د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: ماجد عزت اسرائيل
انـطلق يوسف مُسرعًا بعد أن سمح له أب اعترافه القمص "مينا" راعي كنيسة مارمينا بمصر القديمة بالرهبنة، وإذا جاز لنا التعبير بعد أن اجتاز فترة الإختبارات المؤقتة أو المبدئية، قبل الخروج إلى البرية.
وفي صيف 1948م، انطلق "يوسف اسكندر" في يوم شديد الحرارة من أيام صوم السيدة "العذراء" إلى البرية التي حدده بناء على رغبته، وبإرشاد من أب اعترافه وهو نفسه رئيس الدير؛ وهي منطقة جبل القلمون التي يوجد بها دير الأنبا "صموئيل المُعترف" الذي أُنشأ منذ القرن الرابع الميلادي، و أطلق عليه العديد من المسميات منها دير القلمون، ودير السيدة العذراء، ودير الأنبا صموئيل.
وهذه المنطقة جغرافيًا تقع ما بين محافظتي الفيوم شمالاً، والمنيا جنوبًا، ويحدها من الغرب الصحراء الكبرى التي يُعتبر جبل "القلمون" جزء منها، ومن الشرق الضفة الغربية لنهر النيل، ويبعد الدير عن منطقة العمران بنحو خمسين كيلو متر، وبالتحديد من قرية (الزورة)، التابعة لمركز مغاغة- محافظة المنيا، ويبعد عن مدينة القاهرة (عاصمة البلاد) بنحو (230) كيلومتر.
تحرك القطار من مدينة القاهرة وعلى متنه "يوسف اسكندر" وهنا تذكر "يوسف" الرؤيا التي رأها قبل الرهبنة، ودونها في مذكراته بعد ذلك، فيقول:( قبل رهبنتي رأيت حلما لذيذًا، رأيت أنني داخل في محطة مصر مسرعًا لكى أحصل القطار، وكنت قد قطعت التذكرة ودخلت إلى رصيف قطار الصعيد ونظرت فوجدت القطار فارغًا وطويلاً فقلت: يا قوة الله! هذا القطار لا نهاية له، إذ لم أرى له نهاية والرصيف طويل. وظللت أمشي، والطريق طويل والقطار لا يوجد فيه أحد، وقلت أجلس وأنتظر في القطار فربما يكون الميعاد لم يأت بعد، ولما جئت لأركب القطار وجدت شخصًا آخر واقفًا على الرصيف ولما نظرت إليه بتدقيق وجدت أنه هو الرب نفسه!
بثوبه الأبيض اللامع المذكور في سفر الرؤيا، وشعره عبارة عن نار وعيناه نار، ووجهه مهوب جدًا، وهو ينظر إلي من بعيد ولكن وجهي كان في وجهه، وقد تلاشت المسافة بيننا، فبينما كانت المسافة بيني وبينة حوالي مائة متر فإن وجهه قَرب المسافة وكأنها أقل من عشرين سنتيمترًا!
فدخلت في جسمي قشعريرة، بينما كنت راقدًا في حلم ثم وجدت أنه يشاورعلي، فذهبت إليه وابتسم ثم قال لي:"انت موش عارف يعني إن السكة طويلة جدًا جدًا؟! فقلت بشيء من البداهة:"ما أنا عارف"! فإبتسم مرة ثانية وقال لي:"انها السكة الرهبانية طويلة جدًا" فقلت له "معلش"!، فأراد أن يعطف علي مرة أخرى وقال:"انها سكة سنين طويلة" فقلت:"آه موافق"!، فقال لي:"بها صعوبات"، فقلت "وماله" فقال لي "مصمم؟" فقلت:"أه، مصمم".
ثم نظر إلي مرة أخرى، وربت كتفي برفق وقال:هل قطعت تذكرتك؟ فقلت "نعم" وطلعتها وأعطيتها له، فنظر اليها بلمحة سريعة، ثم أعادها لي في يدي، ثم نظر إلى بإبتسامة وقال: مستعد ؟
فنظرت إليه وقلت:"طبعًا" بشيء من البداهة أيضًا!،وذهبت لأركب القطار.
على أية حال، تحرك القطار من القاهرة إلى مدينة مغاغة بمحافظة المنيا، وكان القطار يسير بسرعته المعتادة، ولكن يوسف كان ينظر إلى القطار ولسان حاله يقول له: أسرع.. أسرع.... أسرع، لدرجة جعلت منه لا يحتمل الجلوس، وبين كل محطة وأخرى كان يتردد على نوافذ القطار لينظر بإشتياق المسافة الباقية لمحطة الوصول.
وفي يوم 14 أغسطس 1948م، وفي تمام الساعة الثانية بعد الظهر وصل القطار الذي على متنه "يوسف" إلى محطة مغاغة، فنزل متلهفًا للذهاب إلى البرية، فركب الجمل للذهاب إليها وهو يقول مع المرنم: "ليت لي جناحًا كالحمامة فأطير و أستريح، ها أنا كنت أبعد هاربًا وأبيت في البرية، كنت أسرع في نجاتي من رياح العاصفة ومن النوء"(مزمر 55 :8،7)، فالبرية فيها راحة من مشاكل العالم و مشاغله.
وفي صباح اليوم التالي أي في يوم 15 أغسطس 1948م وفي نحو الساعة العاشرة صباحًا نظر "يوسف" بعينه من بعيد وهو راكبًا الجمل فرأى الدير فإرتجل احترامًا للدير، وبعدها بقليل سمع صوت الجرس يدق لمدة تقترب من ساعة كاملة، فسأل قائد الجمل لماذا يدقون الجرس الآن؟ فقال له: ترحيب بالضيف الوافد.
وبعد لحظات ليست بقليلة وصل "يوسف" إلى باب الدير، وكان ربيتة الدير (وكيل الدير) ومن معه من رهبان في الدير في انتظاره، فهنئوه بسلامة الوصول، ودخل الدير فوجده كما اشتهته نفسه وما وصفه له رفاقه قائلين:(أنه دير غلبان، يعني أوعى تفتكر انك ذاهب إلى قصر أو دير جميل" وهذا ما كتبه "يوسف" في مذكراته بعد ذلك قائلاً:"كانت جدران الدير مهدومة، وغرفه بدون سقف، فالأسقف عبارة عن قليل من القش، فهو من أضعف ما يكون وفي حالة مسكنة أشد المسكنة، والعقارب والثعابين تجري من حولك داخل الدير، هذه كانت صورة الدير، وكانت شهية لنفسي للغاية.
ومن دير الأنبا "صموئيل" بمنطقة جبل القلمون بدأت دعوة "يوسف إسكندر" للحياة الرهبانية.
http://www.copts-united.com/article.php?A=10678&I=278