د. ماجد عزت اسرائيل
بقلم: د. ماجد عزت اسرائيل
مع بداية عام 1948م كان الجيش المصري يستعد للخروج إلى الأراضي الفلسطينية بعد تعدد الإعتداءات الإسرائيلية -وهي التي انتهت بهزيمة الجيوش العربية- وقيام دولة اسرائيل المزعومة في مايو من نفس العام.
كان "يوسف اسكندر" أيضًا يستعد للخروج إلى البرية؛ فباع كل ما يملك ووزع أمواله على الفقراء والمساكين، وترك منزله بأثاثه وملابسه وكتبه وحقائبه، منفذًا لقول السيد المسيح: "إن أردت أن تكون كاملاً فإذهب وبع أملاكك وأعط للفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني".
وفي ليلية من ليالي الشتاء الباردة ترك "يوسف" مدينة دمنهور ولم يكن يمتلك سوى جنيهان؛ لأجرة المواصلات إلى البرية، ترك وراءه المال الذي يستعبد قوى الإنسان الفكرية والعاطفية والجسدية التي لم يعد لها حساب في حياته، و ترك أمره لمن دعاه إلى هذا الطريق مرددًا مع المرنم: "عرفني الطرق التي أسلك فيها لإني إليك رفعت نفسي انقذني من أعدائي يارب إليك التجأت علمني أن أعمل على رضاك لإنك أنت إلهي روحك القدوس يهديني في أرض مستوية" (مز 143،8-10)، ومع موسى النبي حين قال: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فعلمني طريقك حتى أعرفك"(خر13:33).
على أية حال، انطلق "يوسف اسكندر" من دمنهور كطائر ينطلق في الأجواء العليا بفرح لا تعوقه الجاذبية الأرضية لأنه كان قد فرد جناحيه لتحمله قوة أخرى، ومن فوق كان ينظر إلى كل شيء فيراه صغيرًا وصغيرًا جدًا من جناحيه الطويلتين، حينما يلمحهما بعينيه فيمتلىء زهوًا بأنه قد صار حرًا والدنيا كلها تفر من تحت بصره.
وبعد ليلية شتاء قارصة البرودة قضاها بين التنقل في وسائل المواصلات حتى وصل إلى مدينة القاهرة وشاء القدر الله أن يتقابل بالصدفة مع أحد أصدقاء مدارس الأحد بمدينة الجيزة وهو المهندس "يسى حنا" الذي قال له: "لقد وجدت لك ديرًا حسب طلبك"، فقال له "يوسف" أين هذا الدير؟ فقال له "يسى": دير الأنبا صموئيل وهو يقع بالقرب من مدينة مغاغة بمحافظة المنيا بها خمسة رهبان مرضى وفقيرًا اقتصاديًا ورئيسه القمص "مينا المتوحد" بكنيسة مارمينا بمصر القديمة.
وفي منزل المهندس "يسى" تم الإتصال تلفونيًا بـ "سعد عزيز" (أنبا صموئيل المتنيح) وتم الإتفاق على الذهاب في الصباح إلى القمص "مينا المتوحد" بكنيسته بمصر القديمة بعدها استكمل "يوسف" ليلته الباردة مستيقظًا ومترقبًا للقاء.
وفي صباح يوم 15 مارس 1948م ذهب "يوسف" ومعه رفاقه إلى القمص "مينا المتوحد" لطلب السماح له بالرهبنة بدير الأنبا صموئيل، ولكن القمص "مينا "طلب منه أن يمكث معه في كنيسته لتعلم النظم والمرددات والألحان الكنسية حتى نهاية الصوم المقدس وبعدها تذهب إلى الدير، فوافق "يوسف" بعد جلسة روحية جمعت القمص "مينا " والأب "بولس بولس" ورفيقه "سعد عزيز".
على أية حال، كانت فترة الصوم المقدس "ليوسف" مرحلة استعداد فبدأها بالتوبة مع الصوم والصلاة في اعتكاف كلي وصلت إلى نحو ثمانية وعشرون يومًا، رفض خلالها مقابلة أي شخص لدرجة أنه رفض مقابلة شقيقته وتعلم خلال ذات الفترة التسبحة وعمل القربان وعمل في أعمال متواضعة نذكر منها مرافقته لمدة سبعين يومًا الراهب "لوقا الصموئيلي" الذي كان مريضًا بمرض السل وهو من الأمراض المعدية ولم يصب "يوسف" بشيء.
لأن الله يختار أولاده ويدعوهم ويحفظهم ويضمهم إليه مثلما رتب لحفظ واختيار ودعوة "يوسف اسكندر" طبقًا لما ورد في الكتاب المقدس "الذين سبق فعرفهم سبق فعيَّنهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضا"(روميه،الإصحاح الثامن، 30:29)
كان اشتياق "يوسف" للرهبنة كدعوة وليس كواجب، لأن الله يعرف كل شيء قبل أن يكون ويعرف كل شخص قبل أن يولد "يارب قد اختبرتني وعرفتني"، أنت عرفت جلوسي وقيامي فهمت فكري من بعيد مسلكي ومربطي ذريت وكل طرقي عرفت لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يارب عرفتها كلها.. عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت لا أستطيعها"(مز139: 6:1)
ظل "يوسف" مجاهد في كنيسة مارمينا بمصر القديمة يواصل الليل بالنهار في الخدمة، رافضًا طلب القمص "مينا" لرسامته راهبًا في ذات الكنيسة وفجأة وافق له على الرهبنة بدير "الأنبا صموئيل" بمغاغة بالمنيا، على أن يقوم برسامته "ربيته الدير" (وكيل الدير)، فإنطلق "يوسف اسكندر" مسرعًا إلى هناك.
http://www.copts-united.com/article.php?A=10551&I=275