كمال غبريال
بقلم: كمال غبريال
تعتبر طبيعة العلاقة بين الماضي والحاضر أكثر إشكاليات منطقتنا استعصاء على الحل، الذي يتوافق مع حياة وحضارة العصر. . هي خلف تخوفنا بل ورعبنا من عصر العولمة. . فمن يخشون العولمة لا يذكرون تخوفات على حاضرهم كما يتصورونه، بقدر هواجسهم حول الخشية على ماضيهم، الذي أودعوه هويتهم، تلك الجوهرة الثمينة التي يخشون عليها من الضياع!!. . فنحن شعوب الشرق الأوسط الكبير قوم ماضويون. . نتخذ من أمواتنا قادة ونبراساً لنا، ونتخذ من أفكارهم دستوراً لحاضرنا، نحرص على تصديره غير منقوص ولا مزيد إلى المستقبل.
بالطبع لا تنفرد شعوبنا عن سائر شعوب العالم باهتمامها الفائق بالماضي، بل وتقديسه أيضاً. . لكن الفارق بين الشعوب المتخلفة والمتقدمة حضارياً، هو في كيفية النظر للماضي، وطبيعة علاقته بالحاضر. . فتقديس الأسلاف توجه إنساني بدأ مع فجر الوعي البشري، فقد تم عبادة من اعتُبِر الجد الأول للقبيلة، أو البطل المؤسس لها، والذي يشاع أنه قد دافع عنها دفاعاً مجيداً، فاستحق أن تنتسب الأجيال التالية له، وكانت هذه هي البوادر الأولى للأديان البدائية، والتي ظلت ملامحها باقية عبر توالي العصور، رغم إيمان البشرية بعد ذلك بأديان سماوية، يرجع الفضل فيها لوحي إلهي سماوي، ولا دور للإنسان فيه، سوى تلقي هذا الوحي، والإيمان الشخصي المباشر بما جاء به. . فما حدث للقطاع الأكبر من المؤمنين برسالة سماوية مباشرة من الخالق إلى المخلوق، ليس تغيير نهج الارتباط بالأجداد الذين كان يعتبرهم آلهة وأبطالاً، ليحل محله النهج والمفهوم الجديد للإيمان، بالعلاقة المباشرة مع خالق الكون، والذي يوجه رسالاته إلى خليقته عامة.
من المفترض والطبيعي أن تكون الرسالات الإلهية واضحة، بحيث يكون عامة الناس، الذين يوجه إليهم الخالق رسائله، قادرين على فهمها والأخذ بها. . لكن ما حدث نتيجة التحول من عبادة الأجداد إلى عبادة خالق الكون، أن اقتصر الأمر على تراجع الأجداد في الصورة الرسمية فقط إلى الدرجة الثانية، أو إلى ما وراء الكواليس، وظلوا فعلياً هم أصحاب الحظوة والمكانة السامية المقدسة. . حدث أيضاً أن لم يعد التقديس لجد واحد للقبيلة، أو لبطل واحد يُعْزَى إليه الفضل في مجد القبيلة وانتصاراتها التاريخية، وإنما تكاثر عدد الأجداد المقدسين من خلف الكواليس، وقد أُسندت إليهم مهمة تلقي وحي السماء، وتقديمه وتفسيره لقطعان الجماهير البسيطة، الغير مؤتمنة على تلقي واستيعاب الوحي السماوي بنفسها، سواء نتيجة لجهلها المفترض، أو نتيجة لأن الوكلاء - سواء القدامى أو الأحياء- هم وحدهم من يهبهم الخالق القدرة على الفهم والتفسير. . كما تم أيضاً نسبة بعض قدرات الخالق المعبود، لوكلائه القدامى والمعاصرين، ليحوزوا هكذا كلاً من الحكمة والمقدرة، لتكون لهم الجدارة ليلعبوا دور الآلهة التنفيذية، كما لو كان التوحيد مجرد واجهة، تخفي خلفها عملياً، استمرار عبادة العديد من الآلهة، ويبدو أن هذا وراء انتشار أولياء الله الصالحين والقديسين في كافة ربوع مصر، بدلاً من آلهة الأقاليم في العبادات المصرية القديمة.
هكذا ظل الماضي هو مناط التقديس، وبقي الحاضر والمستقبل رهينة له، في عملية التفاف حاذقة على محاولة الإنسان التسامي والاستقلال الأدبي، بالهروب بيومه من أسر الأمس. . كما ظلت سيادة البشر على البشر، خاصة وقد صار لوكلاء الإله من الأجداد، وكلاء من الدرجة الثانية من الأبناء في كل عصر، هم أيضاً وحدهم المؤتمنون على مفاهيم وكلاء الدرجة الأولى!!
يرجع هذا الوضع الذي ساد في جميع الشعوب تقريباً، ولم يختص به شعب واحد أو منطقة جغرافية واحدة، إلى حقيقة ميل الإنسان العادي إلى التجسيد، وعجزه عن استيعاب أو التفاعل مع التجريد، الذي لا يستسيغه سوى القلة من ذوي الملكات العقلية المتميزة، والذين عرفناهم بالفلاسفة. . أما عامة الناس الذين صاروا يؤمنون بإله متعال، فقد جنحوا لأن يكون تعاملهم مع شخصيات مجسدة، سواء مع الأجداد وسيرتهم، أو مع حاملي أمانة الرسالات الإلهية من المعاصرين، وقد أدى ذلك عموماً إلى توثيق الروابط بالماضي، باعتباره المرجعية المقدسة، التي دونها الضياع والضلال والكفر.
هذا الارتباط العميق بين الماضي والحاضر، والمتجذر في شخصية وسيكولوجية وثقافة الإنسان، لعب دوراً خطيراً على مدى العصور، في التحكم في مسيرة الإنسان، باتجاه مضاد لنزعة إنسانية أخرى، هي الرغبة والسعي الدائم للتغيير. . وبالطبع لم يكن هذا الارتباط شراً محضاً أو خيراً محضاً، فكما يحتاج الإنسان عموماً إلى التغيير، لمحاولة تحسين ظروف حياته، ولتحقيق المزيد من التأقلم مع الكون، فإنه يحتاج أيضاً إلى الاستقرار، الذي يوفر له استشعار الأمان، وأيضاً استجابة لميل طبيعي في الإنسان، يدفعه للبحث عن يقين يرتاح إليه، وهو ميل مضاد تماماً للميل للتغيير، والذي هو عميق أيضاً في طبيعة البشر.
كلا التوجهين المتضادين إذن، وهما الرغبة في الثبات ومحاكاة الماضي، والنزوع للتغيير المستمر، ينبعان من ميول أصيلة داخل النفس البشرية. . كلاهما أيضاً مطلوب من الناحية العملية للإنسان، فبدون عامل التقليد يعيش الإنسان كما في مهب عواصف ودوامات التغيير المستمر وغير المنضبط، وبغير التغيير تصاب حياة الإنسان بالجمود والتحجر، ويُحرم من إمكانيات يمكن أن تتوفر له، إذا ما حاول تطوير نفسه وحياته ونظرته للكون. . لهذا نجد لدى جميع الشعوب، بما فيها الأمم المتقدمة حضارياً ذات الاتجاهين، ممثلين في الأحزاب السياسية، كما في التيارات الشعبية. . نجد حزب المحافظين، ممثلاً لتيار يعطي أهمية أساسية للمحافظة على ماهو سائد، ومقاومة التغيير والتوجس منه، كما نجد حزب الحرية أو الديموقراطية وما شابه من تسميات، ممثلاً لتيار التغيير والانفلات من الماضي، وصولاً لمستقبل جد مختلف.
ما الفارق إذن بين الشعوب المتقدمة سريعة التطور، وبين الشعوب المتخلفة والجامدة، إذا كنا نقر أن الجميع يحوي التيارين، فلنقل الماضوي والمستقبلي، أو تيار الجمود وتيار التغيير؟
الفارق هو في معادلة الاتزان، والتي تختلف جذرياً بين الفئتين، فئة الجامدين وفئة المتطورين. . الأمر أشبه بالعديد من الثنائيات المتضادة التي نعرفها في حياتنا، ونتعايش معها تعايشاً صحياً، طالما أن التوازن والتوافق –وليس الصراع المدمر- بينها، يثمر حياة صحية من مختلف المناحي. . ثنائية الجد/ اللعب، يحتاج الإنسان إلى كلا طرفي هذه الثنائية، فبدون الجد والكدح لن نجد القوت، وبدون اللعب تتحول حياتنا إلى جحيم لا يطاق، يؤثر بالسلب على صحة الإنسان النفسية، لذا تُحتم جميع قوانين العمل وجود أجازة أسبوعية وسنوية للعاملين، ليمارسوا فيها اللعب أو الترويح عن أنفسهم. . فإذا تزايد التركيز على أحد طرفي هذه الثنائية عن الحد المناسب، فإن الحياة عندها تختل، كأن يتحول اللعب إلى استهتار ومجون وتكاسل، أو يتحول الجد إلى ما لو عقوبة أشغال شاقة مؤبدة. . هذا مجرد مثال واحد بقدر ما يتسع المجال، يبين أهمية الثنائيات المتضادة، في إحداث التوازن في حياتنا.
الشعوب المتحضرة المتطورة إذن، هي تلك الشعوب التي عثرت على المزيج المناسب، بين التقليد والتجديد. . فيما الشعوب المتجمدة المتخلفة، هي التي سيطر فيها التقليد، وطارد التجديد إلى حد الاختناق. . في تلك المجتمعات يصنف المجددون ودعاة الحداثة بقائمة جاهزة وطويلة من النعوت التي لا يُسَر أحد بأن يوصف بها. . ومع ذلك تداوم تلك الشعوب على التذمر من أحوالها، وإسناد أسباب تخلفها إلى شتى الجهات، فيما عدا الجهة الواحدة الوحيدة، المسؤولة بالأساس عما تعانيه من تخلف وبؤس الحال، وهي ذلك الإصرار على التشبث بالماضي، ليكون الحاضر نسخة طبق الأصل منه.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
http://www.copts-united.com/article.php?A=11333&I=292