يوسف سيدهم
بقلم: يوسف سيدهم
كنت أنوي اختتام العام بالكتابة عن كشف حساب عام يمضي متطلعات عام جديد يحل علينا، لكن شاءت الظروف أن تأتي في نهاية العام زيارة مهمة للرئيس حسني مبارك إلي دار القضاء العالي معقل القضاء المصري الشامخ ليحضر الاحتفال باليوبيل الفضي لعودة مجلس القضاء الأعلي، حيث تحدث الرئيس عن قضاء مصر حصن العدالة والدستور وقضاته موضع فخر وإعزاز المصريين ورمز شامخ لسيادة القانون وهيبة القضاء.
هذه الكلمات المضيئة بالقطع ترسخ أهمية ومكانة السلطة القضائية وموقعها السامي بين السلطات في المجتمع وتؤكد أنها أداة تحقيق العدل وضمان الحقوق لجميع المواطنين دون فرز أو تفرقة...
هذا ما يلمسه الكثير من المصريين الذين يلجأون إلي القضاء بحثاً عن حقوق مهدرة أو ضائعة أو مغتصبة ويحصلون علي أحكام عادلة تعيد لهم حقوقهم... لكن الواقع المر يشهد أن تلك الأحكام تعيد لهم حقوقهم علي الورق فقط، أي تبقي محصورة في إطار منطوق الأحكام ويفشل أصحابها في تنفيذها ويقفون مقهورين يتساءلون عن جدوي الأحكام وعن مغزي العدالة المشلولة التي لا تترجم إلي واقع معاش.
ملف الأمور المسكوت عنها يزخر بأمثلة مؤلمة لصراع الحق مع الباطل ومعاناة أصحاب الحق في سبيل استعادة حقوقهم في ساحات القضاء حتي إذا ما حصلوا في النهاية علي أحكام ترسخ حقوقهم تبدأ معاناتهم مع تنفيذ تلك الأحكام، ويكونون في البداية واثقين من قوة الأحكام مطمئنين إلي ضرورة استعادتهم لحقوقهم، لكن مع توالي الشهور والسنين وتعقد الإجراءات وغياب الحسم والحزم من جانب أجهزة الدولة المسئولة عن تنفيذ الأحكام تتبخر العدالة وتتآكل قوة الأحكام وتتوه الحقوق وتنهار ثقة أصحابها في السلطة القضائية التي أصدرت الأحكام واعتبرت أن دورها انتهي عند ذلك وتركتهم وحدهم يواجهون الفساد ويفشلون في التنفيذ.
هل يعقل أن قضية ينظرها القضاء عام 1987 يصدر فيها حكم محكمة الاستئناف عام 1990 شمولاً بالنفاذ ثم يفشل صاحب الحق في تنفيذ الحكم حتي يومنا هذا بعد مضي نحو عشرين عاماً؟!!...هذا ما حدث بالفعل والتفاصيل تستعصي علي التصديق لأنه في غيبة آليات رقابة تنفيذ الأحكام يتم الاعتداء علي قدسية الأحكام وتفريغها من مضمونها.
العقار رقم 3 شارع منيل الروضة بمصر القديمة صدر له قرار من الحي في 19/1/1987 تضمن هدمه بالكامل حتي سطح الأرض بعد إخلائه تماما من شاغليه حماية لهم لخطورة حالته.وعلي أثر ذلك قام السكان بالطعن علي القرار مطالبين بتنكيس العقار لكن جاء تقرير مكتب الخبراء بوزارة العدل ليثبت أن التنكيس والإصلاح لا يجديان في إنقاذ العقار وأنه يستلزم الهدم لخطورته، ومن ثم أصدرت دائرة الطعون حكمها في 22/2/1990 برفض الطعن علي قرار الهدم وتأييد القرار المطعون عليه.
استأنف السكان هذا الحكم وتم نظر الاستئناف أمام الدائرة 42مدني استئناف القاهرة التي أصدرت حكمها في 5/12/1990 رفض الموضوع وتأييد الحكم المستأنف، ومن ثم صار قرار الهدم باتاً ونهائياً، لكن بالرغم من ذلك تقدم السكان باستشكال في تنفيذ الحكم في عام 1993 ولاحظوا أنه قد مضت ثلاث سنوات بين صدور الحكم النهائي عام 1990 بين الاستشكال في تنفيذه عام 1993 حيث لم يكن قد تم تنفيذه بعد!!-وقد تم الحكم في الاستشكال أمام الدائرة الثالثة مستعجل القاهرة بتاريخ 27/4/1994 رفض الاستشكال والاستمرار في التنفيذ.
في غضون ذلك كان حي مصر القديمة قد أصدر في 6/5/1993 خطاباً موجها إلي قسم مصر القديمة لسرعة تنفيذ الحكم النهائي لوجود خطورة داهمة علي أرواح شاغلي العقار الأمر الذي يتطلب إخلاءه منهم فوراً، وتم علي إثر ذلك إخلاء العقار، لكن قبل بدء أعمال الهدم فوجئ مالكه باحتلاله بالقوة بواسطة آخرين قاموا باغتصابه ومنع هدمه والاستيلاء عليه!!!...هرع الملاك يستنجدون بالسلطات وهم علي ثقة أن الحق معهم بموجب المستندات والأحكام التي بحوزتهم وأن السلطات التنفيذية جميعها علي صلة بتفاصيل الأمر وسوف تتدخل لنصرتهم أمام المغتصبين، لكن ما أذهلهم أن تلك السلطات نفسها تعاملت مع الوضع علي أنه نزاع علي الملكية وأدخلتهم في نفق مظلم لا نهاية له لحسم ذلك النزاع ولم تحاول إقصاء المغتصبين...ومرت الشهور والسنون حتي تحرك حي مصر القديمة في النهاية وقام بتقنين-أو بتدعيم- قراره بهدم العقار بأن أصدر رخصة هدم له برقم 24 لسنة 2007 لاحظوا أيضاً أن ذلك تم بعد مضي 14 سنة علي حكم القضاء وبعد مضي 14سنة أيضاً علي احتلاله واغتصابه بواسطة الأشقياء وواضعي اليد!!!-وتم إرسال رخصة الهدم إلي قسم مصر القديمة الذي لم يتحرك لتأمين عملية الهدم مدعياً أنه ليس جهة اختصاص!!! ثم جاءت الطامة الكبري.
فوجئ الملاك بمهندسة في حي مصر القديمة تكتب تقريراً في عام 2008 يفيد بأن العقار لا ينبغي هدمه وأنه يمكن تنكيسه -وهكذا قامت المهندسة بإيقاف رخصة الهدم ضاربة بالأحكام القضائية وتقرير خبراء وزارة العدل عرض الحائط...وهنا شعر الملاك أن حقهم أصبح في مهب الريح وأن هناك قوي فساد تمرح في حرية تامة وتتآمر علي الاستيلاء علي العقار ملكهم، كما شعروا أن القضاء الذي حكم لهم بالعدل في يوم من الأيام لايدري شيئاً عما يحدث إزاء الأحكام التي أصدرها ولا يكترث بتفعيل الأحكام أو بترسيخ العدالة أو بإعادة الحقوق لأصحابها أكثر من كتابتها علي الورق!!
هذا الموقع المختل هو التحدي الحقيقي أمام السلطة القضائية، فنزاهة القضاء لا شك فيها وشموخ القضاء واستقلاله من ركائز العدالة في مصر، لكن انفصال القضاء عن مراقبة تنفيذ أحكامه وتركها تتآكل وتتهرأ حتي تتبخر بفعل الزمن هو طعنة قاتلة في جسد العدالة... وتلك قضية خطيرة يجب أن نحملها معنا ولا نتركها ونحن ندخل عاماً جديداً.
http://www.copts-united.com/article.php?A=11886&I=304