بقلم: لطيف شاكر
حجر رشيد ودور اللغة القبطية في تفهم نقوشه المصرية..
حجر رشيد الذي اكتشفه جنود الحملة الفرنسية في ربيع عام 1799م موجود حاليًا في المتحف البريطاني، وقد سُجّل عليه نقش بلغتين هما المصرية واليونانية، والنص المصري مكتوب بالخط الهيروغليفي والخط الديموطيقي، ويتضمن النقش قرار مجمع الكهنة المصريين المنعقد في منف في السنة التاسعة لبطليموس الخامس ملك مصر، أي سنة 196ق.م.
وقد حاول فك رموز هذا الحجر عالم إنجليزي هو توماس ينج Thomas Young وحقق بعض التقدم وتوصل إلى نتائج محدودة، ولكن جهوده في الواقع تتضاءل كثيرًا أمام النتائج التي توصل إليها العلامة الفرنسي جان فرانسوا شامبليون Jean Francois Champollion، والسبب في ذلك أن شامبليون كان عالمًا مقتدرًا في اللغة القبطية بالنسبة لمعلومات عصره، وقد ساعده إتقانه للغة القبطية على التفوق على توماس ينج في إحرازه وتقدمه الملموس في فك رموز حجر رشيد وتفهم الكتابة الهيروغليفية، لأنه كان قد توصل إلى عقيدة راسخة بأن اللغة القبطية هي لغة مصر القديمة، وقدم بحثًا بهذا الخصوص إلى أكاديمية جرينوبل Grenoble في سنة 1806م (The Coptic Encyclopedia, ed Atiya, A.S., vol 2 p. 516).
ويرجع الفضل في تعلمه اللغة القبطية إلى الأب يوحنا الدفش القبطي الذي نزح إلى فرنسا وكان يتقن اللغة القبطية بالإضافة إلى الفرنسية والإنجليزية وكان يعمل مترجمًا بمكتبات فرنسا لترجمة المؤلفات من اللغة الفرنسية إلى القبطية وبالعكس.
ويشرح كاترمير أهمية تضلُّع شامبليون في اللغة القبطية ودورها في تمكنه من فك الرموز الهيروغليفية في كتاب مطبوع في باريس سنة 1808 م بعنوان:
E.E., Quatremere, Recherches critiques et historiques sur la langue et la literature de l'Egypte, Paris
في القرن التاسع عشر الميلاد
اهتم البابا كيرلس الرابع البطريرك العاشر بعد المئة (1854 – 1861م) باللغة القبطية اهتمامًا بالغًا حتى في السنة التي باشر فيها إدارة الكنيسة كلها بلقب مطران قبل ارتقائه الكرسي المرقسي. فقد كتب حينذاك منشورًا يحث فيه الأقباط على التبرع لبناء معهد علمي، موضحًا أهمية المشروع بأن ذكرهم بحالة الضعف التي وصلت إليها اللغة القبطية، وعقد مقارنة بين اهتمام الأجانب بها وإتقانهم لها وبين عدم قدرة القبط على فهمها (نص المنشور كاملاً في: كامل صالح نخلة "سلسلة تاريخ الباباوات بطاركة الكرسي الإسكندري" الحلقة الخامسة، صفحتي 202 – 203).
وبعد ارتقاء البابا كيرلس الرابع للكرسي المرقسي كان لا يصرف رواتب شهرية من البطريركية إلا للقسوس الذين يتقنون خدمة القداس باللغة القبطية، تشجيعًا منه لهم على دراستها (جرجس فيلوثاؤس عوض "ذكرى مصلح عظيم" القاهرة 1911 م ص 187).
وكان البابا كيرلس الرابع يقاوم أي تقصير في استخدام اللغة القبطية في الصلوات الكنسية بمنتهى الحزم والشدة، فعندما استجاب الإيغومانس يوحنا تادرس لشعب كنيسة الملاك البحري بترجمة القداس إلى العربية بعد تلاوته بالقبطية نقل المستر ليدر الخبر إلى البطريرك قائلاً: "إن مساعيك كلها في إحياء اللغة القبطية ومطبوعاتها وكل ما يتعلق بها ذاهبة أدراج الرياح"، ولما وقف البطريرك على جلية الخبر استحضر ذلك الإيغومانس وعاقبه أشد العقاب، وهو يكرر له عبارة التأنيب قائلاً: "أنا وآبائي نبني وأنت تهدم!" (إقلاديوس لبيب، الرد الأول والثاني على مقالة الإيغومانس فيلوثاوس، 1899م، ص 44 رسالة مارمينا في عيد النيروز توت 1664ش، ص 18 – 19).
وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأ بعض الكهنة ومنهم الإيغومانس فيلوثاوس إبراهيم (المتوفي سنة 1904م) بتلاوة بعض صلوات القداس بالعربية بعد تلاوتها أولاً بالقبطية، دون اعتراض من الرؤساء الدينيين (رسالة مارمينا في عيد النيروز، توت 1664ش، ص 19). ولم تكن الكنيسة تسمح قبل ذلك قط بتلاوة القداس بغير اللغة القبطية، فلم تكن اللغة العربية تستخدم في الكنيسة إلا لترجمة فصول القراءات الكنيسة كالرسائل والأناجيل والسنكسار والمواعظ، منذ أن صرح بذلك البابا غبريال بن تريك في القرن الثاني عشر الميلادي، كما سبق القول.
في القرن العشرين..
1. تراجع القبطية في الاستخدام الكنسي:
تزايد استخدام اللغة العربية في الصلوات خلال القرن العشرين، وتفوق كثير من الأقباط في اللغة العربية وامتلكوا ناصيتها واشتهروا في الأدب العربي, أدي إلى تراجع اللغة القبطية تراجعًا حثيثًا أمام اللغة العربية في بعض المجالات.
وخلال السنوات الأربعين الماضية حدث تدهور ملحوظ في استخدام اللغة القبطية في الكنيسة فقد أصبح معظم القداس –إن لم يكن كله– يُتلى باللغة العربية، والرسائل لا تتلى بالقبطية بل حتى الإنجيل فنادرًا ما يُقرأ الآن بالقبطية، وظهرت موضة جديدة هي صلاة الأبصلمودية أي التسبحة باللغة العربية (أو الإنجليزية)، مع أنها في معظمها أشعار موزونة أصلاً باللغة القبطية، وهكذا كادت توشك اللغة القبطية على الانقراض مع الاستخدام الكنسي.
2. جهود إقلاديوس لبيب وتلاميذه
اشتهر واحد من تلاميذ المعلم عريان أفندي جرجس مفتاح باهتمامه بإحياء التحدث باللغة القبطية هو وإقلاديوس يوحنا لبيب، الذي قام بتدريس القبطية في الإكليريكية لمدة عشرين سنة قبل وفاته سنة 1918م، وخلال النصف الأول من القرن العشرين كانت الفرصة سانحة أمامه وأمام تلاميذه من بعده لتعليم اللغة القبطية في المدارس القبطية قبلما تحولت إلى مدارس حكومية، ولكن للأسف لم تُستغل هذه الفرصة بالقدر الكافي الذي يؤدي إلى انتعاش اللغة القبطية، ذلك لأن مدرسة إقلاديوس لبيب وتلاميذه تبنت اللفظ الذي اخترعه المعلم عريان (سنة 1858م) وكرست جهدها لنشره دون اهتمام باللفظ الأصيل، فتوقفت جهودها عند القراءة المستجدة وبدون فهم في أغلب الأحيان، أما جهودها في التخاطب بالقبطية فقد باءت بالفشل لأسباب أهمها صعوبة اللفظ الذي اخترعه المعلم عريان، فقد أُدخل إلى القبطية أصواتًا لم تكن موجودة على السنة القبط أصلاً، كصوت الثاء والذال الذي يصعب على القبط نطقه حتى في اللغة العربية ذاتها، كما استحدث الصوت المماثل لحرف V في الانجليزية، علاوة على الإكثار من الهمزات التي تؤدى إلى زيادة مقاطع الكلمات بصورة غير عادية.
3. تأسيس معهد اللغة القبطية بالأنبا رويس بالقاهرة (د. إميل ماهر)
اهتم البابا شنودة بتدعيم جهود إنعاش اللغة القبطية والتحدث بها منذ رسامته أسقفًا للمعاهد الدينية في سنة 1962م، وكلف بعض الأقباط المثقفين بهذه المهمة، وعندما جلس على الكرسي المرقسي واصل تشجيعه لهم وشجع البعض على دراسة اللغة القبطية والحصول على أعلى الشهادات، وقد نال أحدهم على شهادة الكتوراة في صوتيات اللغة القبطية وأثرها على اللغة العربية في مصر وأثبت صحة اللفظ القبطي القديم وأصالته.
وتدعيمًا لجهود تعليم اللغة القبطية أسس قداسة البابا شنودة الثالث معهد اللغة القبطية بالدور الثالث بمبنى الأنبا رويس بجوار الكاتدرائية الجديدة يوم الخميس 9 ديسمبر 1976م الموافق 30 هاتور 1693ش، وقد بارك الرب هذا المعهد ولا يزال يواصل رسالته في إحياء تراث اللغة القبطية والتحدث بها بلفظها الأصيل، وقد نبغ عدد لا بأس بهم في إجادة وإتقان اللغة القبطية والتكلم بها من العلمانيين والإكليروس أساقفة وكهنة.
ويوجد الآن عدد من العائلات والبيوت يستخدون اللغة القبطية في حياتهم المعيشية, ونذكر على سبيل المثال فقط وليس الحصر عائلة نيافة الأنبا ديمتريوس "أسقف ملوي", وعائلة الدكتور كمال فريد وغيرهم الكثير من أساتذة اللغة القبطية ومعلميها.
وبفضل الكليات الإكليريكية والمعاهد العليا المتخصصة ونشاط الآباء الرهبان الحاصلين على أعلى الشهادات استردت اللغة القبطية عافيتها, خاصة وأن اللغة القبطية الآن تُدرّس في كثير من الجامعات في أوروبا وبلاد المهجر, مما شجع العدد الكثير من المهاجرين على دراسة اللغة القبطية والتكلم بها مع ذويهم في الكنائس والبيوت.
اضطهاد اللغة القبطية
من خلال القراءات السابقة يتضح لنا أن اللغة القبطية قد ذُبحت بدم بارد على يد ابن طولون والخليفة المأمون والحاكم بأمر الله واتباعهم، وهم يدّعون بأنهم مصريون ولكن يفتخرون بعروبتهم وينكرون على مصر هويتها وتراثها وتاريخها ولغتها.
وللعجب العجاب أن يحمل بعضهم لقب دكتوراة..!! ويعملون في مجال التعليم المفروض أن يتصف بالمعرفة الحقيقية والشفافية المطلقة والأمانة التاريخية دون تعصب أو حقد لأن العلم ينأى عن هذا .
وقد عمد هؤلاء بعد أن سنوا أقلامهم لإسقاط حقبة حقيقية من حقبات التاريخ المصري المشرف وهي الحقبة القبطية بحضارتها وتراثها وآدابها وفنونها كما أسلفنا، وشأنهم في ذلك شأن الذي يريد أن يطفأ نور الشمس بأصابعه. اتجهوا أيضًا إلى اللغة القبطية لكي ينالوا منها, وينقضوا كما انقضوا على العصر القبطي, محاولين بكل جهدهم لاسقاط العصر القبطي واللغة القبطية وإنكارها تمامًا واعتبروها وهم من الأوهام بل خدعة قبطية زائفة. كل هذا لكي ينقضوا عليها. ولم يرتقى وعيهم أن اللغة القبطية لغة قدماء المصريين, وليست لغة الأقباط المسيحيين.
وفي هذا الصدد نشكر كل المساعي الغيورة في إحياء هذه اللغة المظلومة وهم كثر ولهم فضل كبير في محاولة إحياء اللغة القبطية رغم الهجوم البربري عليهم من المتشددين والمتعصبين ضد كل تيار مستنير أو فكر جديد أو إحياء تراث قديم..
وبالنسبة للمغرضين والرافضين للغة القبطية أقول لهم كيف نكذب على أنفسنا ونكذب على شعبنا والمفروض أن نستمد الصدق من مثل هؤلاء ونننشد المعرفة الصادقة من علمهم وثقافتهم وهم غير أمناء للأسف؟!
إن العالم اليوم يشبه قرية صغيرة، فإن صدقنا كذبنا سيفضحنا العالم المثقف والمتحضر، خاصة ونحن نعيش عالم الفضائيات وتكنولوجيا المعلومات، من يصدق خبرنا الآن ونحن في طريق الضلال سائرين وعلى درب النفاق والكذب صائرين.
لقد نعت هؤلاء المثقفين اللغة القبطية ورشقوها بالركاكة والضعف ورموزها بالوهم والخيال، وإني أتساءل هل عندما غزا العرب مصر كان سكانها من الشياطين والأشباح أو من أجناس أخرى أو اناس يتكلمون العربية التي لم يعرفوها بعد؟ وما العيب أو الضرر في إحياء لغة قديمة تكلموا بها أجدادنا؟ والعجب كل العجب أننا نتكلمها الآن في حياتنا وطوال اليوم دون أن ندري!!
يقول الدكتور حجاجي ابراهيم في كتابه "بأي لسان نتكلم؟" حيث وضح أن اللغة العربية المصرية تحتوي على أكثر من 3000 كلمة قبطية, حسب ما قام به الباحث عمر اسماعيل والذي قدم بحثه هذا عن اللغة القبطية في المؤتمر السابع لجمعية محبي التراث القبطي بجريدة الأهرام.
وقد أكد السيد عمر اسماعيل "الباحث في الدراسات القبطية" أن اللغة القبطية هي اللغة المصرية القديمة والتي تكلم بها سكان وادي النيل منذ ثلاثة الآف سنة وحتى القرن السابع عشر الميلادي. وذكر سيادته بعض الأمثلة التي توضح دور اللغة القبطية في العامية المصرية مثل:
ضبة: الضبة والمفتاح والضبة كلمة قبطية تعني نوع من الأقفال كالترباس.
شومة: تأتي من شودة وتعني بالقبطية عصاة غليظة.
شوية: من شوا وتعني بالقبطية قليل.
شلشل: وهي طي الملابس على الرقبة في الحداد.
بعبع: وتعني بالقبطية عفريت.
فوطة: وتعني بالقبطية منشفة
اللغة القبطية ( لغة مُفترى عليها )(1-5)
اللغة القبطية( لغة مفترى عليها) (2-5)
اللغة القبطية (لغة مفترى عليها ) (3-5)
|