بقلم: د. درية شرف الدين
كنت أنوى أن أكتب عن فيلم «المومياء» فى ثوبه الجديد أى بعد ترميم نيجاتيف الفيلم عن طريق مؤسسة سينما العالم، التى تهتم بالتراث السينمائى فى العالم كله، والتى يرأسها المخرج الأمريكى مارتن سكورسيزى إلاّ أن الشارع المصرى قد تسارعت فيه أحداث جديدة عقب موقعتى مصر والجزائر الأولى ثم الثانية، فوجدت بينهما ما يمكن أن يكون مشتركاً رغم بعد المسافة، التى تقدر بأربعين عاماً.
عام ١٩٦٨ أراد المخرج العظيم شادى عبدالسلام أن يستنهض الروح المصرية التى رآها تنكسر وتتراجع وتخمد بعد هزيمة يونيو عام ١٩٦٧، وقرر كفنان، يعى التاريخ ويؤمن بمصر وبالمصريين، أن يقدم لهم درساً أو فيلماً يزكى فيهم فخرهم بمصريتهم الموغلة فى تاريخ طويل مجيد، وبقدرتهم على تخطى هزيمة عسكرية وبقدرهم وعزتهم وكبريائهم، حدث هذا فى الوقت الذى تكالبت فيه على مصر مشاعر اللوم والتشفى والرفض من بلاد عربية كثيرة أظهرتها متوارية أيام زعامة الرئيس جمال عبدالناصر، وطرحتها صريحة مدوية أيام رئاسة الرئيس أنور السادات وقبل نصر أكتوبر العظيم.
وعن تلك الفترة وذلك الفيلم ورد فى كتابى «السياسة والسينما فى مصر» الصادر عام ١٩٩١: ( إن ما كان مرفوعاً على الساحة المصرية وقتها هو شعارات القومية العربية وكان ينظر إلى الفرعونية أو النزعات المصرية على أنها نزعات إقليمية لا يجب التعبير عنها مع تبنى النظام لكل ما هو مرتبط بالعرب، فى هذه الفتره خرج شادى عبدالسلام مخرج الفيلم كفنان عن هذا الإطار المرسوم ليؤكد الهوية المصرية فى مواجهة نظام يتعداها ومؤسسات سياسية لا تطرحها وشعب يهتف بما يردده النظام، ورأى شادى عبدالسلام أن الإحساس بالمصرية ضرورة لبناء الشعب المصرى فى مواجهة كل التحديات التى تريد القضاء عليه وكانت له دائماً وسائله المصرية فى مواجهتهـا).
وبذلـك طـرح مـن خلال فيلمه فكرة الانتماء وفكرة الارتباط بالحدود وتابعت- (إن فيلم المومياء من خلال شادى عبدالسلام بدا كنداء للمصرى بألا ينسى أنه صاحب تاريخ عريق وماض مشرف، وأن شيئاً ما فى أعماق هذا الشعب يصحو دائماً وينتفض رغم أى شىء) وعرض فيلم «المومياء» المُفعم بالمصرية بعد انتصار أكتوبر واسترداد الأرض والشرف والكرامة وهزيمة إسرائيل بسنتين عام ١٩٧٥.
فى الأيام القليلة الماضية اشتعل الشارع المصرى بالهتافات والتجمعات والأعلام المصرية، استعداداً واحتفاءً بمباراة كروية بين مصر والجزائر، من له فى الكرة ومن ليـس لـه فيهـا ينتظر المباراة ويتمنى الفوز المصرى بها، وأصبح الشارع أيضاً- كفيلم شادى عبدالسلام- مفعماً بالمصرية، مزداناً بها، لم نكن نرى العلم المصرى إلا فوق المنشآت الحكومية، فأصبحنا نراه فى كل مكان فى يد الشباب والأطفال والفتيات، فجأة أصبح احتفاؤنا بالعلم ظاهرة جديدة تستحق الدراسة، عَلت كلمة مصر، تسبقها وتلحق بها دقات طبول حماسية من تأليف وتلحين الناس، واهتم الجميع، بلا استثناء، بنتائج السباق المصرى فى مجال كرة القدم كهدف قومى يلتفون حوله ربما بديلاً عن أهداف قومية أخرى لم توجد بعد،
ووسط الفرحة المصرية تقع أحداث مؤلمة وغليظـة وانتهاكات لكرامة المصريين المشجعين للفريق المصرى بالسودان من جانب الجزائريين- ولا أقول الأخوة ولا أقول الأشقاء- حيث إن العلاقات الدولية ليست بها أخوة ولكن بها مصالح فقط، وهكذا يجب أن تكون، هنا ثار الناس وانتفضوا دفاعاً عن مصريتهم وكينونتهم التى تواتر الجيران من المشرق والمغرب على الاستخفاف بها والاستهانة بحامليها واعتدنا نحن أن ندير لهم خدنا الأيسر عندما يصفعوننا على الأيمن، على اعتبار أن ذلك قدَرُنا ككبار يجب أن نتحمل الصغائر والصغار، وهـو قـول مغلـوط وعكسه هو الصحيح،
وعلى اعتبار أن أى اعتراض أو خلاف يصب فى مصلحة إسرائيل والعكس هو الصحيح أيضاً، فإسرائيل ستحترم مصر وتخشاها إذا هابها الجميع لا إذا انتهكوا حرمتها وأهانوا شعبها، وعندما حدث ما حدث ثار الشارع المصرى، وعلت كلمة مصر من جديد فى كل بيت وفى كل مدينة وعلى كل لسان، وكأنما ارتد المصريون إلى مصريتهم بعد طول غياب وطول سفر.
نقّب شادى عبدالسلام بأسلوبه وأدواته عن مصرية المصريين واستخرجها كاللؤلؤ عندما توارت عند الهزيمة، وتكالب عليها الجميع وقدم «المومياء» رائعة السينما المصرية والعالمية عام ١٩٦٨. كما ينقب الشارع المصرى الآن وبعد أربعين سنة عن مصريته التى تاهت سنين وكادت أن تذوب، أحياناً خجلاً وأحياناً ترفعاً وأحياناً خطأ.. آن الأوان كى تعود تاجاً على رؤوسنا، وقمة شاهقة فوق رؤوس الآخرين.
dorria_sharaf@yahoo.com
نقلا عن جريدة المصري اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
http://www.copts-united.com/article.php?A=10402&I=271