حديث النّهر

زهير دعيم

 بقلم- زهير دعيم
مرّ الكثيرون من هنا... مرّوا بجانبي، وشربوا من مائي، وإغتسلوا من أدرانهم.
مرّ القادة من كلّ الأمم بسنابكهم وخوذاتهم وعبوسهم، مرّت الجيوش بجحافلها ومعدّاتها، فأزعجت سكينتي، وعكّرت مياهي وحياتي.
مرّ الغنيّ والفقير والأرملة والروماني واليهودي والحثّي والآرامي.
مرّ النّسر والأسد واليمامة.
مرّ المعمدان فصرخ وهدر وتوعّد، وراح يغسل النفوس بماء التّوبة.
مرَّ التّاريخ مُثقلا بالحوادث والحادثات، يجرّ تارة رجليه جرًّا، وتارة يركض ويعدو، وأخرى يغنّي.
مرّوا جميعاًَ وأمّحت آثارهم، محتها العاصفة والهدير، ولم يبق منهم في ذاكرتي إلا السديم والضباب!!
ومرّ يسوع.... فغرّدت موجاتي، وصفّقت أشجار الصّفصاف الصنوبر، وخشع البرقوق والجوريّ والياسمين.
مرّ يسوع فإغتسلت جوانحي، وتطهّر مائي، "وحملقت" إلى فوق، إلى صوت آتٍ من السّماء "هذا هو إبني الحبيب الذى به سررت"
مرّ يسوع فتسابقت السّمكات لكي تقع في شباك بطرس وإندراوس، وكلّ واحدة تقول: أنا...أنا.
مرّ يسوع فهرب البرَص لا يلوي على شيء، وفرّ الجوع أمام قفف الخبز المُحمّر بالمحبّة.
مرّ وكل يومٍ يمرّ بخاطري...أنا الأردن، النهر الصغير الغافي بين جبال ومروج أرض الميعاد... كُنتُ نسياًَ منسياًَ، كنت جدولاًَ من آلاف الجداول تمرّ فوقها النسور فلا تلتفت، ويمرّ بجانبها التاريخ فلا يتوقف إلا نادراًَ... إلى أن جاء ذاك المُحمّل بالأزهار والأشواك والآلام والطعنات.
جاء فرفعني إلى فوق ... رفعني فوق عمالقة الأنهار.
سما بي فوق التاريخ وأهله، وخطّني في كتاب الأيام قصيدة جميلة.
جاء "فسرقني" من ذاتي، وأنساني نفسي، وهو ينثر درره  فوق موجاتي؛ هذه الموجات التي تمرّدت مرّةً ثم عادت وإستكانت كما الطفل في حضن امّه.
إفترَشني – أنا الأردن - بساطًا لو تعلمون، ومشى واثقاًَ، وكدت أموت ضحكاًَ حين مشى بطرس الصيّاد فوقي خطوات، ثمّ شهق: إنّي أغرق.. ومدّ السيّد يمينه كما يمدّها كل يوم.
لماذا شككتَ؟!!
مرَّ الكثيرون ونسيتهم الذاكرة!
ومرَّ الله فغنّت جوانحي وأمواجي وما زالت تغنّي
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع