القس. رفعت فكري
بقلم: القس رفعت فكري
بين الحين والآخر يثور الجدل في عالمنا العربي حول موضوع زراعة الأعضاء , وعلى الرغم من أن موضوع زراعة الأعضاء يعد واحداً من أهم الإنجازات العظيمة في المجال الطبي التي يفخر بها الطب بل والبشرية جمعاء , إلا أن هذا الموضوع يحمل في طياته الكثير من المشكلات المهنية والأخلاقية والقانونية والنفسية , وهذه المشكلات لا تثار فقط بين الأطباء ولكنها تمتد أيضاً إلى المجتمع , إلى المشرعين والقانونيين , إلى رجال الدين والفكر وعلماء النفس, وإلى علماء الأخلاق والفلسفة , بل تمتد هذه المشكلات أيضاً إلى الإنسان العادي الذي تمسه هذه الأمور بطريق مباشرة أو غير مباشرة.
ومن أبرز القضايا الأخلاقية إثارة للجدل في موضوع زراعة الأعضاء قضية إعلان وفاة الإنسان وتحديد علامات الوفاة , وهناك قضية أخرى مثارة على الصعيد العالمي وهي : هل يحق للطبيب إنهاء حياة مريض في غاية الألم كي يريحه؟ وهل يحق للطبيب إنهاء حياة شخص في غيبوبة مستمرة غير مستجيبة للعلاج , بالإضافة إلى كونها مكلفة وقد تكون فوق طاقة أهل المريض المادية ؟ وهنا يثور سؤال البعض : هل ننظر إلى مريض الغيبوبة باعتباره غير منتج وأن ثمة حاجة لأعضائه لزرعها في إنسان آخر ذي قيمة في المجتمع ؟ هل للحياة في ذاتها قيمة أم أن نوعية الحياة هي التي تعطيها القيمة؟!!
يضع المتخصصون تعريفاً للوفاة فيقولون إنها هي التوقف المستمر لكل الوظائف الحيوية للجسم كالدورة الدموية والتنفس والجهاز العصبي المركزي, وبعد هذه الوفاة الإكلينيكية تستمر الأنسجة حية لمدة قد تصل إلى 4 ساعات , وتسمى هذه الفترة فترة حياة الجزيئات في الأنسجة وبعد هذه الفترة تموت الأنسجة.
وخلال فترة حياة الجزيئات في الأنسجة تتم عمليات نقل الأعضاء , وهنا لا يجوز استمرار عملية الإعاشة الصناعية بواسطة أجهزة تبقي التنفس والدورة الدموية مستمرين بعد موت خلايا المخ حين لايكون هناك أمل إطلاقاً في الاستفاقة من الغيبوبة ومن هنا أصبح أمراً مقبولا أن نعرف الوفاة بأنها موت خلايا المخ .ويحدد موت خلايا المخ بعدم ظهور أي جهد كهربي في رسم المخ بالإضافة إلى اتساع حدقة العين وعدم استجابتها للضوء وتوقف التنفس وعدم الاستجابة للاختبار الحراري بصب ماء بارد ودافئ في كلتا الأذنين.
وقد أعلن في أونتاريو بكندا سنة 1972 قانون زراعة الأعضاء الإنسانية ومن مواده أن إعلان وفاة المتبرع لابد أن يقوم به طبيبان كلاهما من خارج فريق زرع الأعضاء, ويفضل أن يكون أحدهما طبيب أعصاب , وفي حالة اختلافهما في الرأي يؤخذ في الاعتبار مصلحة المتبرع لا المتلقي .
