ميرفت عياد
بقلم: ميرفت عياد
في هذا اليوم الموافق العاشر من ديسمبر عام 1520 اشتعلت النيران في مدينة فيتمبرج الألمانية لتلتهم كتب القانون الكنسي والمنشور الذي يحتوي على تهديدات بابا روما لمارتن لوثر بالحرمان، وبهذا أعلن لوثر خروجه واستقلاله عن الكنيسة الكاثوليكية التي لم تقبل الإصلاح الداخلي الذي حاول المصلح القيام به، حيث نادى بالغاء غفران الكهنة للذنوب وحرق صكوك الغفران، والمطالبة بزواج الكهنة، هذا إلى جانب إلغاء القداس الإلهي، وإلغاء تحويل القسيس للخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه. ونتيجة لحركة الإصلاح هذه نشأ مذهب مسيحي جديد خرج عن الكاثوليكية عرف بالبروتستانتية والتي تعني الاحتجاج.
والسؤال من هو مارتن لوثر؟ هل كان محقًا في صراعه ونضاله ضد البابا وضد الإمبراطور وبعض الرؤساء الكاثوليك؟ هل كان مخطئًا أم محقًا في قيامه بحركة الإصلاح البروتستانتي؟ هل كان هرطوقيًا أم أرثوذكسيًا في عقائده وتعاليمه؟ هل كان البابا محقًا أم مخطئًا في حرمانه للوثر؟ هل كان الإصلاح بركة أم نقمة للعالم؟
أسرة ريفية.. ونشأة فقيرة
كل تلك الاسئلة السابقة تدعونا للرجوع بعجلة الزمن إلى الخلف إلى عام 1483 وبالتحديد فى يوم العاشر من نوفمبر لنحضر مراسم ميلاد "مارتن لوثر" مع والده يوحنا لوثر العامل باحدى المناجم ووالدته مرجريت زيكلر، حيث نما الصبي ونشأ في وسط عائلة ريفية متواضعة ومتدينة وصارمة في تربية أبناءها تربية مسيحية صالحة، وتدرج مارتن في التعليم حتى أنهى دراسته الثانوية في مدرسة القديس جورج بمدينة أيزناخ عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، وبينما كان مارتن يتابع دراسته الجامعية بناء على رغبة والده بدأ في إلقاء محاضراته في جامعة أرفورت، ولم تمض على هذه الحالة عدة أسابيع حتى وقعت له حادثة كادت أن تقضي على حياته وهو في طريق عودته من بيت والديه إلى أرفورت في 2 يوليو 1505.
شعاع من نور.. وليل حالك الظلام
وعندما رجع مارتن بذاكرته إلى الماضي وحاول أن يرى الأخطار التي تعرض لها وكيف أنقذ منها تذكر إصابته بمرض خطير في سن الرابعة عشرة، وتعرضه للموت عندما سقط على خنجر، وتهددت حياته بالوباء الذي انتشر في المنطقة وراح ضحيته عدد كبير من الناس، وسأل نفسه ماذا انتظر إذًا؟ وكانت الإجابه واضحة بالنسبه له.. ففكر بأن أفضل طريق لإرضاء الله والحصول على بره هو الهروب من العالم والالتجاء للدير، فانطلق إلى دير القديس اغسطينوس للناسكين، وفي سبتمبر 1506 أعلن مارتن لوثر نذره النهائي للرهبنة. وبهذا هرب من العالم وألقى بنفسه في أحضان الدير، ظنًا منه أنه سيجد داخله السلام الذى يبحث عنه. ولكن مرت سنتان وهو مازال يعاني من مفهومه الخاطئ عن شخص الله الذي صوره قاضيًا مرعبًا يعاقب الخطاة ويطاردهم أينما وجدوا، وفي هذه الأثناء أصيب مارتن بمرض خطير وأشرف على الموت، وحينما كان يتعذب من مخاوفه من لقاء الله ذهب إليه الراهب "ستوبيتز" عميد كلية اللاهوت في فيتمبرج وتحدث معه طويلاً، فافضى إليه لوثر بمكنونات قلبه ومخاوفه من عقاب الله الديان العادل، وهنا ذكره الراهب بما يُقال في قانون الإيمان (أومن بغفران الخطايا)، فكان لهذه الكلمات البسيطة تأثيرًا عميقًا جدًا في نفس مارتن الذي رأى الله من منظور آخر وهو أنه جاء لا ليدين الأحياء والأموات فقط بل ليغفر الخطايا أيضًا.
فرصة ذهبية .. وراحة الأبدية
لاحت للوثر فرصة ذهبية بحسب اعتقاده عندما وقع عليه الاختيار للذهاب إلى روما للدفاع عن قضية الخلافات بين الأديرة الأغسطينية في ألمانيا، وهنا فاض قلب مارتن بالسعادة لذهابه إلى المدينة التي يقيم فيها البابا بنفسه وكيل المسيح على الأرض وخليفة الرسول بطرس، تلك المدينة التي استشهد فيها بطرس وبولس. روما التي شاهدت صراع ونضال المسيحيين الأوائل، روما التي امتلأت بالكنائس وبذخائرالقديسين التى سوف تساعده على الحصول على الغفران لسنوات عديدة. نعم كانت هذه فرصة من السماء لتتفتح عيني لوثر على حقيقة عظيمة وهي عقيدة التبرير بالإيمان التي ترى الله أبًا محبًا ينظر إلى الإنسان كابن له فيمنحه البر والخلاص من الخطية وهذا لا يتوقف على أعمال الإنسان الصالحة سواء كانت كثيرة أم قليلة ولكن تعتمد على إيمان الإنسان الخاطئ المعترف بخطاياه والنادم عليها من قلبه أمام الإله البار.
صكوك الغفران
يعتقد البعض أن المصلح الألماني مارتن لوثر قام بثورة عنيفة ضد الكنيسة الكاثوليكية بعد أن اكتشف حقيقة التبرير بالإيمان، لكن هذا يخالف الحقائق التاريخية التي تدل على حبه للكنيسة الكاثوليكية وتقديره لها. تلك الكنيسة التي علمته أن الحصول على الخلاص يتم عن طريق التعاون بين الله والبشر، حيث كان الرأى السائد في هذا الوقت أن الحسنات الزائدة للقديسين التي زادت عما كانوا في حاجة إليه لخلاصهم مودعة في بنك الكنيسة للتصرف فيها بتوزيعها على النفوس التي لم تستطيع أن تعمل أعمال حسنة كافية لخلاصها أثناء حياتها على الأرض. ومن هنا نشأت فكرة صوك الغفران التي كانت تخلص من المطهر فقط وليس من الجحيم، وكان يمنح هذا الصك مجانًا ولكن هذا الأمر تتغير مع مرور الوقت، وأصبحت صكوك الغفران تجارة رابحة لجأ إليها بعض الملوك لابتزاز المال، وكان من ضمن هؤلاء البابا ليون العاشر الذي كان في أشد الحاجة إلى المال، بسبب حياة الرفاهية والبذخ وتعظم المعيشة، هذا إلى جانب شغفه بالفن الذي جعله يقررإجراء بعض الإصلاحات في كنيسة القديس بطرس، ولتمويل هذا المشروع الضخم أصدر قرار ببيع صكوك الغفران.
هجوم لوثر على الكنيسة الكاثوليكية
هذا الأمر أثار حفيظة لوثر وجعله يقوم بإصدار بيان يحتوى على 95 احتجاج ضد صكوك الغفران، ويلصقه على باب كنيسة فتنبرج في 31 أكتوبر 1517 ويعتبر هذا التاريخ فعلاً بداية تاريخ الإصلاح حيث هاجم لوثر الكنيسة الكاثوليكية ورفض فكرة صكوك الغفران، وهذا الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية هو الذي جعل لوثر يقوم بالمثول أمام مجمع من الرهبان في مدينة هيدلبرج يوم 25 أبريل 1518، وقد حاول لوثر أن يشرح للإخوة الرهبان أفكاره العقائدية إلا أنهم لم يقتنعوا واعتبر لوثر منذ ذلك الوقت هرطوقًا ويجب أن يُحاكم كهرطوقي.
الحرمان.. والنفي
وبعد حوالى سنتان ظهر منافس جديد للوثر وهو الدكتور"آك" الذي شن هجومًا عقائديًا عنيفًا ضده وبدأ في انتقاد تعاليمه ليجذبه إلى مناقشة علانية يوقفه فيها عند حده على حد تعبيره. ويعتبر هذا الحوار نقطة من النقاط التي وسعت الفجوة بين الفريقين واعتبر آك حواره هذا نجاحًا شخصيًا وعظيمًا لأنه بهذا أثار النفوس ضد لوثر حتى صدر القرار بحرمانه في يوم 15 يونيو 1520 وحرق كتاباته، وفي المقابل في يوم 10 ديسمبر من نفس العام حرق لوثرعلى الملأ منشور حرمانه إلى جانب كتب القانون الكنسي وأعلن خروجه واستقلاله عن الكنيسة الكاثوليكية، ولهذا أصدر البابا ليون العاشر في يوم 3 يناير عام 1521 منشور باعتبار لوثر هرطوقًا ومرفوضًا من الكنيسة، وصدر قرار بنفيه من سائر بلاد الإمبراطورية الألمانية.
ثوره الفلاحين
قامت ثورة الفلاحين الشهيرة بسبب لشعورهم بالظلم الصارخ والضغط الساحق الذي مارسه الأغنياء عليهم. ولم يكن الشعور بالظلم هو السبب الوحيد لانفجار هذه الثورة بل كتابات لوثر التي انتشرت في كل مكان وقرأها عدد كبير من الطبقات العاملة، ولكن للأسف حاولوا تطبيقها تطبيقًا ماديًا واقتصاديًا وليس روحيًا كما قصد لوثر، كما اعتقدوا أن دعوة لوثر للحرية المسيحية تعني التخلص بالعنف والقوة من الظالمين الذين يقسون عليهم أي دعوة للتخلص من الأمراء والأغنياء.
حياه جديدة.. ورسالة مجيدة
ولم تستطع الحياة السعيدة والجديدة التي كان يحياها لوثر مع زوجته كاترين أن تلهيه عن الخدمة المقدسة وأن تنسيه الرسالة التي وضعت على عاتقه. ولم تكن كاترن حملاً ثقيلاً يحمله على كتفيه، بل كانت معينة له وساعدته على احتمال المشقات. حيث كانت أول مشكلة تشارك فيها كاترين زوجها هي التحالف السياسي الكاثوليكي واستخدام ثورة الفلاحين ضد حركة الإصلاح للتشهير بلوثر وبحركته الجديدة للقضاء عليها، ولم تكن الكنيسة البروتستانتيه مهددة بالتحالف السياسي الخارجي فحسب بل كانت مهددة أيضًا في الداخل وفي عقيدتها نفسها، ولذلك أمضى لوثر السنوات الباقية من عمره في زيارة الكنائس التي أخذت بحركة الإصلاح، وفي إلقاء المواعظ لترسيخ العقيدة الجديدة، في سنة 1546 دُعي لفض نزاع قام في بلدة إيسليبن، وبعد أن نجح في فض النزاع أصيب بنوبة برد ما لبث أن توفى في أثرها وذلك في 18 فبراير 1546.
http://www.copts-united.com/article.php?A=11146&I=288