كمال غبريال
بقلم / كمال غبريال
ربما يجدر التنويه ونحن نستعرض الخطوط العريضة لما مر بالأقباط من مراحل تاريخية، إلى أننا لا نسترجع التاريخ لكي نعيد شحن أنفسنا بما نطالعه من مآسيه، ومن ثم نأخذ على ضوء ذلك موقفاً عاطفياً ساذجاً من الحاضر، ولا لكي نحاول العودة بزمننا هذا، إلى مرحلة معينة تروق لنا ونختارها من غياهب ذلك التاريخ، فالعودة بالزمن إلى أي محطة ماضية، مهما بدت لنا سعيدة أو حتى مقدسة، فوق أنه مستحيل لأننا في عالم متغير، ولا يمكننا أن ننزل نفس النهر مرتين، كما سبق وقال هيراقليطس الفيلسوف اليوناني القديم، فإن العودة، أي عودة، هي سقوط من عربة الزمن والحضارة، إلى هاوية تخلف بلا قرار. . لكننا نحتاج للتاريخ لكي نستطيع أن نتعمق في فهم الحاضر، الذي يحوي ضمن ما يحوي ركام الماضي وطبقاته المتراصة والمتفاعلة والمتداخلة، أيضاً لنكتشف خطوط صيرورة التاريخ والزمن، لنتمكن من التعرف على التوجه الذي نسير نحوه، والمصير الذي تسير إليه الإنسانية. . يعيننا استعراض التاريخ أيضاً على أن ننتبه، حتى لا نعيد إنتاج ماضينا، فيأتي اليوم مماثلاً لما كان عليه الأمس لأن هذا يعني شيئاً واحداً، هو أننا نتراجع، فيما موكب الإنسانية كلها يتقدم ويطور ذاته، فنحن إن فُرض ونجحنا فيما قد يستهوينا، من تراجع إلى أزمنة نظنها سعيدة، فإننا لابد وأن نبدو أمام شعوب العالم، ككائنات غريبة لا تنتمي للعصر، ويعجزون عن فهمها، ويحتارون كيف يتعاملون معها، حيث شيء قريب من هذا يحدث معنا نحن أهل الشرق الآن.
كنا في استعراضنا لتاريخ الأقباط قد وصلنا إلى بداية القرن التاسع عشر، حين بدأت رياح الحداثة تهب على مصر، فما تركته الحملة الفرنسية من تأثيرات على المجتمع المصري، لم يكن من الممكن إزالتها بمجرد مغادرة نابليون وجنوده البلاد، خاصة وقد أتى بعده محمد علي، بطموحاته في تأسيس إمبراطورية، ولم يكن من معين له على تحقيق حلمه، غير الأخذ بأسباب الحضارة المتاحة في عصره. . هكذا بدأت مصر، وببطء بالطبع، في الالتحاق بركب العصر، الذي كان يتجه نحو تأسيس الدولة القومية، بمعنى الدولة الوطنية، التي يملكها مواطنون، لا رعايا لحاكم مستبد، يملك الأرض ومن عليها بتفويض إلهي. . وكان العصر أيضاً وفقاً لمبادئ الثورة الفرنسية، هو عصر العدالة والمساواة بين البشر، علاوة على التوجه نحو إعطاء ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، أي ما عرف في ميدان السياسة بالفصل بين الدين والدولة، بحيث يصبح الدين علاقة خاصة بين الفرد وخالقه، ليس لأحد التدخل فيها، كما ليس لأحد فرض ما يعتقد أنه الحقيقة المطلقة، أو الدين الصحيح من وجهة نظره على الآخرين. . بالطبع لم يكن من الممكن أن تشرق شمس الحداثة بنهارها ساطعاً على مصر مرة واحدة، بمجرد أن محمد علي أو أي حاكم قرر الانفتاح، فقد كان الطريق طويلاً وحافلاً بالعقبات، فمن أصعب وأعقد الأمور وأكثرها بطء تغيير ثقافة شعب، ومعها بالحتم عاداته وتقاليده.
