نظرية في تشريح حالة خوف معلن‏!‏

بقلم : نبيل عبد الفتاح

هذا زمن الخوف الذي يسكن الروح‏,‏ والذي يتمدد في خلايا اللاوعي شبه الجمعي‏,‏ والفردي‏,‏ وفي وقائع الحياة اليومية المادية والرمزية والتي تبدو في غالبها الأعم حاملة لأطيافه‏!‏ هل نكتب عن الخوف لإثارته‏,‏ واعادة انتاجه أم للوعي بدخائله‏,‏ ومقاومته والانتصار عليه في معارك الحياة؟ هل تشريح الخوف ومصادرة‏,‏ يضفي علي الذات بعض من الشجاعة في مواجهته؟ هل الكتابة عنه محاولة للتعايش معه‏,‏ ومسايرته والتعود عليه‏,‏ ونزع أنيابه الأسطورة المرئية أو المستورة وراء ظواهره‏,‏ وعوارضه؟ ربما‏!‏ أم نكتب عنه لكي تنتصر الحياة والشجاعة علي بعض أو غالب مصادر الخوف وأشباحه؟ أم نكتب لكي تنتصر الارادة الفردية الحرة والوعي البصير والمسئول علي العجز والاستبداد‏.‏
هلي صيحة‏(‏ أنا أخاف إذن أنا موجود‏)‏ هي البديل ما بعد الحداثي للمقولة الديكارتية ـ الكوجيتو ـ أنا أفكر إذن أنا موجود التي افتتحت الحداثة وأزمنتها الممتدة؟ يبدو أنها البديل المعاصر والخلاق‏,‏ أنا أخاف‏,‏ أنا أشعر‏,‏ أنا انتفض كينونة وحضورا وربما فعلا بناء في مواجهة هذا الوحش الأسطوري الغامض المسمي بالخوف ومنازلته هي ذروة الشجاعة الانسانية‏,‏ نعم نعيش في زمن الخوف الذي يأكل الروح وفق اسم فيلم فاسبندر زائع الصيت لدي النقاد والمثقفين‏.‏
خوف يشمل غالبية الشرائح والفئات الاجتماعية بدءا من قمة الهرم لدي السراة المترفين الي قاعدته العريضة المعسورة وما وراء تخوم خط الفقر‏!‏ خوف يشمل غالب الأميين ويمتد الي غالب المتعلمين وأنصافهم‏,‏ ومعهم بعض سادة السلطة المعرفية الكبار ـ علي قلتهم ـ الي بعض المثقفين وغالب أنصافهم وأشباههم‏!‏ الخوف يسري بين أعصاب غالب رجال الأعمال الي المستورين‏,‏ ورقيقي الحال والفقراء والمعدمين‏!‏

الغالبية في بلادنا تعيش حالة الخوف والقلق والرهبة من صدمات الحاضر الآني‏,‏ الي غيوم وغموض المستقبل الآتي‏!‏
خوف بعضهم ورعبهم يبدو من نزعة مطاردة بعض القصائد‏,‏ والروايات والمسرحيات‏,‏ والسرديات‏,‏ واللوحات والقطع النحتية‏,‏ الخوف والهلع يبدو من بعض الغلاة وذوي الذائقات التقليدية من بعض نصوص الشجاعة والخوف لدي البعض الآخر من الخطاب الفلسفي والنقدي‏,‏ ومن المثقف النقدي ومن الهدامين العظام الذين يفككون ويحللون وينتقدون ويقوضون عوالم البداهات السطحية والمقولات الشائعة والأحكام الحاملة لقداسات وضعية‏!‏ الخوف والرعب ـ لدي بعضهم ـ من الإبداع والموهوبين‏!‏ الخوف من الأسئلة الجديدة والحرجة في كل مناحي الحياة والمعرفة والخبرات المجانية الشائعة‏,‏ الخوف من سلطة التكفير الديني الشائعة‏,‏ وخوف بعضهم من الطرد خارج اطار الكنيسة‏/‏ المذهب‏!‏ الخوف من الإصلاح والتغيير‏!‏ الخوف من سلطان القانون الوضعي الحديث والمعاصر‏.‏

