة لى إلى ماليزيا منذ حوالى سنتين اصطحبتنى المرافقة الماليزية المسلمة المحجبة إلى أحد المراكز التجارية الكبرى فى العاصمة كوالا لامبور،
وأشارت إلى أنه الأكبر ربما فى آسيا كلها، وعلى الرغم من اتساعه وطوابقه المتعددة فقد اكتست معظم أماكنه ومحاله وطرقاته باللون الأحمر وبكثير من المعلقات الغريبة ذات الدلالة والطابع الصينى، سألتها؟ قالت : نحن نقترب من أحد الأعياد البوذية وهى الديانة التى يدين بها حوالى ٢٥% من سكان ماليزيا من الماليزيين ذوى الأصول الصينية ونحن نشاركهم احتفالاتهم كما أنهم يشاركوننا احتفالاتنا الإسلامية، فنزور ونهنئ بعضنا البعض، ونبتهج معهم ويبتهجون معنا.
وأضافت المرافقة الماليزية المسلمة المحجبة: معنا أيضاً ماليزيون من أصل هندى وبهم هندوس، وسيخ، ولهم أعيادهم أيضاً ومناسباتهم الدينية التى يحتفلون بها، وتتزين أرجاء العاصمة ومحالها التجارية على مدار السنة بالزينات المختلفة لأصحاب الديانات المتعددة بماليزيا.
كان المشهد جميلاً ومبهجاً وذا دلالة، شعب واحد وديانات مختلفة ووئام وسلام، فقد كان من أحد شروط استقلال ماليزيا منح الجنسية الماليزية لسكانها الأصليين من الملاويين المسلمين وعددهم يقرب من ٦٥% من عدد السكان، ولمن استوطنوها وشاركوا فى مسيرة كفاحها الوطنى ونشاطها الاقتصادى من الصينيين وهم ربع عدد السكان تقريباً، ومن الهنود وعددهم يقرب من ١٠% من عدد السكان، أصبح الكل ماليزيين، انصهرت الأصول فى ماليزيا واحدة، وإن احتفظ كل منهم بمكوناته الثقافية والدينية.
ولأنهم ليسوا شعباً من الملائكة، فإن تلك الصيغة لم تعجب الكثيرين بل رفع كل منهم لواء عرقه وثقافته ودينه، وشهدت ماليزيا توترات كثيرة ومصادمات وصراعات واجهتها الحكومة بمنتهى الشدة حتى لا ينفرط عقد الدولة، كانت الأحوال تهدأ ثم يعلو صوت التعصب من جديد وتقع المصادمات، ومن جديد تواجهها الحكومة بالحزم والقوة حتى هدأ الجميع وآمنوا بصيغة التعايش السلمى، لكن الشدة لم تكن هى العامل الأول والأخير،
بل تلك الصيغة التى تبناها مهـاتير محمـد، رئيس الـوزراء الماليـزى، إبان توليه بناء مسؤولية الدولة لمدة تعـدت العشرين سنة، حتى اختار بنفسه التقاعد، صيغة العمل والإنتاج والتقدم والازدهار الاقتصادى وقبل كل شىء ومن أجله التعليم، التعليم الحقيقى الذى يبنى الإنسان وينميه ويفتح مداركه، ومع التعليم والعمل والإنتاج والازدهار لم يعد أمام الماليزيين رجالاً ونساءً وقت يضيعونه فى التنابذ والخصام والتعصب والصدام، ألهتهم الدولة بتقدم الفرد والمجتمع، بالعلم والغنى والوفرة فتعايشوا وتحابوا وآمنوا أن الفرقة ضعف وأن المحبة قوة.
ما الذى جعلنى أحكى هذه الحكاية الآن؟ أحكيها أولاً وأنا أختزن ملامح شقاق وتنافر وصدام بدأت- بأيد خبيثة- تنخر بين عنصرى الأمة فى مصر من المسلمين والأقباط، وكلنا نعرف ملامحها وتفاصيلها، وليس من الذكاء وبعد النظر تجاهلها أو إهمالها.
وأحكيها ثانياً وأنا ألمح فى هذه الأيام التى تواكب عيد الميلاد المجيد عند المسيحيين بمصر الذين يتبعون الكنيسة الشرقية أو الغربية مع فارق الأيام بينهما، ألمح فتاوى هى أقرب إلى طلقات الرصاص والمدافع فى نسيج وطن تكفيه مشاكله حتى يكاد لا يحتمل جديداً، نحاول أن نفرح قليلاً ونشارك أخوة لنا مصريين مثلنا فى أعيادهم فيخرج علينا من يتهمنا بالكفر والإلحاد وتنازل الأمة عن شخصيتها الإسلامية، شجرة عيد الميلاد أصبحت فى نظر أصحاب الفتاوى تؤذى مشاعر المسلمين، وبابانويل بدعة وهراء، ولا يجوز حتى للمسلمين المقيمين فى الخارج فى أوروبا وأمريكا أن يشاركوا فى احتفالات المسيحيين.
ففى ذلك تكثير لعددهم ومعاونة لهم على الإثم، ومنهم من قال «ولا يجوز قبول هداياهم لنا فى أعيادنا أو حتى تهنئتهم»، دعوة جامعة مانعة للخصام والشقاق والتعصب والكراهية وكالعادة تأتى إلينا أولاً من الخارج من دول جوار لا تعرف التعدد الدينى فى شعوبها، لا مسيحيون فيها، ويتعارك مسلموها مع مسلميها فى شيع وطوائف كأمر عادى ويومى، ولم يجربوا معنى المشاركة والمواطنة مثلنا منذ آلاف السنين.
فتاوى وآراء تثير شقاقاً تنشره المنتديات والفضائيات ويدعمه تخاذل الإعلام الرسمى الذى أهمل دوره فى الإرشاد لصحيح الدين، وفى شجاعة وسرعة المواجهة للفتاوى المغلوطة، ويرسخه التعليم القاصر والبطالة والفراغ واليأس وتنامى الفقر.
اللهم احم هذا الوطن بفضلك وكرمك، وبارك فينا وفى إخوتنا من المسيحيين.
dorria_sharaf@yahoo.com
نقلا عن المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=11962&I=306