والدين الصحيح يتفق والعلم الصحيح , وقضية نقل الأعضاء هي معجزة إبداع بشري , والعقل البشري إنما هو من صنع الله ويذكر سفر التكوين في الأصحاح الأول أن الله خلق الإنسان على صورته وهناك نظريات تقول إن العقل البشري هو صورة الله في الإنسان , وهو أعظم قدرة معجزية على وجه الأرض , وهو اليد الإلهية التي يمكن أن تستخدم في خدمة الإنسان إذا ما أُحسن استخدامها , وترتكز المسيحية على قيم ثابتة وراسخة كالحب والبذل والعطاء والتفاني , ولنا في صليب السيد المسيح أروع صور البذل والعطاء والفداء, والإنسان في المفهوم المسيحي ليس ملكاً لذاته ولكنه ملك لله وما دور الإنسان إلا أنه وكيل على ما يمتلكه الله , وفي المفهوم المسيحي أيضاً أن جميع البشر إخوة, والإنسان جزء أصيل من كيان مجتمعي, ولذلك فعلى كل إنسان مسئولية تجاه المجتمع وتجاه أخوته في الإنسانية وأيضاً تجاه ما يمتلك , فكل جزء من الملكية المتاحة للإنسان تنتمي إلى الثروة البشرية التي سمح الله أن تكون وليدة الصداقات التي هي أثمن الثروات , أثمن من المال والعقار , فالعلاقات الإنسانية تعطي ثراء رائعاً للإنسان وسعادة في حياته بالإضافة إلى أنها تحمله جزءاً من المسئولية الإنسانية , فالثروة البشرية المتاحة للإنسان من خلال الصداقة والجيرة تعد من ضمن الملكة التي يتحمل مسئوليتها كوكيل عن الله .
إن قيمة الإنسان ترتبط بالخالق , ومعنى ذلك أن قيمة الإنسان مستمدة من قيمة الخالق صانعه ولذا فهي قيمة عظيمة القدر , والمشاركة الإنسانية بكل صورها هي عنصر من عناصر السعادة وتنمية الإنسان والمجتمع , وهي عنصر أصيل يتعارض كلية مع الأنانية والفردية , والمشاركة الإنسانية هي تعبير عن إحساس الإنسان بالغير , فإذا رأينا أخاً يعطي أخاه عضواً من جسمه فإننا نكون أمام صورة من أروع الصور الإنسانية , هي صورة البذل والعطاء , وأعظم عطاء من حيث القيمة هو عطاء الذات , ولو أحكمت قيمة العطاء بقيم أخلاقية لكانت قيمة العطاء أروع قيمة بين البشر , فهي قيمة الحب والإنسانية , القيمة التي تنقذ الغير في وقت المحنة, هذا فضلاً عن أن نقل عضو من جسم الإنسان لا يشكل إهانة لجسد المعطي ولا يتعارض مع إرادة الله , وفي حالة نقل عضو من جسد بعد وفاته فإن معنى ذلك أني أنقذ إنساناً حياً دون أن أسبب ضرراً للمتبرع لأنه ميت , ففي إطار المسئولية فإن نقل عضو من جسم هو ملك لله إلى جسم آخر هو ملك لله يعد حقاً شرعياً لابد أن ندعمه , كما أن تلف عضو من أعضاء جسم الإنسان إنما ينجم عن أسباب أرضية أيما كان هذا التلف , وحين أعالج هذا التلف فإنني بهذا لا أتحدى خطة الله , لأن إرادة الله للإنسان هي إرادة صالحة , ولذا فإن تغيير عضو تالف بآخر صحيح لا يتعارض مع إرادة الله أو خطته.
وفي القيامة فإن أجسادنا ستتغير وسنأخذ أجساداً أخرى تختلف عن أجسادنا الأرضية التي ستنتهي في القبر , ففي القيامة لن نأكل ولن نشرب ولن نتزوج ولن نتناسل ,لذا لن تكون أجسادنا بالطريقة التي عهدناها بل سنعيش في وضع يختلف كل الاختلاف عن أي كيان أرضي نعرفه حالياً ولذا فإنه لا غبار مطلقاً عندما يعطي الإنسان عضواً سواء كان هذا الإنسان حياً أو ميتاً لإنسان آخر.
عندما نعاون إنساناً على استرداد صحته فإننا بذلك نحقق مشيئة الله , والعطاء لقريب أو غريب أمر رائع , والعطاء لخصم هو قمة العطاء , والعطاء الحقيقي هو الذي لا يفكر فه الإنسان في ديانة المتلقي أو معتقداته أو لونه أو جنسه أو جنسيته , والقيم الحقيقية التي تحكم العطاء هي قيم أخلاقية : عطاء دون تعيير, ودون استفزاز , عطاء بسخاء وحب , وهذا ما علمنا إياه المعلم الأعظم يسوع المسيح .
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@hotmail.com
http://www.copts-united.com/article.php?A=11669&I=300