الخوف علي الإيمان الوضعي الشكلاني والطقوسي الذي استقر في الوجدان الشعبي من الأسئلة والتأويلات الجديدة والأفكار المختلفة‏,‏ خوف بعض المؤمنين من الأديان والمذاهب والجماعات الصغري من الأغلبيات والجموع التي يحركها بعضهم من السياسيين ورجال الدين للاستعلاء علي الآخرين‏!‏ الخوف الذي يحاول بعضهم التعايش معه وتبديد بعض أشباحه وظلاله الكثيفة بالاستسلام والراحة والطمأنينة في حمي الأحكام الجاهزة والأسئلة المعلبة وسابقة التجهيز‏,‏ وفي الأمثولات والحكم الشعبية‏,‏ وخبرات ومعارف فارقت أسئلتها وتاريخها‏!‏ولم تعد تثير أية دهشة‏,‏ ولم تعد الاجابات القديمة صالحة حتي لإعادة تلاوتها وقراءتها مجددا‏!‏
من أين يأتي الخوف الذي يشل تفكيرنا ويعطل ارادتنا عن الفعل الخلاق؟ هل ينطلق ويهاجمنا من مصادر الخوف الكوني‏/‏ والتحولات الكبري التي تمس تفاصيل حياتنا ووجودنا وتصوراتنا ولغاتنا ومعرفتنا التي ألفناها واستهلكناها‏,‏ ولم تعد سوي حجب مظلمة لانري فيها الا مانهوي لا الواقع الكوني المتغير الذي غادرنا‏,‏ ولم نعد نمتلك الحد الأدني من الإدراك والوعي والحس السياسي بقوانينه ومتغيراته الخوف الذي يبدو في تراجع أدوارنا ورسالتنا التاريخية في الإقليم‏!‏

هل يأتينا الخوف من قلب النسيج النفسي والقلق الانساني؟ أم خوف ينطلق من الإقليم المضطرب وغموض مستقبله؟ يهاجمنا الخوف من كل هذه المصادر علي تعددها واختلافها‏.‏
الخوف حاضر في الطبيعة المتمردة والبيئة ونظامها المختل التوازن‏,‏ وردودها الكارثية والمدمرة والقاسية علي أفعال الاستغلال الانساني المفرط‏,‏ الخوف ينطلق من الأمراض العضال والفيضانات والزلازل‏,‏ والاحتباس الحراري والفقر والجوع‏..‏ إلخ‏,‏ الخوف الصاعد من قلب الإرهاب وعملياته ومن سياسات الإفقار لدول الجنوب‏,‏ ومن الاستبعادات الممنهجة للمعسورين من النظام الاجتماعي في الدول الأكثر والأقل تطورا في عالمنا‏,‏ كل هذه المصادر المستمرة والمتجددة للخوف ونحن لانزل أسري هيمنته وكآبته السوداء بلا مقاومة ضارية‏!‏
نعيش حالةالخوف من الارهاب‏,‏ ومن أشكال العنف الديني والرمزي‏,‏ ومن هيمنة الأغلبيات الدينية لا السياسية علي الحياة والأقليات‏:‏ الخوف من الإقصاءات السياسية الممنهجة للجماعات الصغري الدينية والمذهبية والطائفية‏,‏ ومن النفي داخل الطائفة‏/‏ المذهب‏,‏ والدين الأقلي‏,‏ الخوف الذي يدفع جماعات للهجرة والنفي داخل فضائها التاريخي الخاص‏!‏ الخوف الذي يطل من قلب ووراء الخطابات الدينية والسياسية الزاعقة‏!‏ الخوف من النقد الموجه لبعض أو غالب الآراء الدينية الوضعية الأخري داخل الديانة والمذهب‏!‏ الخوف الكامن فيما وراء السكينة والإحساس بقوة الأكثرية المرعوبة من الأسئلة ونقد أوهامها وأساطيرها الإنسانية الوضعية‏!‏ خوف الأقليات المعتصمة بأساطير تاريخية ورمزية وآراء وضعية أضفي الخوف عليها قداسة ما‏,‏ وباتت أشباح الخوف رابضة في عمليات إعادة إنتاجها‏,‏ وفي التماسك الهش حولها‏!‏

خوف يتغذي علي الخوف‏!‏ خوف الصفوات السياسية الحاكمة من تقلبات الزمن والإقليم وغدر وانقلابات السياسة والمصالح‏,‏ والتحالفات مع بعض الفاعلين الكبار عند قمة النظام الدولي المعولم‏,‏ ومن تحولات الإقليم‏,‏ وصدمة مقاديره ونهاياته غير السعيدة‏!‏ خوف عرب اليسر من عرب العسر‏.‏ الخوف الكامن في نمط من الاستعلاءات البدوقراطية النفطية علي عرب الماء والمدن والحواضر التاريخية‏,‏ حيث الثراء والعمق الحضاري والثقافي‏!‏ خوف عرب النفط من الانهيارات المالية كما حدث في إمارة دبي أخيرا‏!‏ الخوف المسيطر علي رعب أهالي الخليج وشبه الجزيرة العربية من التمدد الايراني والحوثيين وتقلبات البورصات‏,‏ وأسعار النفط ـ الهبة الجيولوجية التي أصبحت نقمة ووبالا علينا وعلي عرب العسر ـ‏,‏ والتغيرات المناخية والبيئية‏,‏ و‏...‏ و‏...‏ إلخ‏!‏ أنا خائف إذن أنا موجود صياغة تبدو لي إيجابية‏,‏ ومقولة كينونية‏,‏ ولكنها تحتاج إلي تكملة أنا خائف‏,‏ أنا أدرك خوفي‏,‏ أنا أتبني وأعرف المنطق والمناهج العلمية الطبيعية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة وما بعدها في مصادرها العديدة‏,‏ وكشوفها وتطوراتها‏,‏ يعني أيضا أنا أتدبر‏,‏ أنا أخطط‏,‏ أنا أدير حياتي‏,‏ أنا أفعل الف
عل الخلاق‏,‏ إذن أنا موجود‏,‏ إذن أنا طرف فاعل في المستقبل‏,‏ إذن أنا فاعل في حياة العالم المعولم‏,‏ وغير ذلك من أشكال النوم الساكن في المقولات القديمة والشائعة هو بمثابة كسل شبه جماعي‏,‏ وتمجيد للجهل النائم‏,‏ والجهل النشيط ـ وفق أحمد بهاء الدين ـ وجهالات تهيمن علي غالب الفضاءات المصرية في جميع مناحيها‏,‏ وتدفعنا إلي الوراء‏,‏ وإلي قتل المواهب واغتيال الأجنة المصرية الموهوبة في مهادها‏!‏