لم يكن استيراد محمد علي لمصانع السلاح، وغيرها مما يلزم لتجهيز جيشه، الذي أراد به تأسيس إمبراطوريته، كذا إرساله للعشرات أو حتى المئات من المصريين في بعثات لتلقي العلم في فرنسا، لم يكن كل هذا كافياً، أو متناسباً مع حجم القوة اللازمة لتغيير حالة الجمود والتخلف، التي كان الشعب المصري يرزح فيها منذ عقود طوال. . لكن يكفي أن نقول أن مصر في ذلك الوقت، على الأقل ممثلة في قيادتها السياسية، كانت تتجه بعيداً عن سياسة محاصرة الأقباط، بصفتهم دخلاء، أو ضيوف ثقلاء على وطن أساس هويته الدين الإسلامي، أو تصنيفهم بكرم حاتمي كأهل ذمة، وقد استفادت بلاشك من هذا التوجه نخبة الأقباط، التي وجدت مكانها بين رجال الحكم في ذلك العصر. . لكننا لا نستطيع الزعم بأن ذلك التوجه الجديد قد وصل حينها للآلاف من قرى مصر ونجوعها، فقد ظل بالريف ذلك المزيج المصري السحري، من التعايش والتعصب في آن. . ففي القرى التي تواجد فيها الأقباط مع المسلمين جنباً إلى جنب، تغلبت المصلحة في التعايش والتسامح، على نوازع التعصب، التي لنا أن نتوقع أنها كانت أقوى، حيث لا يتواجد أقباط، وحيث تسمع الجماهير الجاهلة عنهم فقط، من ألسنة من يعتبرونهم كفاراً وأعداء الله. . دليلنا هنا أن الثورة العرابية التي قامت في بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكانت موجهة ضد استبداد الخديوي، فهمها الفلاحون في الريف على أنها ضد الآخر، الذي لم يكن غير الأقباط، وسموها "هوجة عرابي"، وكان هناك من يتوعد الأقباط بالقيام في خلال الهوجة المنتظرة عليهم، واستحلال أموالهم ومقومات حياتهم. . لكن كانت مثل تلك الأفكار المتعصبة مضادة لمسار الزمن حينها، ولم يقيض لها النمو والانتشار، وبقيت تحت السطح وفي الصدور، حتى آن أوان ظهورها من جديد، بعد ما يقرب من نصف قرن، أو بالأحرى ثلاثة أرباع قرن.
شكل حفر قناة السويس، ثم ما صاحب تشغيلها من ارتباط بالعالم الغربي، نافذة تدخل منها رياح التغيير والحداثة إلى مصر، ومع الحداثة كما قلنا، كانت النظرة إلى مصر كوطن للمنتمين إليه، بعيداً عن الانتماء الديني، وانسلاخاً من سيطرة الخلافة الإسلامية، تلك التي ارتدى الاستعمار العثماني مسوحها، ليقنع كثيرين بأن الخروج على ذلك الحكم الشمولي والمتخلف، بمثابة عقوق وخروج على الدين الإسلامي.
لا نتوقع بالطبع أن تجد تيارات الحداثة الواهنة في مصر أرضاً ممهدة، بل كانت مقاومة التغيير عاتية، ومع ذلك لم يكن رسل الحداثة هم فقط المبشرون بها في الخطاب العام والسياسي، وإنما كان رسول الحداثة الأقوى والأكثر فاعلية، هو الارتباط بالعالم الخارجي، الذي كانت قناة السويس في ذلك الوقت أهم معالمه، ورغم أن زعيم وطني مثل مصطفى كامل -كما يلقبه خطاب انقلاب يوليو- كان ينادي بعودة مصر للانضواء تحت راية الخلافة العثمانية، إلا أن مصر كانت قد دخلت في بداية طريق لن تستطيع بعد ذلك أن تستدير فيه عائدة إلى الخلف، هو طريق الدولة القومية الحديثة، وكان هذا يعني بالتأكيد أن يبدأ الأقباط في الوقوف على أقدامهم، ليساهموا في الوطن بمفهومه الجديد نداً لند، مع أخوانهم في الوطن والوطنية، وهذا ما تحقق بالفعل مع بداية القرن العشرين، وفيما أعقب الحرب العالمية الأولى، من نضال لاستقلال مصر.
نصل هنا إلى نقطة البداية، بداية تبلور مفهوم المساواة بين كل أبناء وطن ودولة حديثة، لكن لا يعني هذا أبداً أننا قد وصلنا إلى لحظة انتصار للفكر الجديد. . كانت تلك بداية معركة، لم يقدر لها أن تحسم حتى الآن، وهذا ما ننتوي متابعة استعراضه، بأكبر قدر ممكن من الاختصار.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=1114&I=31