من أين يأتي الخوف الآن؟ من عديد المصادر منها تمثيلا لا حصرا من تخلفنا التاريخي المستمر‏,‏ والتطور المذهل في المعرفة والتقنيات والمعلومات والاتصالات والإدارة‏...‏ إلخ‏.‏ الخوف المسيطر الذي يبث إشعاعه في نسيج حياتنا وروحنا‏,‏ هو التحدي الكبير الذي يتعين أن نواجهه‏,‏ ونديره‏,‏ ونصارعه في داخلنا في روحنا‏,‏ وفي تنظيم حياتنا ومؤسساتنا وسياستنا‏,‏ وقراراتنا الكبري والصغري‏!‏ في سياسات الدولة‏,‏ وفي حياة المجتمع الذي أدمنت غالب شرائحه الاجتماعية‏,‏ ومعارضاته وأحزابه الحاكمة نقد الحكومات‏,‏ والدولة‏,‏ ونسينا نقد المجتمع والكشف عن اختلالاته في قلب أنساقه القيمية والسلوكية‏,‏ وفي أساطيره وأوهامه‏,‏ وفي قدرياته الوضعية التي يستسلم لها ويسكن فيها ويعيش بها‏,‏ لإبعاد مفهوم المسئولية عن قراراته وقناعاته وسلبياته وأوهامه التي يتعايش بها بحثا عن طمأنينة ما من الخوف من المسئولية عن فعله الإنساني اليومي ومخاتلاته ومراوغاته وأخطائه وآثامه علي اختلافها‏.‏

الخوف من المسئولية السياسية والإدارية والشخصية ـ ولا أقول الفردية إلا استثناء ـ يستدعي غالبا أقنعة القدريات الوضعية والحتميات والإرادات المستلبة والمستقيلة عن الفعل الإنساني المسئول‏!‏ هذا التحالف الوحشي لمن هم دون الحد الوسط في الكفاءة والمعرفة والوعي ـ المديوكرات ـ والحد الأدني للتافهين ـ المنيوكرات ـ الذين يطاردون ويقاتلون ويغتالون الكفاءات والمواهب وذوي القدرة علي قلتهم‏.‏ تحالف هؤلاء المحدودين يشكل الخطر الداهم الذي يأكل روح الصفوة الموهوبة والقادرة علي إدارة الأزمات ووقف التدهور في المؤسسات والخلل في السياسات وإصلاح الرؤي المثقوبة والهياكل المختلة‏,‏ والقادرين علي زراعة الآمال المستقبلية الممكنة في ثنايا حياتنا ومطاردة الأوهام الشائعة ومروجيها بالمعرفة والوعي البصير‏.‏
الخوف الذي يدفع بعضهم إلي مطاردة السرديات الإبداعية‏,‏ والرؤي النقدية والتحليلية والتفكيكية الخلاقة‏,‏ هو الخوف الذي يؤدي إلي إشاعة الكذب والنفاق شبه المعمم‏,‏ وهو الذي يدفع إلي هيمنة الخطابات السجالية العنيفة والمتفجرة بين الأديان والمذاهب والمدارس الفقهية واللاهوتية إزاء بعضها بعضا‏.‏ الخوف هو الذي يدفع إلي العنف والسجال الديني الوضعي‏,‏ حيث الإغارات الهجائية المتفجرة من بعضهم علي البعض الآخر‏.‏ خوف يتبدي من أصلاب شجاعة كاذبة ومرعوبة تبدو كقناع يخفي وراءه الخوف الذي يأكل الروح ويدمر جذور وقيم الخير والجمال والتسامح والمساواة والعدالة‏.‏
 
نقلا عن الاهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع